إلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ
(4)
قولُهُ ـ تباركت أسماؤه: {ِإلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ الخَلاَّقُ العَظِيمُ، وَأَنَّ الخَلاَئِقَ تَرْجِعُ إِلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وفيها رَجاءٌ عَظيمٌ، وأَيُّ شَيْءٍ يَعْدِلُ رُجوعَكَ إلى ربِّك الرَّحيمِ فيرْحَمَ ضَعْفَكَ، ويَتَجاوَزَ عَنْ تَقْصيرِكِ، وإلى مَولاكَ الكريمِ، والكريمُ إذا قَدَرَ عَفا وسامحَ وغَفَرَ، وبَدَّلَ سَيِّئَتَكَ حَسَنةًَ إذا ما تُبْتَ إليْهِ وارْتجعَتَ، وإلى جنابِهِ العَظِيمِ الْتَجَأْتَ، وبِرَسولِهِ الرؤوفِ تَشَفَّعْتَ، فهوَ الذي أَرْسَلَهُ رَحمةً للعالمين، وأَعْطاهُ مزيَّةَ الشَفاعَةِ بالمُذْنِبين، إذا هم بِهِ آمنوا، وإلى مولاهم العظيمِ أَنابوا ولَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أَحَبّوا، و "جميعاً" أيْ المؤمِنَ والكافِرَ، والطائعَ والعاصيَ، وهوَ سبحانَهُ الحَكَمُ العَدْلُ، فلا يُضَيِّعُ مثالَ ذرَّةٍ، فإذا كنتَ قدْ تَعَرَّضْتَ لِظُلْمٍ في الدُنْيا، ولو مثقالَ ذرةٍ، وصَلَكَ حَقُّكَ في الآخِرَةِ واقتُصََّ لك من ظالمكَ كائناً مَنْ كان، فالجميعُ راجِعٌ إلَيْهِ وماثِلٌ بَينَ يَدَيْهِ، لا حولَ له ولا قوّةَ، ولا زبانية ولا وَزَرَ ولا عَبيدَ ولا خَدَمَ ولا حَشَمَ. فما أَحْسَنَهُ مِنْ رُجوعٍ، وما أَحْلاها مِنْ عاقِبَةٍ، أَنْ يَصيرَ أَمْرَكَ إلى مَوْلاكَ الذي أحَبَكَ فأحببتَه، قال تعالى: {يحبُّهم ويحبونَه} سورة المائدة الآية: 54، فإذا رَأَيْتَ أَنَّكَ تُحِبُّهُ فاعلَمْ أَنَّ مَحَبَّتَهُ هِيَ إليكَ السابقَةُ، فإنَّ محبَّتَكَ لمحبَّتِه لاحِقَةٌ، وإذا أحببتَهُ، فقد أحببتَ رسولَهُ الذي جاءك بهذا الخير العميمِ مِنْ عنده تعالى، وإذاً فأنت في معيتِهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ، وجِوارِهِ. ألم يَقُلْ لثوبان ـ رضي اللهُ عنه: ((أَنْتَ مَعَ مَنْ أحببتَ))؟.
قولُهُ: {وَعْدَ اللهِ حَقًّا} وَهَذَا وَعْدٌ مِنْهُ حَقٌّ لاَ مِرْيَةَ فِيهِ، وَلاَ شَكَّ. ومَنْ أصدقُ من اللهِ قيلاً، وأنجزَ وعداً، فإنَّ المرءَ قد يَرجِعُ بوعدٍ كان قَطَعه على نفسِه لتغيرٍ طرأَ على حالِهِ، أَوْ عَجْزٍ في قُدْرَتِهِ على إنجازِ ما وعدَ بِهِ، وهذا كلُّه من أحوالِ المخلوقات وليس من صفات الخالقِ، ولذلك فقد قالَ "حَقّاً" فأتى بالمصدرِ زيادةً في التأكيد، ولإشاعة الاطمئنان في نفوسِ عباده، حتى لا يتسرَّب إليها الشكُّ بأنَّ ذلك حاصلٌ منه سبحانه، لا مَحالة.
