فيض العليم .... سورة يونس الآية: 21
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ.
(21)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ} الإذاقة: مُطْلَقُ الإدْراكِ، إِنِ اسْتِعارةً أوْ مجازاً، والرحمة: مطلقةٌ أيضاً هنا على أَثَرِها، وهو النِعْمَةُ والنَفْعُ. والضَرَّاءُ: الضَرُّ. والمَسُّ: هنا الإصابةُ. والمعنى: إنَّ حالَ النَّاسِ إِذَا أَنْعَمَ اللهُ تَعَالَى عَلَى المُشْرِكِينَ بِالفَرَجِ بَعْدَ الكَرْبِ، وَبِالرَّخَاءِ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ، أَوْ شِدَّةٍ أَصَابَتْهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، كَالجُوعِ وَالقَحْطِ والأمراضِ والأَوْبِئَةِ وتَسْليطِ الأعداءِ. والمرادُ بِ "النّاسِ" هُنا قيلَ قريشٌ وقيلَ الكُفَّارُ مُطلقاً، وهيَ تَتَناوَلُ كلَّ مَنْ لا يُؤدِّي شُكْرَ اللهِ تَعالى عِنْدَ زَوالِ المَكْروهِ عَنْهُ، وكلَّ مَنْ لا يَرْتَدِعُ بِذلِكَ عَنْ مَعاصِيهِ، وذَلك في الناسِ كَثيرٌ. وأَسْنَدَ إذاقَتَهُ الرَحمةَ إلى ضَميرِ الجَلالَةِ، وأَسْنَدَ المَساسَ إلى الضَرَّاءِ، رِعايَةً للأدَبِ مَعَ اللهِ تعالى، لأنَّهُ وإنْ كانَ كلُّ شيْءٍ مِنْ عِنْدِهِ، إلاَّ أَنَّ الأَدَبَ مَعَهُ سبحانَهُ، يَقْتَضِي إسنادَ الخَيرِ إلَيْهِ والشَرِّ إلى غَيرِهِ، وهذا مِنَ الآدابِ التي أَدَّبَنا بها القُرآنُ الكريمُ، كما في قولِهِ تَعالى عَلى لِسانِ خَليلِ الرَحمنِ إِبراهيمَ ـ عَليْهِ السَّلامُ: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} سُورَةُ الشُعراءِ، الآيةَ: 80. ونظائرِهِ. وكذلك فقد علَّمَنا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، هذا الأَدَبَ مع اللهِ حينَ قالَ: (اللهمَّ إنَّ الخيرَ بِيَدَيْكَ والشَرَّ ليسَ إليْكَ).
قولُهُ: {إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا} حقيقةُ المَكْرِ إخفاءُ الأَضْرارِ وإبرازُهُ في صورةِ المُسالَمَةِ، أَيْ: أَنَّهم بَدَلَ أَنْ يَشْكُرُوا اللهَ عَلَى أَنَّهُ صَرَفَ عَنْهُمْ الضُّرَّ وَالبَلاَءَ، بَادَرُوا إِلَى المَكْرِ السَّيِّءِ، مِنْ دَفْعٍ وَطَعْنٍ وَاسْتِهْزَاءٍ. وَقَابَلُوا فَضْلَ اللهِ بِالإِمْعَانِ فِي الكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ بِآيَاتِ اللهِ، فَإِذَا كَانَتِ الرَّحْمَةُ مَطَراً أَحْيَا الأَرْضَ، وَأَنْبَتَ الزَّرْعَ بَعْدَ جَدْبٍ وَقَحْطٍ، نَسَبُوا ذَلِكَ إِلَى الكَوَاكِبِ وَالأَنْوَاءِ وَالأَصْنَامِ، وَإِذَا كَانَتْ نَجَاةً مِنْ هَلَكَةٍ، وَأَعْوَزَهُمْ مَعْرِفَةُ عِلَلِهَا وَأَسْبَابِهَا، عَزَوْا ذَلِكَ إِلَى المُصَادَفَةِ، وَإِذَا كَانَ سَبَبُهَا دُعَاءَ نَبِيٍّ، أَنْكَرُوا إِكْرَامَ اللهِ لِنَبِيِّهِ كما هو حالُ زوالِ القحطِ عن قريش بدعاء النبيِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم. فقِيلَ: بِأَنَّ اللهَ تعالى سلَّط على أَهلِ مَكّةَ القَحْطَ سَبْعَ سِنينَ حتى كادوا يَهْلِكون، ثمَّ رَحِمَهم بالحَيا من السماءِ وأغاثهم به فسقاهم ومواشيهم وأَحيا زُروعَهم وضُروعَهم، بدعائه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فطَفِقوا يَطْعَنونَ في آياتِهِ تَعالى وكتابِهِ، ويُعادونَ رَسُولَهُ ويُكِيدونَهُ بالطَعْنِ فيها وعَدَمِ الاعْتِدادِ بها والاحْتِيالِ في دَفْعِها.
وقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنه: هيَ بَطْشَةُ يومِ بَدْرٍ. فتَكونُ هذِهِ الآيةُ قَدْ نَزَلَتْ بعدَ انْقِراضِ السَبْعِ السِنينَ التي هِيَ كَسِنيِّ يُوسُفَ ـ عليه السلامُ، وبعد أَنْ حَيُوا. فتَكونُ هذه الآيةُ قَدْ نَزَلَتْ بعد سنة عَشْرٍ مِنَ البِعْثَةِ، أَو سَنَةَ إِحْدى عَشْرَةَ.
قولُهُ: {قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا} أَمرٌ مِنْهُ سُبْحانَهُ لِرَسولِهِ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: إِنَّ اللهَ أَسْرَعَ مِنْكُمْ مَكْراً، وَأَشَدَّ اسْتِدْرَاكاً، وأَسْرَعَ جَزَاءً وَعُقُوبَةً، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِهْلاَكِكُمْ، وَعَلَى تَعْجِيلِ العُقُوبَةِ لَكُمْ، وَلَكِنَّ كَلِمَتَهُ تَعَالَى سَبَقَتْ بِتَأْجِيلِ حِسَابِ النَّاسِ حَتَّى يَوْمَ الحَشْرِ، الذِي لاَ يَعْلَمُ أَحَدٌ غَيْرُ اللهِ مَوْعِدَهُ. ووصْفُ مَكْرِ اللهِ بالسُرْعَةِ، مع أنَّه قد يمهلُهم اسْتِدْراجَاً لأنَّهُ مُتَيَقَّنٌ وواقِعٌ لا مَحَالَةَ، وكلُّ آتٍ قَريبٌ.
قولُهُ: {إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} فإنَّ المَلائِكَةَ المُوكَّلينَ بِإحْصَاءِ أَعْمَالِ العِبَادِ وَتَسْجِيلِهَا عَلَيْهِمْ، يُسَجِّلُونَ مَا تَمْكُرُونَ، وَسَيُحَاسِبُكُمُ اللهُ عَلَى أَعْمَالِكُمْ جَمِيعَها فلا يُغادِرُ منها شيئاً، ولا يَنْسَى شَيْئاً. وهذا استئنافُ خِطابٍ للمُشركين وتهديدٌ لهم مِنَ اللهِ، فلِذلكَ فُصِلَتْ عَنِ التي قَبْلَها لاخْتِلافِ المُخاطَبِ. وقد أُكِّدَتِ الجملةُ ب "إنّ" لكونِ المُخاطَبين يَعْتَقِدونَ خلافَ ذَلِكَ، إذْ كانوا يَحْسَبون أَنَّهم يَمْكرونَ بالنبيِّ ـ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، وأَنَّ مَكْرَهُمْ يَنطلي عَلَيْهِ ولا يَشْعُرُ بذلك، فأَعْلَمَهم اللهُ تعالى بأَنَّ الملائكةَ المُوكَلينَ بإحصاءِ الأَعْمالِ يَكْتُبونَ ذَلِكَ. والمقصودُ مِنْ هَذا أَنَّ ذلِكَ مَحْصِيٌّ مَعْدودٌ عَليهم لا يُهْمَلُ، وهُوَ إِنْذارٌ لهم بالعذابِ على ذلك.
قولُهُ تَعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا إذا لهم مكرٌ في آيَاتِنَا} شرطيَّةٌ جوابُها إذا الفجائيةُ في قوله: "إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ"، والعاملُ في "إذا" الفُجائيةِ الاستقرارُ الذي في "لهم". وحَرْفُ المُفاجَأَةِ يَدُلُّ على البِدارِ والإسراعِ بمَضْمُونِ الجُمْلَةِ، فيُفيدُ مَفادَ فاءِ التَعْقيبِ التي يُؤتى بها لِرَبْطِ جَوابِ الشَرْطِ بِشَرْطِهِ، فكأنَّه قيل: "فلهم مكرٌ". فإذا جاءَ حَرْفُ المفاجأة أَغْنى عَنها. وقد تقدَّم خلافٌ في "إذا" هذِهِ: هَلْ هيَ حرفٌ أَوْ ظَرْفُ زَمانٍ على بابها أَوْ ظَرْفُ مَكانٍ؟ وقال أَبو البَقاءِ: وقيل: "إذا" الثانية زمانيةٌ أيضاً، والثانية وما بعدها جوابُ الأَولى. ولا معنى لهذا. والجارُّ "في" للظرفية المجازية، أيْ مَكْرُهُمُ المُصاحِبُ لآياتِنا وهو مُتَعَلِّقٌ بِ "مَكْر"، فجَعَلَ الآياتِ مَحَلاًّ للمَكْرِ مُبالَغَةِ، ويَضْعُفُ أَنْ يَكونَ "في" صفةً ل "مكرٌ".
