وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ
(41)
قولُهُ ـ تَعالى شَأْنُهُ: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} وَإِنْ أَصَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِكَ ورَدُّوا عليك ما جئتهم به منْ عند ربِّك، بعدَ إلْزامِ الحُجَّةِ، مَعَ إقامَة كُلِّ تِلْكَ الأَدِلَّةِ الواضِحَةِ المُتَقَدِّمَةِ عَلَى صِدْقِكَ فِيمَا دَعَوْتَهُمْ إِلَيهِ كما وَرَدَ في الآياتِ السابِقَةِ، فَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ لِي مِنْ رَبِّي جَزَاءَ عَمَلِي، وَلَكُمْ أَنْتُمْ من ربِّكم جَزَاءُ أَعْمَالِكُمْ أيضاً، وَلَنْ يَحْمِلَ أَحَدٌ شَيْئاً مِنْ وِزْرِ أَحَدٍ. وقد أُوِّلَ بِذَلِكَ لأَنَّ أَصْلَ التَكْذيبِ حاصِلاً، فَلا يَصِحُّ فِيهِ الاسْتِقْبالُ الذي أَفادَه الشَرْطُ، ولا جوابُهُ في قولِهِ تعالى: "فَقُل لي عملي ولكم عملُكم" المُرادُ مِنْهُ التَبَرُّؤُ والتَخْلِيَةُ، إنَّما يُناسِبُ الإصرارَ على التَكْذيبِ، واليأْسَ مِنَ الإِجابَةِ، والمعنى لي جزاءُ عَمَلي ولكم جَزاءُ عَمَلِكم كَيْفَما كانا، وقد وُحِّدَ العملُ المُضافُ إلَيْهِمْ، معَ أنَّه كثيرٌ، باعْتِبارِ الاتِّحادِ النَوْعِيِّ، ولمُراعاةِ كمَالِ المُقابَلَةِ.
قولُه: {أََنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} أَمْرٌ مِنَ اللهِ تَعالى لنَبِيِّهِ ـ صَلّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، أَنْ يُظْهِرَ البَراءَةَ مِنْ أَعْمالِ الكُفَّارِ القَبيحَةِ إِنْكاراً لها، وإظْهاراً لِوُجُوبِ التَبَاعُدِ عَنْها، وَكُلُّ وَاحِدٍ بَرِيءٌ مِنْ عَمَلِ الآخَرِ، وَلاَ يُؤَاخِذُ أَحَدٌ بِعَمَلِ أَحَدٍ غَيْرِهِ. وهو تَأْكيدٌ لما أَفَادَتْهُ لامُ الاخْتِصاصِ في قولِهِ "لي" و "لكم" مِنْ عَدَمِ تَعَدِّي جزاءِ العَمَلِ إلى غَيرِ عامِلِهِ، أَيْ: لا تُؤاخَذونَ بِعَمَلي ولا أُؤاخَذُ بِعَمَلِكم، ولما فيهِ مِنْ إيهامِ المُتَارَكَةِ وعَدَمِ التَعَرُّضِ لهم. ونظيرُها قولُ إِبْراهيم الخَليلِ، وأتباعه، لقومه: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله} الآية: 4. منْ سورةِ الممتحنة. وقد نَسَخَتْها آيَةُ الجهادِ كما نُقِل عنْ كثيرٍ مِنْ أَئمَّةِ التفسيرِ، وهذا صَحيحٌ، لأنَّ هَذِهِ الآيةَ مَكِيَّةٌ وتلك مدنيَّةٌ، فقدْ أَخْرَجَ ابْنُ جريرٍ الطبريُّ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في قولِهِ تعالى: "وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملَكم" الآية. قالَ: أَمَرَهُ بهذا، ثمَّ نَسَخَهُ فَأَمَرَهُ بِجِهادِهم. وأخرجَ ابنُ أبي حاتمٍ عن عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، فِي قَوْلِ اللهِ تعالى: "وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ" قَالَ: "أَمَرَهُ بِهَذَا ثُمَّ نَسَخَهُ فَأَمَرَهُ بِجِهَادِهِمْ". ورويَ مثلُ ذلك عن الكلبيِّ ومُقاتلٍ. وقد ذَكَرَ دَعْوى النَّسْخِ في هَذِهِ الآيَةِ ابْنُ حَزْمٍ في ناسِخِهِ ص: 396، وابْنُ سَلامَةَ في ناسِخِهِ ص: 104، وابْنُ هِلالٍ في ناسِخِهِ المَخْطوطِ ص: 35, ولم يَتَعَرَّضْ لها النَحّاسُ، ومَكِيّ بْنُ أَبي طالِبٍ أَصْلاً، وقال ابْنُ كثيرٍ بعدَمِهِ. والظاهِرُ أَنَّ مَعْناها مُحْكَمٌ؛ لأنَّ البراءَةَ إلى اللهِ تعالى مِنْ عَمَلِ السُوءِ لا شَكَّ في بَقاءِ مَشْروعِيَّتَها، وهي لا تَتَنافى مع قتالَهم، بَلْ تَجِبُ معَهُ. ولأَنَّ مَدْلولَ هذه الآيةِ هو اخْتِصاصُ كُلِّ أَحَدٍ بِأَفْعالِهِ وثَمَراتِها مِنَ ثَوابٍ وعِقابٍ، وآيَةُ السَيْفِ لمْ تَرْفَعْ ذَلِكَ ولا تنفيهِ، واللهُ أعلم.
قولُهُ تعالى: {وإنْ كذَبوكَ فقل} شرطٌ وفعلُهُ وجوابُهُ. ولمَّا كانَ العِلْمُ بِتَكْذيبِهم حاصلاً ممَّا تَقَدَّمَ مِنَ الآياتِ تَعَيَّنَ أَنَّ التَكْذيبَ المَفْروضَ هُنا بِوِساطَةِ أَداةِ الشَرْطِ هُوَ التَكْذِيبُ في المُسْتَقْبَلِ، أَيْ الاسْتِمْرارُ على التَكْذيبُ. وذَلِكَ أنَّ كُلَّ ما تَبَيَّنِ بِهِ صِدْقُ القُرْآنِ هُوَ مُثْبِتٌ لِصِدْقِ الرَّسولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، الذي أَتى بِهِ.
قولُهُ: {لي عَمَلي ولَكُمْ عَمَلكم} لي عملي: في محلِّ رَفْعٍ بالابْتِداءِ، والمَعنى: لي جزاءُ عَمَلِي، وكذلك قولُه: "ولكم عملكم" و "أَنْتُم بريئون". وفيهِ مَعْنى الحَصْرِ لتَقديم المَعْمُولِ على عاملِهِ، وللتَعبيرِ بالإضافة ب "عَمَلِي" و "عَمَلُكُمْ"، ولم يُعَبِّرْ بِنَحْوِ: (لي ما أَعْمَلُ ولَكُمْ ما تَعْمَلون).
قولُه: {أََنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} فقد أتى بالعملِ هنا فعلاً مضارعاً صِلَةً ل "مَا" المَوْصولَةِ لإفادةِ الاسْتِمْرارِ، وللدَلالَةِ على البَراءَةِ مِنْ كلِّ عَمَلٍ يَحْدُثُ في الحالِ والاسْتِقْبالِ، وأَمَا ما مضى فقدِ انْقَضى وليس الغَرَضُ ذِكْرَ البراءَةِ مِنْهُ. وإنَّما عَدَلَ عَنِ الإتْيانِ بالعَمَلِ مَصْدَراً كما أَتى بِهِ في قولِه: "لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ" لأنَّه لو جاءَ العَمَلُ مصدَراً فلرُبَّما تُوُهِّمَ أَنَّ المُرادَ عَمَلٌ خاصٌّ لأنَّ المَصْدَرَ المُضافَ لا يكونُ عامّاً، وحتى يَتَجَنَّبَ إِعادَةَ اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ في الكلامِ الواحِدِ لأنَّ جملَةَ البَيانِ مِنْ تمامِ المُبَيَّنِ، ولأنَّ هذا اللَّفْظَ أَنْسَبُ بِسَلاسَةِ النَظْمِ، لأنَّ في "ما" مِنْ قولِهِ: "مِمَّا أَعْمَلُ" مِنَ المَدِّ ما يَجْعَلُهُ تمهيداً لِمَدِّ النَفَسِ في آخِرِ الآيَةِ وتَهْيِئَةً للوَقْفِ على قولِهِ: "مِمَّا تَعْمَلُونَ"، لما في "تَعْمَلُونَ" أيضاً مِنَ المَدِّ، مراعاةً للفاصِلَةِ. وهذا مِنْ دَقائقِ جمالِ فَصاحَةِ القُرآنِ المتميِّزةِ عَمّا تعارَفَ عليهِ الفصحاءُ. والبريءُ مِنَ الشيءِ هو الخَلِيُّ عَنِ التَلَبُّسِ بِهِ، وعَنْ مُخَالَطَتِهِ. وهو مِنْ بَرَّأَ المُضاعَفِ بوزنِ "فَعيلٍ" على غيرِ قياسٍ. وفِعْلُ بَرَّأَ مُشْتَقٌّ مِنْ بَرِئَ مِنْ كذا بِكَسْرِ الراءِ، إذا خَلَتْ عَنْهُ تَبِعَتُهُ والمؤاخَذَةُ بِهِ.