قولُهُ: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} فيهِ تَذْكيرٌ لَنا بِبِدْءِ الخَلْقِ لِنَطْمَئِنَّ إلى أَنَّ ذَلِكَ الرُجوعَ الموعودَ هيِّنٌ عَلَيْهِ سُبحانَهُ، وليس بالعَسيرِ لأنَّ الذي يَفْعَلُ الفَعْلَ أَوَّل مَرَّةٍ عندنا يَكونُ تَكْرارُهُ أَسْهَلَ عَليهِ، إنَّما الخالقُ ـ سُبْحانَهُ وتعالى، يَسْتَوي عنده البَدْءُ والإعادةُ، فإنَّما أَمْرُهُ إذا أَرادَ شَيْئاً أنْ يَقولَ لَهُ كُنْ فَيَكون. وإنَّهُ تَعَالَى لاَ يَتْرُكُ مِنْهُمْ أَحَداً حَتَّى يُعِيدَهُ كَمَا كَانَ بَدَأَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ.
قولُهُ: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} وَفِي يَوْمِ القِيَامَةِ يَجْزِي الَّذِينَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، مِنَ المُؤْمِنِينَ، بِالعَدْلِ فلا ظُلْمَ ولا هضم مهما كان العملُ صغيراً أو كبيراً، ولذلك علينا ألاَّ نحقِرَ من المعروفِ شيئاً مهما صَغُرَ في أَعْيُنِنا، فقد يكون فيه رضا الله لما فيه من نفعٍ قد نجهله أو نغفلَ عنه، كما علينا ألا نَستَسْهِلَ شيئاً منْ مَعْصِيَةِ اللهِ فَقَدْ يَكونُ فيها سَخَطُهُ. فإنَّ اللهَ سَيُوَفِّي كلاًّ جَزَاءَهُ وَسيَزِيدُ الممُحْسِنين مِنْ فَضْلِهِ.
قولُهُ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} وهي قمة العدلِ أنْ يجزيَ المسيءَ بإساءتِهِ كَمَا يَجْزِي المحسنَ على إحسانِهِ، وإلاّ فما الفرقُ بين الحسنةِ والسيئةِ، فحاشا لله أَنْ يضيِّعَ مثقالَ ذرةٍ منْ خيرٍ كما حاشا لله أن يُغْفِلَ مثقال ذرةٍ من شرٍّ، وإذا كان هذا لا يكونُ من عاقلٍ عندنا فكيف يجوزُ في حقِّه تعالى؟ فإنَّ الذِينَ كَفَرُوا سيجازيهم اللهُ تعالى عَلَى كُفْرِهِمْ بِعَدْلِهِ التَّامِّ، وَسَيَكُونُ شَرَابُهُمْ مِنْ مَاءٍ حميمٍ، أيْ شَدِيدِ الحَرَارَةِ يقطِّعُ أَمْعاءَهم، في مُقابِلِ شَرابٍ بارِدٍ سائغ المذاقِ للذين آمنوا، مِنْ نهرِ الكوثرِ أو العَسَلِ أو كلِّ ما تشتهيهِ أَنْفُسُهم وتلذُّ به أَذْواقُهم، وَسَيُعَذِّبُ الكافرين عَذَاباً أَلِيماً على كفرهم، في مقابلِ نعيمٍ مقيمٍ للمؤمنين على إيمانه. وذلك لتظهرُ ميزةُ الإيمان على الكفر،
قولُهُ تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} إليهِ: خبرٌ مقدَّمٌ، تقدَّمَ ليُفيدَ قصْرَ الرُّجُوعِ إلى ذاتِهِ العَلِيَّةِ لا إِلى أَحَدٍ سِواهُ، و "مَرجِعُكم" مبتدأٌ مؤخَّرٌ، وهوَ مَصْدَرٌ مِيميٌّ وليس اسْمَ مَكانٍ خِلافاً لمنْ وَهِمَ ذَلِكَ فيه. و "جَمِيعاً" حالٌ مِنَ الضَميرِ المجرورِ لِكَوْنِهِ فاعلاً في المَعنى، أَيْ إِلَيْهَ تَعالى رُجوعُكم مُجْتَمِعين بالبعث يومَ القيامة، والجملةُ تَعْليلٌ لِوُجُوبِ العِبادَةِ.
