وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
(25)
قولُهُ ـ جلَّ وعَلا: {وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} بعدَ أَنْ رَغَّبِ سبحانَهُ، عَنِ الحياةِ الدُنْيَوية الفانِيَةِ في الآيَةِ السابقةِ مُنَبِّهاً على سُرْعَةِ زَوالها وعدمِ استقرارِ أصحابها، ها هو تعالى يُرَّغِبُ في هذه الآيةِ بالحياةِ الآخِرَةِ الباقِيَةِ، وَيدْعوا إِلَيْهَا، وَقد سَمَّاهَا دَارَ السَّلاَمِ، لِسَلاَمَتِهَا مِنَ الآفَاتِ وَالنَّقَائِصِ وَالنَّكَبَاتِ، وَلِشُعُورِ مَنْ يَدْخُلُونَهَا بِالاطْمِئْنَانِ وَالسَّلاَمَةِ، وأَمْنِ الفَنَاءِ والآفاتِ، وقيل سمِّيت بذلك لأنَّ اللهََ تعالى أَوْ الملائكةَ يُسَلِّمونَ فيها عَلى مَنْ يَدْخُلُها، أَوْ يُسَلِّمُ فيها بعضُهم على بعضٍ، وقيلَ: أَرادَ: واللهُ يَدْعو إلى دارِ التَحِيَّةِ؛ لأنَّ أَهْلَها يَنَالونَ مِنَ اللهِ ومن الملائكةِ التَحِيَّةَ والسَّلامَ. قالَ الحَسَنُ: إنَّ السَّلامَ لا يَنْقَطِعُ، عَنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وهُوَ تَحِيَّتُهم؛ و "السلامُ" والسَّلامةُ بمعنى: كالرَّضَاعِ، والرَضاعَةِ، ومنهُ قولُ الشاعرِ شَدّادِ بْنِ أَوْسٍ اللَّيثيِّ المُكَنّى أَبا بَكْرٍ يَرثي قتلى بدر من المشركين:
تُحَيِّي بالسَّلامَةِ أُمُّ بَكْرٍ ................ وَهَل لَّكَ بعدَ قومِكَ مِنْ سَلامِ
وقيلَ سمِّيتْ بذلك من بابِ إضافةِ المُلكِ إلى المالكِ فإنَّ من أسمائه سبحانه "السلامُ" وهي دارُه، فأضيفتْ إليهِ، وتخصيصُ الإضافةِ التَشْريفيَّةِ بهذا الاسْمِ الكريمِ للتَنْبيهِ على ذلك. فقد وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، والحاكمُ وصَحَّحَهُ، والحافظُ ابْنُ مِرْدُوَيْه، ِوالبَيْهَقِيُّ في الدَلائلِ، وابْنُ سَعْدٍ، عَنْ سَعيدِ بْنِ أَبي هِلالٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، سمِعتُ أبَا جعفرٍ محمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَن أهلِ بيتِ نبيِّنا الكريمِ وأصحابه جميعاً، وتلا: "والله يدعوا إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" فقال: حدَّثني جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيَّ ـ رضي اللهُ عنهُ، قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمًا فَقَالَ: ((إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ جِبْرِيلَ عِنْدَ رَأْسِي وَمِيكَائِيلَ عِنْدَ رِجْلَيَّ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ اضْرِبْ لَهُ مَثَلاً فَقَالَ اسْمَعْ سَمِعَتْ أُذُنُكَ وَاعْقِلْ عَقَلَ قَلْبُكَ: إِنَّمَا مَثَلُكَ وَمَثَلُ أُمَّتِكَ كَمَثَلِ مَلِكٍ اتَّخَذَ دَارًا، ثُمَّ بَنَى فِيهَا بَيْتًا، ثُمَّ جَعَلَ فِيهَا مَائِدَةً، ثُمَّ بَعَثَ رَسُولاً يَدْعُو النَّاسَ إِلَى طَعَامِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ الرَّسُولَ وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَهُ. فَاللهُ هُوَ الْمَلِكُ، وَالدَّارُ الإِسْلامُ، وَالْبَيْتُ الْجَنَّةُ، وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ رَسُولٌ، فَمَنْ أَجَابَكَ دَخَلَ الإِسْلامَ، وَمَنْ دَخَلَ الإِسْلامَ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ أَكَلَ مَا فِيهَا)). وأَخرجَهُ البُخاريُّ مُعَلَّقاً: (6/115)، والتِرْمِذِيُّ مُرْسلاً.
