أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ
(2)
قولُهُ ـ جَلَّ شأنُهُ: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} يَسْتَنْكِرُ اللهُ تَعَالَى تَعَجُّبَ الكُفَّارِ مِنْ إِرْسَالِ المُرْسَلِينَ مِنَ البَشَرِ، فَيَقُولُ: عَجِيبٌ أَمْرُ هَؤُلاءِ الكُفَّارِ أَنْ يُنْكِرُوا إِنْزَالَ الوَحْيِ عَلَى رَجُلٍ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَأَنْ يَعُدُّوا ذَلِكَ أَمْراً عَجِيباً يَتَفَكَّهُونَ بِهِ. المرادُ بالناسِ كُفَّارُ مَكَّةَ، وإنَّما عبِّرَ عَنْهم باسْمِ الجِنْسِ مِنْ غَيرِ تَعَرُّضٍ لِكُفْرِهم مَعَ أَنَّهُ المَدارُ لِتَعَجُّبِهم، كَما تُعُرِّضَ لَهُ في قولِهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ: "قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ" لِتَحْقيقِ ما فيهِ الشِرْكَةُ بَيْنَهم وبَينَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وتَعْيينِ مَدارِ التَعَجُّبِ في زَعْمِهم، ثمَّ تَبْيِينِ خَطَئِهم وإظهارِ بُطْلانِ زَعْمِهم، بإيرادِ الإنكارِ والتَعْجيبِ.
فإنَّهُ لمَّا بَعَثَ اللهُ محمَّداً ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، رَسولاً أَنْكَرَتِ العَرَبُ ذَلِكَ، ومَنْ أَنْكَرَ مِنْهم قالوا: اللهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ بَشَراً مِثْلَ محمَّدٍ. فأَنْزَلَ اللهُ تعالى: "أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم" الآية. وأنزلَ في سورة الأنبياء: {وما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إلاَّ رِجالاً نُوحي إليهم} الآية: 7. فلَمَّا كَرَّرَ اللهُ عَليهِمُ الحُجَجَ قالوا: وإذا كانَ بَشَراً فَغَيْرُ محمَّدٍ كانَ أَحَقُّ بالرِسالَةِ: {لولا نُزِلَّ هَذا القُرآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَينِ عَظيمٌ} سورة الزخرف، الآية: 31. يقولون: أَشْرَفُ مِنْ محمَّدٍ يَعنونَ الوَليدَ بْنَ المُغيرَةَ مِنْ مَكَّةَ، ومَسْعودَ بْنَ عَمْرٍو الثَقَفِيَّ مِنَ الطائِفِ، فأَنْزَلَ اللهُ رَدّاً عَليهم: {أَهُمْ يَقْسِمونَ رَحمةَ رَبِّكَ} سورة الزُخْرُف، الآية: 32.
قولُهُ: {أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} فقد كانت مَهَمَّتُهُ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، هِيَ أَنْ يُنْذِرَ الكَافِرِينَ مِنَ الناسِ بِعَذَابِ جَهَنَّمَ، إِذَا اسْتَمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَأَنْ يُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ سَبَقَتْ لَهُمُ السَّعَادَةُ بِمَا قَدَّمُوهُ مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ: مِنْ صَوْمٍ وَصَلاَةٍ وَتَسْبِيحِ وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ، وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ، وَجِهَادٍ لِلْكَافِرِينَ.
قولُهُ: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أَيْ: سَابِقَةَ فَضْلٍ وَمَنْزِلَةً رَفِيعَةً. فلمَّا كانَ السَعْيُ والسَّبْقُ بالقَدَمِ سُمِّي السَّعْيُ المحمودُ قَدَماً، كَما سُمِّيَتِ اليَدُ نِعْمَةً لمَّا كانت صادِرةً عَنْها، وأُضيفَ إلى الصِدْقِ دَلالةً على فَضْلِهِ، وهوَ مِنْ بابِ فلانُ رَجُلُ صِدْقٍ، ورَجُلُ سُوءٍ.
وقيلَ: هوَ سابِقَةُ الخيرِ التي قَدَّموها، ومِنْهُ قوْلُ الشاعر الأُمَوِيِّ وَضَّاحِ اليَمَنِ:
مالِكٌ وَضَّاحُ دائمَ الغَزَلِ ............... أَلَسْتَ تَخْشَى تَقارُبَ الأَجَلِصَلِّ لِذي العَرْشِ واتَّخِذْ قَدَماً .............. تُنْجيك يَوْمَ العِثارِ والزَّلَلِوقيل: هوَ التَقَدُّمُ في الشَرَفِ، ومِنْهُ قولُ العَجَّاجِ:
ذَلَّ بَنُو العَوَّامِ مِنْ آلِ الحَكَمْ ............ وتركوا المُلْكَ لمَلْكٍ ذي قَدَمْأَيْ: ذِي تَقَدُّمٍ وَشَرَفٍ.
وأَخرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشيخِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، في قولِهِ: {وبَشِّرِ الذين آمَنوا أَنَّ لهم قدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهم} قال: ما سَبَقَ لهم مِنَ السَعادَةِ في الذِكْرِ الأَوَّلِ. وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنهُ أيضاً، قال: أَجْراً حَسَناً بما قَدَّموا مِنْ أَعْمالهم. وأَخْرَجَ أَبو الشَيْخِ، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: القَدَمُ هُوَ العَمَلُ الذي قَدَّموا. قالَ اللهُ تعالى: {ونكتب ما قدَّموا وآثارَهم} سورة يس، الآية: 12. والآثارُ مَمْشاهم، قال: مَشَى رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ بينَ اسْطُوانَتَينِ مِنْ مَسْجِدِهم، ثمَّ قال: ((هذا أَثَرٌ مَكْتوبٌ)). وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وأَبو الشَيْخِ عَنِ الرَبيعِ ـ رضي اللهُ عنه، في قولِهِ: "قدم صدقٍ" قال: ثَوابَ صِدْقٍ. وأَخْرَجَ ابْنُ أبي حاتمٍ وأَبو الشيخِ عَنِ السُدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: يَقْدِمونَ عَلَيْهِ عِنْدَ رَبِّهم. وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ وأَبو الشَيْخِ عَنِ الحَسَنِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في قولِهِ: "أنَّ لهم قَدَمَ صِدْقٍ عَنْدَ رَبَّهم" قال: محمَّدٌ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، شَفيعٌ لهمْ يومَ القيامَةِ. وأَخْرَجَ ابْنَ مِرْدُوَيْهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبي طالِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مثلَهُ. وأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُويْهِ عَن أبي سَعيدٍ الخِدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مثلَ ذلك.
قولُهُ: { قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ } أَمَّا الكَافِرُونَ فَقَدْ قَالُوا: إِنَّ هَذَا الرَّسُولَ لَسَاحِرٌ ظَاهِرُ الِّسْحِر مُبِينٌ، يُؤَثِّرُ فِي النُّفُوسِ، وَيَجْذِبُها إِلى الإِيمَانِ بِاللهِ، وَاحْتِقَارِ الحَيَاةِ وَلَذَّاتِهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَهُمُ الكَاذِبُونَ فِي ذَلِكَ.
وجاءَ في سَبَبِ نُزولِ هذِهِ الآيَةِ المُبارَكَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا بَعَثَ مُحَمَّداً ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهَِ وسَلَّمَ، رَسُولاً أَنْكَرَتِ العَرَبُ ذَلِكَ، أَوْ مَنْ أَنْكَرَهُ مِنْهُمْ، فَقَالُوا: اللهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ بَشَراً مِثْلَ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى قَوْلَهُ: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً ...). أخْرَجَهُ ابْنُ جَريرٍ وابْنُ أبي حاتمٍ وأبو الشَيْخِ، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ.
قولُهُ تَعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا} الهمزة للاستفهامِ الإِنكاريِّ، و "أنْ أَوْحَيْنا" اسمُها. و "عَجَباً" خَبرُها. و "للنّاس" مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ على أَنَّهُ حالٌ مِنْ "عَجَباً" لأنَّهُ في الأَصْلِ صِفَةٌ لَهُ، أَوْ مُتَعلِّقٌ بِ "عَجَباً"، ولا يَضُرُّ كونُه مصدراً لأنَّهُ يُتَّسَعُ في الظَرْفِ وعَديلِهِ ما لا يُتَّسَعُ في غيرِهما. وقيلَ: لأنَّ "عجباً" مَصْدرٌ واقعٌ مَوْقِعَ اسْمِ الفاعِلِ، أَوِ اسِمِ المَفْعولِ، ومَتى كانَ كذلكَ جازَ تَقديمُ مَعْمولِهِ. وقيلَ: هُو مُتَعَلِّقٌ بِ "كان" الناقِصَةِ، وهذا عَلى رَأْيِ مَنْ يُجيزُ فيها ذَلِكَ. وهذا مُرَتَّبٌ على الخِلافِ في دَلالَةِ "كانَ" الناقِصَةِ على الحَدَثِ، فإن قُلْنا: إنَّها تَدُلُّ على ذَلِكَ فيَجوزُ وإلاَّ فلا، وقيلَ: هُو مُتَعَلِّقٌ بمَحْذوفٍ عَلى التَبْيُّنِ، والتَقْديرُ في الآيَةِ: أَكَانَ إيحاؤنا إلى رَجُلٍ مِنْهمْ عَجَباً لهم. و "منهم" صِفَةٌ لِ "رَجُلٍ".