قولُهُ: {وَعْدَ اللهِ} مَنْصوبٌ على المَصْدَرِ المُؤَكِّدِ لمضمونِ الجُمْلَةِ السابِقَةِ، لأنَّ مَعْنى "إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ" وَعَدَكُم بِذَلكَ. ويجوزُ أَنْ يَكونَ نَصْباً على المَصْدَرِيَّةِ لِفِعْلٍ محذوفٍ، أيْ: وَعدَ اللهِ وَعْداً.
وقوله: {حَقّاً} مصدرٌ آخرُ مؤكِّدٌ لمعنى هذا الوعد، وناصبُه مضمر، أي: أَحُقُّ ذلك حقاً. وقيل: انتصب "حقاً" ب "وَعْدَ" على تقدير "في"، أي: وَعْدَ الله في حقِّ، يعني على التشبيهِ بالظَرْفِ. وقال الأخفش الصغير: التقدير: وقتَ حق. وأَنْشَدَ لابْنِ الدُّمَيْنة:
أحقاً عبادَ الله أنْ لَسْتُ ذاهباً .............. ولا والِجاً إلا عليَّ رقيبُ
قوله: {إِنَّهُ يَبْدَأُ} فيه وجوهٌ، أَحَدُها: أَن تَكونَ فاعلاً بما نُصِبَ به "حقاً"، أيْ: حَقَّ حَقَّاً بَدْءُ الخلق، ثم إعادتُه، كقولِ الشاعرِ:
أحقاً عبادَ الله أَنْ لستُ جائِياً ............... وَلاَ ذَاهِباً إلاّ عَلَيَّ رَقِيبُ
البيت. وهو مذهبُ الفراء فإنه قال: والتقدير: يحقُّ أنه يبدأ الخلق.
الثاني: أَنَّهُ مَنصوبٌ بالفعلِ الذي نَصَبَ "وعد الله" أي: وَعَدَ الله تعالى بَدْء الخلق ثم إعادتَه، والمعنى إعادة الخلق بعد بَدْئه.
الثالث: أَنَّهُ منصوبٌ بنزع الخافض، أي: على حَذْف لامِ الجَرِّ.
الرابع: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ "وَعْدَ الله".
الخامِسُ: أَنَّه مَرفوعٌ بالمَصْدَرِ المُنَوَّنِ "حقّاً"، وهذا إنَّما يتأتى بجَعْل "حقاً" غيرَ مُؤَكّدٍ؛ لأنَّ المَصْدَرَ المؤكّدَ لا عَمَلَ لَهُ إلاَّ إذا نابَ عَنْ فعلِه.
السادس: أَنْ يَكونَ "حقاً" مُشَبَّهاً بالظَرْفِ خَبراً مُقَدَّماً، و "أنَّه" في محلِّ رفعٍ مُبْتَدأً مُؤخَّراً، كقولهم: أَحَقاً أَنَّكَ ذاهبٌ قالوا: تقديره: أَفي حقٍ ذهابُك.
أمَّا على قراءةِ ابْنِ أَبي عَبْلَةَ: "حَقٌّ أَنَّهُ" بِرَفْعِ "حقٌّ" وفَتْحِ "أنَّ" على الابتداء والخبر. فقد قالَ الشيخ أبو حيّانٍ الأندلُسيُّ: وكونُ "حَقٌّ" خبرَ مبتدأ، و "أنه" هُوَ المُبْتَدأ، هُوَ الوَجْهُ في الإِعراب، كما تَقولُ: صَحيحٌ أَنَّكَ تخرُجُ. لأنَّ اسْمَ "أنَّ" مَعْرِفَةٌ، والذي تقدَّمَها في هذا المِثالِ نَكِرَةٌ. فإنَّ ظاهرَ عبارتِهِ يُشْعِرُ بجوازِ العَكْسِ، وهذا قَدْ وَرَدَ في بابِ "إنَّ" كَما في قولِ الفَرَزْدَقِ:
وإنَّ حراماً أَنْ أَسُبَّ مُجاشعاً ............ بآبائيَ الشُّمِّ الكرامِ الخَضَارمِ
وكقولِ امرئ القيس:
وإنَّ شفائي عَبْرَةٌ أَنْ سَفَحْتُها ........ وهلْ عِنْدَ رَسْمٍ دارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ
على جَعْل "أَنْ سَفَحتُها" بدلاً من "عبرة". وقدْ أَخْبرَ في "كان" عَنْ نَكِرةٍ بمَعْرِفَةٍ، كقولِ القُطامي يمدحُ زُفَرَ بْنَ الحارِثِ الكِلابيِّ:
قفي قبل التفرق يا ضُباعا ............... ولا يكُ موقفٌ منكِ الوَدَاعا
والبيتُ من قصيدة له في مدح زُفرَ حين أَحاطَتْ بالشاعرِ قيسٌ بِنَواحي الجَزيرَةِ وأَرادوا قَتْلَهُ فَحالَ زُفَرُ بَيْنَهُ وبَيْنَهم، وحماهُ، ومَنَعَهُ، وكَسَاهُ وأعطاهُ مئةَ ناقةٍ، وخَلَّى سَبيلَهُ. وكقولِ حسّانَ بْنِ ثابتٍ الأنصاريِّ ـ رَضِي َاللهُ عَنْهُ:
كأنَّ سَبيئةً مِنْ بيت رَأْسٍ .................. يكون مزاجَها عَسَلٌ وماءُ
قالَ مَكّيّ: وأَجازَ الفَراءُ رَفْعَ "وَعدُ"، يجعلُهُ خَبراً ل "مَرْجِعِكم".
