إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)
قولُهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} أَيْ: آمَنوُا بِكُلِّ ما يجبُ الإيمانُ بِهِ، كَمَا بَيَّنَهُ ـ سُبْحانَهُ وتعالى، في آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ بقولِهِ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِه} الآية: 285. وكما أَوْضَحَهُ رسولُهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، في حَديثِ جِبريلَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، حين سألَهُ عن الإيمانِ، فقالَ: ((الإيمانُ: أَنْ تُؤمِنَ باللهِ، ومَلائكَتِهِ، وكُتُبِهِ، ورُسُلِهِ، وباليومِ الآخِرِ، وبالقَضاءِ خَيرِهِ وشَرِّهِ مِنَ اللهِ تعالى ..)) أخرجهُ الشيخان وغيرُهما عَنْ سَيِّدِنا عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وقد تَقَدَّمَ غيرَ مَرَّةٍ. ثمَّ لم يَأْتِ بما ينقضُ هذا الإيمانَ من قولٍ أو عملٍ، كَما قالَ تَعالى في سُورَةِ الأَنْعامِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} الآية: 82.
قولُهُ: {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} فالعملُ الصالحُ هو الدليلُ على الإيمان وهو الترجمةُ العمليَّةُ لَهُ، فمن آمنَ بأنَّ لَهُ ربَّاً خَلَقَهُ في أَحْسَنِ تَقويمٍ، وأَغْدَقَ عَلَيْهِ مِنْ نِعَمِهِ، أَحَبَّهُ وخافَهُ، فإذا أَحَبَّهُ وخافَهُ، حَرَصَ على رِضاهُ واتِّقاءِ سَخَطِهِ فأَطاعَهُ، فاتَّبَعَ رسولَه، قال تعالى في سورة آل عمران: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي} الآية: 31. واجْتَنَبَ ما نهاهُ عَنْهُ، وعَمِلَ بما أَمَرَهُ بِهِ. وكلَّما ازدادَ عملُهُ الصالحُ ازداد إيمانُهُ بِرَبِّهِ لما تقدمَ من الإيمان يزيدُ بالطاعةِ ويَنْقُصُ بالمَعْصِيَةِ، فازْدادَ مِنْه سبحانَهُ خَوْفاً، ولَهٌ حُبّاً، والعكسُ بالعَكْسِ فإذا آمَنَ ولم يُثَبِّتْ إيمانَه بصحبة المؤمنين وسْلُوكْ سَبيلَ المتَّقين أَوْشَكَ أنْ يضمحلَّ إيمانُهُ ويتلاشى. قال ـ صلى اللهُ عليه وسلم: ((إنَّ الإِيمَانَ لَيْسَ بِالتَّحَلِّي، وَلا بِالتَّمَنِّي، إنَّمَا الإِيمَانُ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ)). أخرجه ابْنُ أَبي شَيْبَةَ في مصنَّفه: (11/22) عن الحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رضي اللهُ عنه. وأخرجه الإمامُ أحمدُ ـ رضي اللهُ عنه، في مُسندهِ كذلك.
