قولُه ـ تعالى شأنُهُ" {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} هُمُ الذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالبَعْثِ وَلِقَاءِ اللهِ فِي الآخِرَةِ، فلا يخافونَ البعثَ بَعْدَ المَوْتِ؛ ولا يَرْجونَ ثوابَ الله في الحياةِ الآخرة، لأنهم لا يؤمنون به أصلاً، وهو اسْتِئْنافُ وعيدٍ للذين لم يؤمنوا بالبَعْثِ، ولا فَكَّروا في الحَياةِ الآخِرَةِ، ولم يَنْظُروا في الآيات، وبيانٌ لمآلِ أَمْرِ مَنْ كَفَرَ باللهِ واليومِ الآخِرِ المُشَارِ إلَيهِْ فيما سَبَقَ مِنْ آيٍ. وجيءَ بالموصولِ للإيماءِ إلى أَنَّ الصِلَةَ عِلَّةٌ في حُصولِ الخبر.
والرجاءُ يَكونُ بمعنى الخوفِ والطَمَعَ؛ أَيْ لا يخافونَ عِقاباً، ولا يَرْجونَ ثواباً. فمنَ الأولِ قولُ الشاعر أبي ذُؤيبٍ الهُذَليِّ:
إذا لَسَعَتْه النحلُ لَم يَرْجُ لَسْعَها ....... وخالَفَها في بَيْتِ نُوبٍ عَواسلِ
أَيْ: لم يَخَفْ، ومنَ الثاني قولُ سَوَّارِ بْنِ المُضَرِّبِ السَّعْديِّ وقد هربَ من الحجاجِ وأبى اللَّحاقَ بجيش المهلَّبِ بنِ أبي صُفْرَةَ:
أَيَرْجُو بَنُو مَروانَ سَمْعي وطاعَتي .......... وَقَوْمي تميمٌ والفَلاةُ ورائيا
والمُرادُ بِلِقائِهِ إمَّا الرُجوعُ إليْْهِ تَعالى بالبَعْثِ أَوْ لِقاءُ الحِسابِ كَما في قولِهِ تعالى: {إِنّي ظَنَنتُ أَنّى مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} سورة الحاقّة، الآية: 20. وفيهِ مَعِ الالْتِفاتِ إلى ضَميرِ الجَلالَةِ مِنْ تهويل الأَمْرِ ما لا يَخْفَى.
أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ وأَبو الشَيْخِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ في قولِهِ تعالى: "إنَّ الذين لا يَرْجونَ لِقاءَنا ورَضُوا بالحياة الدنيا" الآية. قال: هؤلاءِ أَهْلُ الكُفْرِ.
قولُهُ: {وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} آثَروا الأَدْنى الخَسيسَ على الأَعلى النَفِيسِ، وَاعْتَقَدُوا وَاهِمِينَ أَنَّ الحَيَاةَ الدُّنْيَا هِيَ مُنْتَهَاهُمْ، وَلَيْسَ بَعْدَهَا حَيَاةٌ، فَاطْمَأَنُّوا بِهَا، أَيْ: سَكَنُوا فيها سُكونَ مَنْ لا بَراحَ لَهُ مِنْها آمِنينَ مِنِ المُنَغِّصاتِ والمُزعجاتِ. مُكِبِّينَ عَلَيْها، قاصرينَ هِمَمَهم على لذائذها وزَخارفِها مِنْ غَيرِ صارفٍ يَلويهم، ولا عاطفٍ يَثنيهم، واختيارُ صِيغةِ الماضي في الصِلَتَيْنِ الأَخِيرَتَيْنِ للدِلالَةِ على التَحَقُّقِ وصِيِغَةَ المُسْتَقْبَلِ في الأُولى للإيذان باستمرارِ عدَمِ الرَّجاءِ.
أَخرج أبو الشيخ عن يوسُفَ بْنِ أَسْباط قال: الدنيا دار نعيم الظالمين. وقالَ عَلِيُّ بْنَ أَبي طالِبٍ كرَّمَ اللهُ وجهَهُ: الدنيا جيفة فمن أَرادَها فَلْيَصْبِرْ علىَ مُخَالَطَةِ الكِلابِ.
