وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ
(36)
قولُهُ ـ تعالى شَأْنُه: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللهِ} أي: ليسَ مِنْ شَأْنِ هذا القُرآنِ المُعْجِزِ، أَنْ يَخْتَرِعَهُ أَوْ يَخْتِلقَهُ أَحَدٌ مِنَ الإِنْسِ أَوِ الجِنِّ أَوْ غيرِهِما؛ لأنَّ ما اشْتَمَلَ عَلَيْه مِنْ إِعْجازٍ وبَلاغَةٍ وتَشْريعاتٍ حَكيمَةٍ، وآدابٍ قَويمَةٍ، وهِداياتٍ جامِعَةٍ يَشْهَدُ بِأَنَّهُ مِنْ كلامَ خالِق عليمٍ عظيم. فلاَ يَصِحُّ وَلاَ يَعْقِلُ أَنْ يَفْتَرِيَ بَشَرٌ القُرْآنَ عَلَى اللهِ، وَيَنْسُبَهُ إِلَيْهِ ـ سبحانَه. فَمَا فِي القُرْآنِ مِنْ مَعْلُومَاتٍ، وَتَشْرِيعَاتٍ، وَعُلُومٍ بِالغَيْبِ، وَآدَابٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ سَامِيَّةٍ، وَأُسْلُوبٍ رَفِيعٍ فِي الصِّيَاغَةِ، هِيَ أَشْيَاءُ لاَ يَقْدِرُ البَشَرُ أَن يأتِيَ بِمِثْلِهَا. وَقَدْ تَحَدَّاهُمُ اللهُ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بٍِمثلِهِ فعَجَزوا ثمَّ تحَدَّاهم بِعَشْرِ سُوَرٍ فعجزوا ثم تحدّاهم بسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فَعَجَزُوا.
وقد تَنَاوَلْنا هَذا المَوْضُوعَ مُوَسَّعاً مِنْ قَبْلُ. وهذا بَيانٌ لإِعْجازِ القُرآنِ، وأَنَّهُ لا يَسْتَطيعُ البَشَرُ أَنْ يَأْتوا بمثْلِهِ، ولا بِعَشْرِ سُوَرٍ ولا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ؛ لأنَّهُ بِفَصاحَتِهِ وبَلاغَتِهِ ووَجازَتِهِ وحلاوَتِهِ واشْتِمالِهِ على المعاني الغَزيرَةِ النافِعَةِ في الدُنيا والآخِرِةِ، وَإِذَا أَضَفْنَا إِلَى ذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّداً ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، عُرِفَ فِي حَيَاتِهِ كُلِّهَا بِالأَمِينِ فِي قَوْمِهِ، فَمَا كَانَ لِيَتْرُكَ الكَذِبَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكْذِبَ عَلَى اللهِ، لِذَلِكَ لاَ بُدَّ مِنَ القَوْلِ: إِنَّ هَذا القُرآنَ مُنَزَّلٌ وَحْياً مِنَ اللهِ عَلَى رَسُولِهِ، وَهُوَ مُصَدِّقٌ لِمَا جَاءَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ السَّابِقُونَ، وَمُتَّفَقٌ مَعَهُ فِي الدَّعْوَّةِ إِلَى الدِّينِ الحَقِّ، مِنَ الإِيمَانِ الكَامِلِ بِاللهِ وَحْدَهُ، وَبِاليَوْمِ الآخِرِ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ لِمَا كُتِبَ مِنَ الشَرَائِعِ وَالأَحْكَامِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لاَ يَتْرُكُ مَجَالاً لِعَاقِلٍ أَنْ يَرْتَابَ فِيهِ، وَأَنْ يَشُكَّ فِي أَنَّهُ مُنْزَلٌ مِنْ رَبِّ العَالِمِينَ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
قولُهُ: {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} بَيانٌ لِكَمالِ هِدايَةِ القُرآنِ الكَريم، وهَيْمَنَتِهِ عَلى الكُتُبِ السَماوِيَّة السابِقَةِ. والمرادُ بالذي بين يَدَيْهِ: الكُتُبُ السابِقَةُ على القُرآنِ كالتَوْراةِ والإِنجيلِ والزَبورِ. وفي "بَيْنَ يَدَيْهِ" نوعُ مجازٍ؛ لأنَّ ما بَيْنَ يَدَيِ الشَيْءِ يعني أَمامَهُ، ووصفُ ما مَضى مِنَ الكُتُبِ بِأَنَّها بَينَ يَدَي القُرآنِ لِشِدَّةِ ظُهورِها واشْتِهارِها ولسبقِها في النزولِ فهي موجودةٌ مقروءةٌ حالَ نزول القرآنِ الكريم، ومعنى تَصْديقِ القُرآنِ لها تَأْييدُهُ لما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ دَعْوَةٍ إلى وَحْدانِيَّةِ اللهِ.
قولهُُ تَعالى: {أَنْ يُفْتَرى} خَبَرُ "كانَ" تَقْديرُهُ: وما كانَ هَذا القُرآنُ افْتِراءً، أَيْ: ذا افْتِراءِ، إذْ جُعِل نَفْسَ المصْدَرِ مُبالَغَةً، أَوْ يَكونُ بمعنى مُفْتَرى.