قولُهُ: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بإِيمَانِهِمْ} وَصَفَهم بالهِدايَةِ على طريقِ المَدْحِ لهم. يرشدهم إلى ما فيه خيرهم. فالهدايَةُ: الإرْشادُ على المَقْصِدِ النّافِعِ والدَلالَةُ عَلَيْهِ، والمقَصودُ الإرشادُ التَكْوينيِّ، أَيْ: يَخْلُقُ في نُفُوسِهِمُ المَعْرِفَةَ بالأعْمالِ النافِعَةِ لهم ويُسَهِّلُ عليهم الإكْثارَ مِنْها. أَمَّا الهدايةُ بمعنى الإرْشادِ الذي هُوَ الدَلالَةُ بالقَوْلِ والتَعْليمِ، فهي تَشْمَلُ المَؤمِنَينَ والكافرين. والمرادُ هنا أَنَّ اللهَ تعالى يَهديهم طَريقاً إلى الجَنَّةِ. وقالَ ابْنُ جُريْجٍ: يَجْعَلُ عَمَلَهم هادياً لهم إلى الجنَّةِ، وقالَ مجاهدٌ: أَيْ يجعَلُ لهم نُوراً يَمْشُونَ بِهِ. وأَخرجَ ابْنُ جَريرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، عَنْ قَتَادَةَ في قَوْلِهِ: "يَهْديهم رَبُّهم بإيمانِهم" قال: حدَّثَنا الْحَسَنُ: أَنّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ مُثِّلَ لَهُ عَمَلُهُ فِي صُورَةٍ حَسَنَةٍ، وَرِيحٍ طَيِّبَةٍ، فَيَقُولُ لَهُ: مَا أَنْتَ؟ فَوَ اللهِ إِنِّي لأَرَاكَ عَيْنُ امْرِئٍ صِدْقٍ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ، فَيَكُونُ لَهُ نُورًا قَائِدًا إِلَى الْجَنَّةَ، وَأَمَّا الْكَافِرُ إِذَا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ مُثِّلَ لَهُ عَمَلُهُ فِي صُورَةٍ سَيِّئَةٍ وَرِيحٍ مُنْتِنَةٍ، فَيَقُولُ: مَا أَنْتَ؟ إِنِّي لأَرَاكَ عَيْنُ امْرِئٍ سُوءٍ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ، فَيَنْطَلِقُ حَتَّى يُدْخِلَهُ النَّارَ". وأَخْرَجَ ابْن ُجريرٍ، وابْنُ المُنذِرِ، وأَبو الشيخِ عَنِ ابْنِ جُريجٍ مثلَ ذلك. وأَخْرَجَ أَبو الشَيْخِ، عَنِ الرَّبيعِ في قولِهِ تعالى: "يهديهم ربهم بإيمانهم" قالَ: حَتى يُدْخِلَهُمُ الجَنَّةَ. فحَدَّثَ أَصْحابُ النَبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عليْه ِوسَلَّمَ: لأَحَدُهُمْ يومَئذٍ أَعْلَمُ بمنْزِلِهِ مِنْكُمُ اليومَ بِمَنْزِلِنا، ثمَّ ذَكَرَ عَنِ العُلَماءِ: أَنَّهُ سُبْحانَهُ، أَنْزَلهمُ الجَنَّةَ سَبْعَةَ مَنازِلَ، لِكُلِّ مَنْزِلٍ مِنْ تِلْكَ المَنازِلِ أَهْلٌ في سَبْعِ فَضائلَ. وقالَ النَبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((يُسْعى عَلَيهم بما سَأَلوا، وبما خَطَرَ عَلى أَنْفُسِهم، حتى إذا امْتَلأوا كانَ طَعامُهم ذَلِكَ جُشاءً ورِيحَ المِسْكِ، ليسَ فيها حَدَثٌ، ثمَّ أُلهموا الحمْدَ والتَسْبيحَ كما أُلهِموا النَفَسَ، ثمَّ يَجْتَني فاكهتَها قائماً وقاعِداً ومُتَّكِئاً، على أَيّْ حالٍ كانَ عَلَيْهِ، ثمَّ لا تَصِلُ إلى فِيهِ حَتى تَعودَ كما كانتْ، إنَّها بَرَكَةُ الرَحمنِ، وبركَةُ الرحمنِ لا تَفنى، وهيَ الخَزائنُ التي لا تَنْقَطِعُ أَبَداً، ما أُخِذَ مِنْها لم يُنْقِصْ، وما تُرِكَ مِنْها لم يَفْسُدْ)).