قولُهُ: {أَنْ أَنذِرِ} أَنْ: يجوزُ أَنْ تَكونَ التَفْسيرِيَّةَ. ويجوزُ فيها أَنْ تَكونَ المَصْدَرِيَّةَ، فيكونُ فيها حِينئذٍ قولانِ، أَوَّلُهُما: أَنْ تَجْعَلَها المُخَفَّفَةَ مِنَ الثَقيلةِ، واسمَها ضَميرَ الأَمْرِ والشَأْنِ محذوفٌ. وفيهِ أنَّ أَخْبارَ هَذِهِ الأَحْرُفِ لا تَكونُ جمْلَةً طَلَبِيَّةً، حَتى لَوْ وَرَدَ ما يُوهِمُ ذلك، ويُؤوَّلُ عَلى إضْمارِ القولِ، كَقَوْلِ مُنْقِذِ بْنِ الطَمَّاحِ الأَسَدِيِّ المُلَقَّبِ بالجُمَيْحِ:
ولو أَصابَتْ لقالَتْ وَهْي صادقةٌ ....... إنَّ الرياضةَ لا تُنْصِبْكَ للشِّيبِوقول أبو مُكْعِتِ الأَسَديُّ: إنَّ الذين قتلتُمْ أمسِ سَيِّدَهُمْ .......... لا تحْسَبوا لَيْلَهم عَنْ لَيْلِكم ناماأَبْو مُكْعِتٍ، بِضَمِّ الميمِ وسُكونِ الكافِ وكَسْرِ العَينِ، بوزنِ "مُحْسِن"، والكَعْتُ. القَصيرُ، ورَجُلٌ كَعْتٌ وامرَأَةٌ كَعْتَة، وأَكْعَتَ الرَّجُلُ إِكْعَاتاً إِذا انْطَلَقَ مُسْرِعاً. أَكْعَتَ: قَعَدَ ضِدٌّ. وهو شاعرٌ مِنْ بَني أَسَدٍ، واسمُه مُنْقِذُ بنُ خُنَيْسِ، وقيل: الحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو، قَدِمَ على رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وأَنْشَدَهُ شِعْراً. وسبَبُ هذا البيتِ كما جاءَ في خِزانَةِ الأَدَبِ: أنَّه خَرَجَ غُلامٌ مِنْ بَني سَعْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وغُلامٌ مِنْ بَني مالِكِ بْنِ مَالِكٍ في إِبِلٍ لهُما، ومَعَ السَعْدِيِّ سَيْفٌ لَهُ، فقالَ المالِكِيُّ: واللهِ ما في سَيْفِكَ هَذا خَيْرٌ، لَوْ ضَرَبْتَ بِهِ عُنُقي ما قَطَعَهُ. قالَ: فَمُدَّ عُنُقَكَ. فَفَعَلَ فَضَرَبَ السَعْدِيُّ عُنُقَهُ فَقَطَعَهُ. فخَرَجَتْ بَنُو مالِكِ بْنِ مالِكٍ وأَخَذوا السَعْدِيَّ فَقَتَلوهُ، فاحْتَرَبَتْ بَنو سَعْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ وبَنو مَالِكِ بْنِ مَالِكٍ، فَمَشَتِ السُفَراءُ بَيْنَهم، فقالتْ بَنو سعدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ: لا نَرْضَى حَتى نُعْطى مئةً مِنْ صاحِبِنا وتُعْطَى بَنُو مَالِكٍ سَبْعينَ. فغَضِبَ لهمْ بَنُو سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ فَقالَ أَبو مُكْعِتٍ أَخُو بَني سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ:
إنَّ الذين قَتَلْتُمْ أَمْسِ سَيِّدَهم ....... لا تحسَبُوا لَيْلَهم عَنْ لَيْلِكُمْ نَاما مَنْ يُولهم صالحاً نُمْسِكْ بجانِبِهِ ........... ومَنْ يُضِمْهُمْ فإيَّانا إذاً ضَاما
أَدّوا الذي نَقَضَتْ سَبْعين مِنْ مئةٍ ........ أَوِ ابْعَثوا حَكَماً بالحَقِّ عَلاَّما
وأَيْضاً فإنَّ الخبرَ في هذا البابِ إذا وَقَعَ جملةً فِعْلِيَّة فلا بُدَّ مِنَ الفَصْلِ بأشياءَ ذكرتُها في المائدة، ولكن ذلك الفاصلَ هنا متعذَّرٌ.