وزَعَمَ بَعْضُهم أَنَّ "أَنْ" هذِهِ هِيَ المُضْمَرَةُ بعدَ لامِ الجُحودِ، والأَصْلُ: وما كانَ هذا القرآنُ لِيُفْتَرى، فلَمَّا حُذِفَتْ لامُ الجُحودِ ظَهَرَتْ "أن". وزُعِمَ أَنَّ اللامَ و "أنْ" يَتَعاقبان، فتُحْذفُ هذِهِ تارة، وتَثْبُتُ الأَخْرى. وهذا قولٌ مَرْغوبٌ عَنْهُ، وعلى هذا القَوْلِ يَكونُ خَبرُ "كانَ" محذوفاً، و "أَنْ" وما في حَيِّزها مُتَعَلِّقَةٌ بِذلك الخَبرِ، وقدْ تَقَدَّمَ تَقريرُ ذَلِكَ مُحَرَّراً. و "مِنْ دُونِ" مُتَعَلِّقٌ بِ "يُفْتَرى" والقائمُ مَقامَ الفاعِلِ ضَمِيرٌ عائدٌ عَلى القُرآنِ.
قولُهُ: {ولكنْ تَصْدِيقَ} تَصْديق: عَطْفٌ عَلى خَبَرِ كانَ، ووَقَعَتْ "لكن" أَحْسَنَ مَوْقِعٍ إذْ هِيَ بَينَ نَقيضَينِ: وهما التَكْذيبُ والتَصْديقُ المُتَضَمِّنُ للصِدْقِ. وقَرأَ الجُمهورُ "تصديق" و "تفصيلَ" بالنَصْبِ عَطْفاً عَلى خَبرِ "كان" وقدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ، ومنهُ قولُهُ تعالى في سورة الأحزاب: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكنْ رَّسُولَ الله} الآية: 40. أو أنَّهُ خبرُ "كان" مَضْمَرَةٍ تَقديرُهُ: ولكنْ كانَ تَصديقَ، وإلَيْهِ ذَهَبَ الكِسائيُّ، والفَرَّاءُ، وابْنُ سعدانَ بْنِ المباركِ، والزَجَّاجُ. وهذا كالذي قبْلَهُ في المعنى. أَوْ أَنَّه مَنْصوبٌ على المفعولِ مِنْ أَجْلِهِ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: وما كانَ هذا القُرآنُ أَنْ يُفْتَرى، ولكنْ أُنْزِلَ للتَصْديقِ. والرابِعُ: أَنَّهُ مَنْصوبٌ على المَصْدَرِ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ أَيْضاً. والتقديرُ: ولكنْ يُصَدِّق تَصْديقَ الذي بَينَ يَدَيْهِ مِنَ الكُتُبِ.
قوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} هذه الجملةُ يمكنُ أنْ تكونَ حالاً مِنَ "الكتاب" وجازَ مجيءُ الحالِ مِنَ المُضافِ إِلَيْهِ لأَنَّهُ مَفعولٌ في المعنى. والمعنى: وتَفصيلُ الكتاب مُنْتَفياً عَنْهُ الرَّيْب. ويجوزُ أنها مُستأنَفةٌ فلا محلَّ لها مِنَ الإِعرابِ. أو أنَّها مُعْتَرِضةٌ بين "تصديق" وبين "مِن رَّبِّ العالمين" فيكون التقديرُ: ولكنْ تصديقَ الذين بين يديْه مِنْ رَبِّ العالمين.
قرأ العامَّةُ: {تصديقَ} وقَرَأَ عِيسى بْنُ عُمَرَ: "تَصْديقُ" بالرفع، وكذلك التي في يوسف. ووَجْهُهُ الرَّفعُ على خبرِ مُبْتَدَأٍ محذوفٍ، أَيْ: ولكنْ هُوَ تَصديقُ، ومِثْلُهُ قولُ الشاعرِ هُدْبةُ بْنُ خَشرَمَ:
ولستُ الشاعرَ السَّفْسَافَ فيهمْ .......... ولكن مِدْرَهُ الحربِ العَوانِبِرَفْعِ مِدْرَه على تقديرِ: أَنَا مِدْرَهٌ. وقالَ مَكِّيٌّ: ويجوزُ عندَهما، أيْ: عند الكسائي والفَرّاء الرَفع على تقدير: ولكنْ هو تَصديقُ، وكأنَّهُ لم يَطَّلِعْ على أَنَّها قراءةٌ. وزَعَمَ الفَرَّاءُ وجماعةٌ أَنَّ العربَ إذا قالتْ: "ولكن" بالواو آثَرَتْ تشديدَ النون، وإذا لم تَكُنِ الواوُ آثرتِ التَخفيفَ. وقدْ وَرَدَ في قراءاتِ السَبْعةِ التخفيفُ والتشديدُ، ومنَ التشديدِ قولِهِ تَعالى في الآية: 102 من سورة البقرة: {ولكنَّ الشياطين} وقولِه في سورة الأنفال: {ولكنَّ اللهَ رَمى} الآية: 17.