وأجازَ رَفْعَ "وَعْدُ" و "حقٌّ" على الابتداءِ والخَبرِ، وهو حَسَنٌ، وإنْ لم يَقرأ بِهِ أَحَدٌ. ولم يَرْفَعْ "وعد" و "حق" معاً أَحَدٌ، وأَمَّا رَفْعُ "حق" وحدَهُ فَإنَّ ابْنَ أَبي عَبلة قرأَ به، ولا يجوزُ أَنْ يَكونَ "وعدَ الله" عاملاً في "أنه" لأنه قد وُصِف بقولِهِ "حقاً".
قوله: {لِيَجْزِيَ} متعلق بقوله "ثم يُعيده"، و "بالقسطِ" متعلقٌ ب "يَجْزي". ويجوز أن يكونَ حالاً: إمَّا من الفاعلِ أو المفعول أي: يَجْزيهم ملتبساً بالقسط أو ملتبسين به.
قوله: {والذين كَفَرُواْ} الموصولُ مرفوعٌ بالابتداء، والجملةُ بَعْدَهُ خبرُه. ويجوزُ أَنْ يكون منصوباً عطفاً على الموصولِ قبلَهُ، وتكونُ جملةُ "كفروا" بعدَهُ مبيِّنَةً لجزائهم.
ويجوزُ أَنْ يكونَ "شراب" فاعلاً، ويجوز أَنْ يَكونَ مُبْتَدَأً، والأَوَّلُ أَصَحُّ.
قوله: {بِمَا كَانُواْ} الظاهرُ تعلُّقُه بالاستقرار المضمر في الجارِّ الواقع خبراً، والتقدير: استقر لهم شراب من جهنم وعذاب أليم بما كانوا. وجَوَّز أبو البقاء فيه وجهين ولم يذكر غيرهما الأول: أن يكونَ صفةً أخرى ل "عذاب". والثاني: أن يكونَ خبر مبتدأ محذوف، وهذا لا معنى له ولا حاجةَ إلى العُدول عن الأول.
قرأ الجمهورُ: {وَعْدَ اللهِ}، وقرئ "وَعَدَ اللهُ" بِلَفْظِ الفِعْلِ الماضي ورَفْعِ الجلالةِ فاعِلَةً، وعلى هذه يكون "أنه يَبْدَأ" معمولاً لَهُ إنْ كان هذا القارئُ يَفْتَحُ "أنه".
وقرأ الجمهور" "يَبْدأُ" بِفَتْحِ الياءِ مِنْ بَدَأَ، وقرأَ ابْنُ أَبي طَلْحَةَ "يُبْدِئ" مِنْ أَبْدَأَ، وبَدَأ وأبدأ بمعنى.
وقرأ الجمهورُ: {إِنَّهُ يَبْدَأُ} على كَسْرِ همزةِ "إنَّ" للاستئنافِ. وقرأ عبدُ اللهِ ابنُ مسعودٍ، وابْنُ القَعْقاعِ، والأَعْمَشُ، وسَهْلُ بْنُ شُعيبٍ، بِفَتْحِها.