وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ
(43)
قولُهُ: {وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ} وَمِنْهُمْ مَنْ يُوَجِّهُ إِلَيْكَ نَظَرَهُ، وَلَكِنَّهُ لاَ يُبْصِرُ مَا آتَاكَ اللهُ مِنْ نُورِ الإِيمَانِ، وَالخُلُقِ العَظِيمِ، وَالدَّلاَلَةِ القَاطِعَةِ عَلَى نُبُوَّتِكَ. ويُعايِنُ هذه الدَلائلَ الواضِحَةَ ولكنْ لا يَهْتَدي بها كالأَعْمَى.
قولُهُ: {أَفَأَنْتَ تَهْدِي العُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ} فَكَمَا أَنَّكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ الكريمُ لاَ تَقْدِرُ عَلَى هِدَايَةِ العُمْيِ بِدَلاَئِلَ البَصَرِ الحِسِّيَّةِ، كَذَلِكَ فِإِنَّكَ لاَ تَقْدِرُ عَلَى هِدَايَتِهِمْ بِالدَّلاَئِلِ العَقْلِيَّةِ، إِذَا كَانُوا فَاقِدِينَ لِنِعْمَةِ البَصِيرَةِ التِي تُدْرِكُها. أَيْ: أَتَسْتَطيعُ هدايتَهم وإنْ انْضَمَّ إلى عَدَمِ البَصَرِ عَدَمُ البَصيرَةِ؟ فإنَّ المَقْصودَ مِنَ الأَبْصارِ هوَ الاعتبارُ والاسْتِبْصارُ، والعُمْدَةُ في ذَلِكَ هِيَ البَصيرةُ، ولِذلِكَ يَحْدُسُ الأَعْمى المُسْتَبْصِرُ ويَفَطَّنُ لِما لا يستطيعُ البَصيرُ الأَحمقُ إدْراكَه، فلا يُقالُ: كيفَ أَثْبَتَ لهُمُ النَظَرَ والإبْصارَ أَوَّلاً ونَفى عَنْهُم ثانياً. وإنَّما قالَ: "تَهْدِى العُمْيَ" تأكيداً لإنْكار هِدايتِهم وإبرازاً لِوُقوعِها في مَعْرِضِ الاسْتِحالةِ، وقد أَكَّدَ ذَلِكَ بقولِهِ: "وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ".
قولُهُ تعالى: {ولَو كانوا لا يبصرون} جوابُ "لَوْ" محذوفٌ لِدَلالَةِ قولِهِ تَعالى: "تَهْدِى العمى" عَلَيْه والجملةُ مَعْطوفَةٌ عَلى جملَةٍ مُقَدَّرَةٍ مُقابِلَةٍ لها في الفَحْوَى وهي في مَوْضِعِ الحالِ مِنْ مَفْعولِ الفِعلِ السابقِ، أَيْ: أَفَأَنْتَ تَهْدي العُمْيَ على كلِّ حالٍ مَفْروضٍ، لَوْ كانُوا يُبْصِرونَ ولَوْ كانوا لا يُبْصِرون، وقدْ حُذِفَتِ الأولى حَذْفاً مُطَّرِداً لِدَلالَةِ الثانيةِ عَلَيْها دَلالةً واضِحَةً فإنَّ الشَيْءَ إذا تَحَقَّقَ عِنْدَ تَحَقُّقِ المانعِ، أَوِ المانِعِ القَوِيِّ، فَلأَنْ يَتَحَقَّقَ عِنْدَ عَدَمِه، أَوْ عِنْدَ تَحَقُّقِ المانِعِ الضَعيفِ أَوْلى، وعلى ذلِكَ يَدورُ ما في "لو" و "أَنْ" الوَصْلِيَّتَينِ مِنَ التَأْكِيدِ. وما قيلَ هنا في جواب "لو" يقالُ عناك في جوابها مِنْ قوله في الآيةِ السابقةِ: {ولو كانوا لا يَسْمَعونَ}.