وقوله: {قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً} مكراً: نَصْبٌ على التَمْييزِ. وهوَ واجِبُ النَصْبِ، لأنَّك لو صُغْتَ مِنْ "أَفْعل" فعلاً وأَسْنَدْتَهُ إلى تمييزِهِ فاعلاً لَصَحَّ أَنْ يُقال: "سَرُعَ مَكْرُهُ" وشَرْطُ جوازِ الخَفْضِ أَيْضاً صِدْقُ التَمْييزِ على مَوْصوفِ "أَفعل" التَفضيلِ، نحو قولِهم: زَيْدٌ أَحْسَنُ فَقيهٍ. و "أَسْرَعُ" مَأْخوذٌ مِنْ سَرُعَ ثلاثيّاً. وقيلَ: بَلْ مِنْ أَسْرَع. وفي بناءِ "أفعل" وفعلي التعجُّب مِنْ "أفعل" ثلاثةُ مذاهب: الجوازُ مُطلقاً، والمنعُ مطلقاً، والتفضيلُ: بين أَنْ تَكونَ الهمزةُ للتَعْدِيَةِ فيَمْتَنِعَ، أو لا تكون كذلك فيجوزَ، وتحريرُ هذه المسألةِ موجودٌ في كُتُبِ النُحاةِ.
وقال بعضُهم: "أَسْرعُ" هنا ليست للتفضيل. وليس بشيءٍ فالسياقُ يردُّه. وجعله ابْنُ عَطِيَّةَ: للتَفْضيلِ نَظيرَ قولِهِم: "لهِيَ أَسْوَدُ مِنَ القار". وعقَّبَ عليه أَبو حيَّانَ الأَندلُسيُّ قائلاً: وأَما تنظيرُه "أَسودُ مِنَ القار" ب "أسرع" ففاسدٌ لأنَّ "أسود" ليس فعلُه على وزِن أَفْعَل، وإنما هو على وزن "فَعِل" نحو: سَوِدَ فهو أسود، ولم يمتنعِ التَعَجُّبُ ولا بِناءُ "أفعل" التفضيلِ عندَ البَصْرِيّينَ مِنْ نحو: سَوِدَ وحَمِرَ وأَدِمَ إلاَّ لِكونِهِ لَوْناً. وقد أجازَ ذلك بعضُ الكُوفِيّين في الألوانِ مُطلَقاً، وبَعضُهم في السوادِ، والبياضِ فقَط. وردَّ هذا السمينُ الحلبيُّ فقال: وتنظيرُه به ليس بِفاسِدٍ، لأنَّ مرادَه بناءُ "أفعل" مما زاد على ثلاثة أحرف وإن لم يكن على وزن "أَفْعَل"، وسَوِدَ وإن كان على ثلاثةٍ لكنَّه في معنى الزائد على ثلاثة، إذ هو في معنى أسود، وحَمِرَ في معنى أحمر، نصَّ على ذلك النَّحْوِيُّون، وجعلوه هو العلةَ المانعةَ مِنَ التَعَجُّبِ في الأَلْوانِ.
قرأ العامَّةُ: {إنَّ رُسُلَنا} بضمِّ السين، وخَفَّفَها الحَسَنُ فقرأ هو وابْنُ أَبي إسْحاقَ وأَبو عَمْرٍو، "رُسْلنا" قالَهُ أَبو حاتم.
قرأَ الجمهورُ: {تمكرون} بالخطابِ مبالغةً في الإِعلام بمكرهم والتفاتاً لقوله: "قل الله"، إذ التقديرُ: قل لهم، فناسَبَ الخطابَ. وفي قوله: "إنْ رسلَنا" التفاتٌ أيضاً، إذ لو جرى على قوله: "قل الله"، لقيل: إنَّ رسله.
وقرأ الحسنُ وقتادة ومجاهد والأعرج ونافعٌ في روايةٍ عنه وقرأ روح عن يعقوب: "يَمْكرون" بياء الغيبة جَرْياً على ما سَبَق وهي قراءة أهل مكة وشبل وأبي عمرو وعيسى وطلحة وعاصم والأعمش والجحدري وأيّوبُ بْنُ المُتَوَكِّلِ.
قال أبو حاتم: قال أيوب بن المتوكل: في مصحف أبيّ "يا أيها الناس إن الله أسرع مكراً وإن رسله لديكم يكتبون ما تمكرون".