قولُه: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا: المفصلةِ في صَحائفِ الأَكوانِ الدَّالَةِ عَلَى البَعْثِ وَالحِسَابِ حَسْبَ ما أُشِيرَ إلى بَعْضِها، أَوْ آياتِنا المُنَزَّلةِ المُنَبِّهَةِ على الاسْتِشْهادِ بها، المُتَّفِقَةِ مَعَها في الدَّلالَةِ عَلى حَقيقَةِ ما لا يَرْجُونَهُ مِنَ اللِّقاءِ المُتَرَتِّبِ على البَعْثِ، وعَلى بُطْلانِ ما رَضُوا بِهِ، واطْمَأَنُّوا إِلَيْهِ مِنَ الحياةِ الدُنْيا، وهم "غافِلونَ" عنها فلا يَتَفَكَّرونَ فيها أَصْلاً، وإنْ نُبِّهوا على ذَلكَ، وذُكِّروا بِأَنْواعِ القَوارِعِ، ذلك لانْهِماكِهم فيما يَصُدُّهم عَنْها مِنَ الأَحْوالِ المَعْدودَةِ، وَلا يَعْمَلُون لِمَا بَعْدَهَا.
وتكريرُ المَوصُولِ "الذينَ" لجَعْلِ صِلَتِهِ جملةً اسمِيَّةً مُنْبِئَةً عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنِ اسْتِمرارِ الغَفْلةِ ودوامِها. وتَنْزيلُ التَغايُرِ الوَصْفِيِّ مَنْزِلَةَ التَغَايُرِ الذاتيِّ إِيذاناً بِمُغايَرَةِ الوَصْفِ الأَخيرِ للأوْصافِ الأُوَلِ واسْتِقْلالِهِ باسْتِتْباعِ العَذَابِ.
هذا وأَما ما قيلَ مِنْ أَنَّ العَطْفَ إمَّا لِتَغايُرِ الوَصْفَينِ والتَنْبيهِ على أَنَّ الوَعيدَ عَلى الجَمْعِ بَينَ الذُهولِ عَنِ الآياتِ رَأْساً والانْهِماكِ في الشَهَواتِ بحيثُ لا تَخْطُرُ الآخِرةُ بِبالِهم أَصْلاً. وإمَّا لِتَغايُرِ الفَريقَينِ. والمُرادُ بالأَوَّلَيْنِ مَنْ أَنْكَرَ البَعْثَ ولمْ يُرِدْ إلاَّ الحياةَ الدُنيا، وبالآخِرَيْنِ مَنْ أَلهاهُ حُبُّ العاجِلِ عَنِ التَأَمُّلِ في الآجِلِ، فكَلامٌ ناءٍ عَنِ السَّدادِ.
قولُهُ تَعالى: {واطْمَأنُّوا} يَجوزُ أَنْ يَكونَ عَطْفاً عَلى الصِلَةِ، وهو الظاهِرُ، ويجوزُ أَنْ تَكونَ الواوُ للحالِ، وحينئذٍ هناك "قد" مقدَّرةٌ، أَيْ: وَقَدِ اطْمَأَنُّوا.
وقولُهُ: {والذينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافلون} الذين: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ مِنْ بابِ عَطْفِ الصِفاتِ، بمَعْنى أَنَّهم جامعونَ بَينَ عَدَمِ رَجاءِ لقاءِ اللهِ، وبَينَ الغَفْلَةِ عَنْ الآياتِ، ويجوزُ أَنْ يَكونَ هَذا الموصولُ غيرَ الأَوَّلِ، فَيَكونَ عَطْفاً عَلى اسْمِ "إنَّ" أَيْ: إنَّ الذينَ لا يَرْجُونَ، وإنَّ الذينَ هُمْ عنْ آياتِنا غافلونَ. والجارُّ "عن آياتنا" متعلِّقُ بالخبرِ "غافلون". وجملة: "هم عن آياتنا غافلون" صِلَةُ المَوْصولِ الاسمي "الذين".