وقد تكونُ هذه الهدايةُ بِأْن يَجْعَلَ اللهُ للإيمانِ نُوراً في عَقْلِ المؤمِنِ، وهذا النُورُ لَهُ أَشِعَّةٌ نُورانِيَّةٌ تَتَّصِلُ بَينَ نَفْسِ المُؤْمِنِ، وبَينَ عَوالمِ القُدْسِ، فَتَكونُ سَبَباً لانْفِعالِ النَفْسِ جاذباً لها إلى الخَيرِ والكَمالِ، لا يَزالُ يَزْدادُ حتى يَقْتَرِبَ مِنَ الإدْراكِ الصَحيحِ المحفوظِ مِنَ الضَلالِ بمِقْدارِ مَراتِبِ الإيمانِ والعَمَلِ الصالحِ. وفي الحديثِ: ((قد يكون في الأمم محدثون فإن يَكُ في أُمَّتي أَحَدٌ فَعُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ))، أَخْرَجَهُ أَحمدُ، والبُخاريُّ، عَنْ أَبي هَرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وأَخْرَجَهُ أَحمدُ أَيْضاً، ومُسْلِم، والتِرْمِذِيُّ، والنَسائيُّ عنْ أُمِّ المؤمنين السَيْدَةَ عَائشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْها وأَرْضاها. قالَ ابْنُ وهْبٍ: تَفْسيرُ "مُحَدَّثون" ملهمون الصوابَ. وَالْمُحَدَّثُ: هُوَ الْمُلْهَمُ الْمُخَاطَبُ فِي سِرِّهِ. فإنَّ عُمَرَ مَا قَالَ لِشَيْءِ: إنِّي لأَظُنّهُ كَذَا وَكَذَا، إلاَّ كَانَ كَمَا ظَنَّ، وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهِ وأرْضاهُ. وفي الحديثِ الشريفِ أيضاً: ((اتَّقوا فِراسَةَ المؤمِنِ فإنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللهِ)) ثمَّ قَرَأَ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}، قال: "للمُتَفَرِّسين". أخرَجَهُ البُخارِيُّ في تاريخِهِ، والتِرْمِذِيُّ، وابْنُ جَريرٍ الطبريُّ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وابْنُ السني، وأَبو نُعَيمٍ معاً، في الطُبِّ، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ، والخَطيبُ البغداديُّ عَنْ أَبي سَعيدٍ الخِدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وأَخْرَجَ ابْنُ جريرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رضي اللهُ عنهما، بمثلِهِ، وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ أيضاً، عَنْ ثُوبانَ ـ رضي اللهُ عنه، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ: ((إحْذروا فِرَاسَةَ المؤمِنِ، فإنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللهِ ويَنْطِقُ بِتَوْفِيقِ اللهِ)). وأَخْرَجَ الحَكيمُ التِرْمِذِيُّ، والبَزَّارُ، وابْنُ السني، وأَبو نُعيمٍ، عَنْ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ: ((إنَّ للهِ عِباداً يَعْرِفونَ النّاسَ بالتَوَسُّمِ". ولأَجْلِ هَذا النُورِ كانَ أَصْحابُ النبيِّ ـ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَكْمَلَ النَّاسِ إيماناً لأنَّهم لما تَلَقّوا الإيمانَ عَنْه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، كانَتْ أَنْوارُهُ السارِيَةُ في نُفوسِهم أَقوَى وَأَوْسَعَ. وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَتْ الأُمُورُ الْكَوْنِيَّةُ قَدْ تَنْكَشِفُ لِلْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ لِقُوَّةِ إيمَانِهِ يَقِينًا وَظَنًّا؛ فَالأُمُورُ الدِّينِيَّةُ كَشْفُهَا لَهُ أَيْسَرُ بِطَرِيقِ الأَوْلَى؛ فَإِنَّهُ إلَى كَشْفِهَا أَحْوَجُ، فَالْمُؤْمِنُ تَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَدِلَّةٌ عَلَى الأَشْيَاءِ لا يُمْكِنُهُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا، فِي الْغَالِبِ، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ لا يُمْكِنُهُ إبَانَةُ الْمَعَانِي الْقَائِمَةِ بِقَلْبِهِ، فَإِذَا تَكَلَّمَ الْكَاذِبُ بَيْنَ يَدَيِ الصَّادِقِ، عَرَفَ كَذِبَهُ مِنْ فَحْوَى كَلامِهِ، فَتَدْخُلُ عَلَيْهِ نَخْوَةُ الْحَيَاءِ الإِيمَانِيِّ، فَتَمْنَعُهُ الْبَيَانَ، وَلَكِنْ هُوَ فِي نَفْسِهِ يكونُ قَدْ أَخَذَ حِذْرَهُ مِنْهُ، وَرُبَّمَا لَوَّحَ أَوْ صَرَّحَ بِهِ خَوْفًا مِنْ اللهِ، وَشَفَقَةً عَلَى خَلْقِ اللهِ، لِيَحْذَرُوا مِنْ رِوَايَتِهِ، أَوْ الْعَمَلِ بِهِ. وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الإِيمَانِ وَالْكَشْفِ يُلْقِي اللهُ فِي قَلْبِهِ أَنَّ هَذَا الطَّعَامَ حَرَامٌ؛ وَأَنَّ هَذَا الرَّجُلَ كذا وكذا، وأَنَّ هَذا الشَأْنَ كَذا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ظَاهِرٍ بَلْ بِمَا يُلْقِي اللهُ فِي قَلْبِهِ.