وأخرج ابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ سَيِّداً بَنى داراً واتَّخَذَ مَأْدُبَةً وبَعَثَ داعياً، فمَنْ أَجابَ الداعيَ دَخَلَ الدّارَ، وأَكَلَ مِنَ المَأْدُبَةِ، ورَضِيَ عَنْهُ السَيِّدُ، أَلاَ وإنَّ السَيِّدَ اللهُ، والدارُ الإِسْلامُ، والمأْدُبَةُ الجَنَّةُ، والداعي محمَّدٌ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ)). وأَخرجَ أيضاً قريباً منْ هذا عَنِ ابْنِ مَسْعودٍ ـ رضي اللهُ عنه.
وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنِ الحَسَنِ البَصريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: مَا مِنْ لَيْلَةٍ إِلاَّ يُنَادِي مُنَادٍ: يَا صَاحِبَ الْخَيْرِ هَلُمَّ، وَ يَا صَاحِبَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، فَقَالَ رَجُلٌ لِلْحَسَنِ: أَتَجِدُهَا فِي كِتَابِ اللهِ، قَالَ: نعم، "وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ". وأَخْرَجَ أبو الشيخِ عَنْهُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه، أَنَّهُ كان إذا قرأَ "واللهُ يدعوا إلى دار السلامِ" قال: لَبَّيْكَ رَبَّنا وَسَعْدَيْكَ. وقالَ يحيى بْنُ مُعاذٍ: يا ابْنَ آدَمَ، دَعاكَ اللهُ إلى دارِ السَّلامِ فانْظُرْ مِنْ أَيْنَ تُجيبُهُ، فإنْ أَجَبْتَهُ مِنْ دُنياكَ دَخَلْتَها، وإنْ أَجَبْتَهُ مِنْ قَبْرِكَ مُنِعْتَها. وقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما: الجِنانُ سَبْعٌ: دارُ الجَلالِ، ودارُ السَّلامِ، وجَنَّةُ عَدْنٍ، وجَنَّةُ المأْوى، وجَنَّةُ الخُلْدِ، وجَنَّةُ الفِرْدَوْسِ، وجَنَّةُ النَعيمِ.
قولُهُ: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى الطَّرِيقِ المُوصِلِ إِلَيْهَا مِنْ أَقْصَرِ الطُّرُقِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ المُسْتَقِيمُ، أيْ: الإسلامُ والتَزَوُّدُ بالتَقوى. وفي تعميم الدَعْوَةِ وتخصيصِ الهَدايةِ بالمَشيئَةِ دليلٌ على أَنَّ الأمْرَ غيرُ الإرادَةِ وإنَّ مَنْ أَصَرَّ على الضَلالَةِ لمْ يُرِدْ اللهُ رُشْدَهُ. وفي هذِهِ الآيةُ الكريمةُ رَدٌّ مُفحِمٌ للمُعْتَزِلَةِ فقد نَصَّتْ على أَنَّ الدُعاءَ إلى الشَرْعِ عامٌّ في كلِّ بَشَرٍ، والهِدايةُ التي هِيَ الإرْشادُ مختَصَّةٌ بمَنْ قَدَّرَ اللهُ إيمانَهُ.
وأخرج أحمدُ، وابْنُ جَريرٍ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأبو الشيخ، والحاكمُ وصحّحه، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَليه ِوسَلَّمَ: ((مَا مِنْ يَوْمٍ طَلَعَتْ شَمْسُهُ, إِلاَّ وَكَانَ بِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ نِدَاءً يَسْمَعُهُ مَا خَلَقَ اللهُ كُلُّهُمْ غَيْرُ الثَّقَلَيْنِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ، إِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى, خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى، وَلا غَرَبَتِ الشَّمْسُ إِلاَّ وَكَانَ بِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ نِدَاءً يَسْمَعُهُ خَلْقُ اللهِ كُلُّهُمْ إِلاَّ الثَّقَلَيْنِ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَأَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا، وَأَنْزَلَ اللهُ فِي ذَلِكَ قُرْآنًا فِي قَوْلِ الْمَلَكَيْنِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ، فِي سُورَةِ يُونُسَ: "وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" وَأَنْزَلَ فِي قَوْلِهِمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا, وَأَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى, وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى, وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى, إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى, وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى, فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى, وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى, فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}.
قولُهُ تعالى: {يَدْعُو} حُذِفَ مَفْعولُهُ لِقَصْدِ التَعْمِيمِ، أَيْ يَدْعو كُلَّ أَحَدٍ. والدعوةُ هي: الطَلَبُ والتَحْريضُ. وهيَ هُنا أَوامِرُ التَكْليفِ ونَواهيهِ.