والقولُ الثاني: أَنها التي بِصَدَدِ أَنْ تَنْصِبَ الفِعْلَ المُضارِعَ، وهيَ تُوصَلُ بالفِعْلِ المُتَصَرِّفِ مُطْلَقاً نحو: كَتَبْتُ إليْهِ بِأَنْ قُمْ.
قولُهُ: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ} أنَّ: وما في حَيِّزِها هِيَ المُبَشَّرُ بها، أَيْ: بَشِّرْهُمْ باسْتِقْرارِ قَدَمِ صِدْقٍ، فَحُذِفَتِ الباءُ، ومن ذلك قولُ ذي الرّمَّةِ: لهمْ قَدَمٌ لا يُنْكِرُ الناسُ أَنّها ..... مَعَ الحَسَبِ العادي طَمَّتْ على البَحْرِ
و "لهم" خبرٌ مُقدَّمٌ، و "قَدَمَ" اسمُها، و "عند ربهم" صفةٌ ل "قَدَم". ومَنْ جَوَّزَ أَنْ يَتَقَدَّمَ مَعْمولُ خَبرِ "أنَّ" على اسمِها إذا كانَ حَرْفَ جَرٍّ كَقولِ الشاعر:
فلا تَلْحَني فيها فإنَّ بحبِّها ............. أخاك مصابُ القلب جَمٌّ بَلابلُهْ
ف "بحبِّها" متعلقٌ بِ "مُصاب"، وقدْ تقدَّم على الاسم فكذلك "لهم" يجوزُ أَنْ يَكونَ مُتَعَلِّقاً بِ "عِنْدَ رَبِّهم" لِما تَضَمَّنَ مِنَ الاسْتِقْرارِ، ويَكونُ "عند ربهم" هُو الخبر.
قرأَ العامَّةُ: {عَجباً} بالنصبِ، وقد تقدَّمَ توجيهُها، وقَرَأَ عَبْدُ اللهِ ابْنُ مَسْعودٍ "عَجَبٌ" بالرفعِ. وفيها تخريجان، أَظْهَرُهما: أَنَّ "كان" هيَ التامَّةُ وليستِ الناقِصَةَ، أَيْ: أُحْدِثَ للناسِ عَجَبٌ، و "أَنْ أَوْحَيْنا" مُتَعَلِّقٌ بِ "عَجَبٌ" على حَذْفِ لامِ العِلَّةِ، أيْ: عَجَبٌ لأَِنْ أَوْحَيْنا، أَوْ يَكونُ على حَذْفِ "مِنْ"، أيْ: عجبٌ مِنْ أَنْ أَوْحَيْنا.
والتخريجُ الثاني: أَنْ تَكونَ "كانَ" هي الناقِصَةَ، ويَكون قدْ جَعَلَ
اسمَها النَّكرةَ، وخَبرَها المعرِفَةَ، ومن ذلك قولُ حسّانَ بنِ ثابتٍ ـ رضي اللهُ عنه:
كأَنَّ سَبيئةً مِنْ بيت رَأْسٍ ................. يكونُ مزاجَها عَسَلٌ وماءُوالأَجْوَدُ أَنْ تكونَ "كان" التامَّةَ، وأنْ يكونَ قولُهُ: "أنْ أَوْحَيْنا" بَدَلَ اشتمالٍ مِنْ "عجبٌ" أَوْ بدلَ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ؛ لأنَّه نفسُ العَجَبِ إنّما للمُبالغةِ.
وقرَأَ العامَّةُ: {لَسَاحِر}، فيكون اسْمُ الإشارَةِ "هذا" إشارةً للرَسولِ، وقَرأَ نافعٌ وأَبو عَمْرو وابْنُ عامرٍ "لَسِحْرٌ"، فَيَكُونَ "هذا" إشارةً للقُرْآنِ، ولكنْ لا بُدَّ مِنْ تَأويلٍ على قولِنا: إنَّ المُشارَ إليْهِ هُوَ النَبيُّ ـ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أَيْ: ذو سِحْرٍ، أَوْ أنَهم جَعَلوا النبيَّ سِحْراً على وجه المُبالَغَةِ. وأَمَّا على القراءةِ الثانيةِ فالإِشارةُ للقرآنِ فقط.