كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ
(33)
قولُهُ: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا} وَكَمَا حَقَّتْ كَلِمَةُ اللهِ بِوَحْدَانِيَّتِهِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ وَالأُلُوهِيَّةِ، بِأَنَّ الحَقَّ لَيْسَ بَعْدَهُ إِلاَّ الضَّلالُ، لِمَنْ تَنَكَّبَ عَنْهُ، كَذَلِكَ حَقَّتْ وثَبَتَتْ وَوَجَبَتْ كَلِمَةُ اللهِ وَوَعِيدُهُ عَلَى أولئكَ الذِينَ خَرَجُوا مِنْ حَظِيرَةِ الحَقِّ وتمرَّدوا عليه، وَاسْتَمَرُّوا عَلَى شِرْكِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ مَعَ اللهِ آلهَةً أُخْرَى، وكلمةُ اللهِ هي قضاؤهُ وقَدَرُهُ.
قولُهُ: {أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} وقد قضت عليهم كلمةُ اللهِ بأَنَّهُمْ سَيَبْقَونَ أَشْقِيَاءَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِمَا دَعَتْهُمْ إلَيْهِ الرُّسُلُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالإِيمَانِ وَالهُدَى، مَهْمَا تَكُنِ الآيَةُ بَيِّنَةً، وَالحُجَّةُ ظَاهِرَةً، لأنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ إلاَّ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَهُ.
أَخرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ، وأبو الشَيْخِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما في قولِهِ تعالى: "كذلك حَقَّتْ كَلِمَةُ ربِّكَ" يقول: سَبَقَتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ.
وأَخْرَجَ أَبو الشَيْخِ عَنِ الضَحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه، "كذلك حقت" يَقولُ: صَدَقَتْ.
قولُهُ تَعالى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ} الكَافُ في مَحَلِّ نَصْبٍ نَعْتاً لِمَصْدَرٍ محْذوفٍ، والإِشارةُ بِ "ذلك" إلى المَصْدرِ المَفْهومِ مِنْ قولِهِ في آخر الآيةِ التي قبلَها: "تُصْرفون"، أي: مِثْلَ صَرْفِ أُولئكَ عَنِ الحَقِّ بَعْدَ الإِقْرارِ بِهِ في قوله تعالى: {فَسَيَقُولُونَ الله}. وقيلَ هو إِشارةٌ إلى الحقِّ. فإنَّ قولَه: "كذلك" يعني: مِثْلَ ذَلِكَ الحَقِّ حَقَّتْ كلمةُ رَبِّكَ.
قولُهُ: {أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}، أَنَّ: حرفٌ ناسخٌ مشبَّهٌ بالفعل، والهاء، ضميرٌ مُتَّصلٌ في محلِّ نصبِ اسمها، والميم للجمع المُذَكَّر، و "لا" نافية، و "يؤمنون" فعلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ وعلامَةُ رفعِهِ ثُبوتُ النُونِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، وفاعله ضميرُهم وجملةُ "يُؤْمِنونَ" في محَلِّ خبرِ "أنَّ" وجملةُ: "أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ" في محلِّ رَفْعٍ بَدَلاً مِنْ "كَلِمَةُ"، أَيْ: حَقَّ عَليهِمُ انْتِفاءُ الإِيمانِ. أَوْ أَنها في محلِّ رَفْعٍ خَبَراً لَمُبْتَدَأٍ محذوفٍ، أيْ: الأَمْرُ عَدَمُ إيمانِهم. أوْ أَنها في محلِّ نَصْبٍ بَعْدَ إِسقاطِ الجارِّ. أو أَنها في محلِّ جَرٍّ عَلى إِعْمالِهِ محْذوفاً إِذِ الأَصْلُ: لأنَّهم لا يُؤْمنون. والتقديرُ: أَنَّه أُريدَ بالكَلِمَةِ العِدَةُ بالعَذابِ، و "أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ" تَعليلٌ، أَيْ: لأنهم.
قرأ العامَّةُ، نافع، وابْنُ عامِرٍ، وأبو جعفر، وشيبةُ بْنُ نصاح، وغيرُهم: {كلماتُ} بالجمعِ هنا وفي آخرِ السورةِ. وقَرَأَ أَبو عَمْرٍو، وابْنُ كَثيرٍ، وعاصم، وحمزة، والكسائي: "كَلِمَةُ" على الإِفرادِ الذي يُرادُ به الجمعُ في الموضِعين.
وقرأَ العامَّةُ: {أَنهم لا يُؤْمنون} بفتحِ همزةِ "أنَّ"، وقرَأَ ابْنُ أَبي عَبْلَةَ "إنهم لا يُؤْمنون" بِكَسْرِها عَلى الاسْتِئْنافِ وفيها مَعنى التَعْليلِ، وهذِه القراءةُ مُقَوِّيَةٌ للوَجْه الصائرِ إلى التَعْليلِ كما تقدَّمَ في الإعرابِ.