قولُهُ: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} أَيْ: أنَّ الأنهارَ تجري مِنْ تحتَ مَنازِلهم. أَخرجَه ابْنُ أبي حاتم، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، قَالَ: "تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ" يَعْنِي "تَحْتَ مَنَازِلِهِمْ وَأَرْضِهِمْ". وقيلَ: تجْري بَين أَيديهم، وَهُمْ يَرَوْنَها مِنْ عُلُوٍّ، لِقولِهِ تَعالى في سورةِ الزُخْرُفِ حِكايةً عَنْ فِرْعَوْنََ: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} الآية: 51. يَعْني بَينَ يَدَيَّ. وحكى أَبو عُبيدَةَ عَنْ مَسْروقٍ: أَنَّ أَنهارَ الجَنَّةِ تجري في غَيرِ أُخدودٍ، وقد تقدَّمَ ذَلِكَ مُسْتَوْفى.
قولُهُ: {في جنّاتِ النعيم} يَتَنَعَّمونَ فيها بما لا عَينٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَرٍ. وجنةُ النعيمِ أَعْلى غُرَفِ الْجَنَّة لما جاء في الحَديثِ الشَريفِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَباحٍ اللّخميِّ، قال: حدَّثني مَنْ شَهِدَ عُبادَةَ بْنَ الصامِتِ ـ رضي اللهُ عنه، يَقُولُ: (كُنَّا في المَسْجِدِ ومَعَنا أَبو بَكْرٍ الصِدِّيقُ ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يُقْرِئُ بَعْضُنا بَعْضاً القُرآنَ، فجاءَ عَبْدُ اللهِ ابْنُ أُبيٍّ بِنِ سَلولٍ ومعَهُ نَمْرَقَةٌ وزُرْبِيَةٌ، فَوَضَعَ واتَّكَأَ وكانَ صَبيحاً جَدْلاً، فقالَ: يا أَبَا بَكْرٍ، قلْ لمُحَمَّدٍ: يَأْتينا بِآيَةٍ كما جاءَ الأَوَّلونَ، جاءَ مُوسى بالأَلْواحِ، وجاءَ داوودُ بالزَبورِ، وجاءَ صالح بالنَّاقةِ، وجاءَ عِيسَى بالإنجيلِ وبالمائدَةِ، فبَكى أَبو بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فخَرَجَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالَ أَبو بَكْرٍ: قُوموا بِنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَسْتَغيثُ بِهِ مِنْ هَذَا المنافقِ، فقالَ رَسُولُ اللهِ: إِنَّهُ لا يُقامُ لي، إنَّما يُقامُ للهِ ـ عَزَّ وَجَّلَّ، فقُلنا، يا رَسُول الله، إنَّا لَقينا مِنْ هَذَا المنافِقَ. فقالَ: إِنَّ جِبريلَ قَالَ لي: اخْرُجْ فأَخْبرْ بِنِعَمِ اللهِ التي أَنْعَمَ بها عَلَيْكَ وفَضيلَتِهِ التي فُضِّلْتَ بها، فبَشَّرني أَنَّهُ بَعَثَني إِلَى الأَحمَرَ والأَسْوَدَ، وأَمَرَني إِنَّ أُنْذِرَ الجِنَّ، وآتاني كِتابَهُ وأنَا أُمِيٌّ، وغفَرَ ذَنْبي مَا تَقَدَّمَ وما تَأَخَّرَ، وذَكَرَ اسمي في الأَذانِ، وأَيَّدَني بالملائكةِ، وآتاني النصرَ، وجعلَ الرُعْبَ أَمامي، وآتاني الكَوْثَرَ، وجَعَلَ حَوْضي مِنْ أعظمِ الحِياضِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ووَعَدَني المَقامَ المحمودَ والناسُ مُهْطِعون مُقْنِعو رُؤوسِهم، وجَعَلني في أَوَّلِ زُمْرَةٍ تخرُجُ مِنَ الناسِ، وأَدْخَلَ في شفاعتي سبعينَ أَلْفاً مِنَ أُمَّتي الْجَنَّةَ بغيرِ حِسابٍ، وآتاني السُلْطانَ والمُلْكَ، وجَعَلني في أَعْلى غُرْفَةٍ في الْجَنَّةِ، في جَنَّاتِ النَعيمِ، فلَيْسَ فَوْقي أَحَدٌ إلاَّ المَلائكَةُ الذين يَحْمِلونَ العَرْشَ، وأَحَلَّ ليَ الغَنائمَ، ولمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ كَانَ قَبْلنا)). أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبي حاتمٍ في تفسيره: (9/312). وذكره ابْنُ كثيرٍ في تفسيره: (5/ 333). وقال حديثٌ غريبٌ جدّاً. وذكره ابْنُ رجبٍ في فتح الباري شرح صحيح البخاري له: (2/26) ولم يعلِّقْ بشيءٍ.
والنعيمُ: مِنْ تَنَعَّمَ، إذا تَناوَلَ ما فيهِ النِعْمَةُ وطيبُ العيشِ، يُقالُ نَعَّمَهُ تَنْعيماً فَتَنَعَّمَ، أَيْ جَعَلَهُ في نَعْمَةٍ، أَي: في لينِ عَيْشٍ وخِصْبٍ، قال تعالى في سورة الفجر: {فأكرمَهُ ونَعَّمَهُ} الآية: 15، وطَعَامٌ ناعِمٌ، وجارِيَةٌ ناعِمَةٌ. والنَعَمُ مختَصٌّ بالإبِلِ، وجمعُهُ أَنْعامٌ، وتَسْمِيَتُهُ بِذَلك لِكَوْنِ الإبِلِ عِنْدَهُمْ أَعْظَمَ نِعْمَةٍ، لكنَّ الأَنْعامَ تُقالُ للإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ أيضاً، ولا يُقالُ لها أَنْعامٌ حتى يَكونَ في جُمْلَتِها الإبِلُ، قال تعالى في سورة الزخرف: {وجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الفُلْكِ والأَنْعامِ ما تَرْكَبونَ} الآية: 12. وقال في سورة الأنعام: {ومِنَ الأَنْعامِ حَمُولَةً وفَرْشاً} الآية: 142. وقوله في سورة يونس: {فاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ ممَّا يَأْكُلُ النَّاسُ والأَنعامُ} الآية: 24. فالأَنْعامُ هَهُنا عامٌّ في الإبِلِ وغَيرِها. والنَعامَى رِيحُ الجَنوبِ الناعِمَةُ الهُبوبِ، وسمِّيَتْ النَّعامَةُ تَشْبيهاً لها بالنَعَمِ في الخِلْقَةِ، والنَعامَةُ المِظَلَّةُ في الجَبَلِ أيضاً، وعلى رَأْسِ البِئْرِ تَشْبيها بالنَعامَةِ في الهَيْئَةِ مِنَ البُعْدِ، والنَعائمُ مِنْ مَنازِلِ القَمَرِ تَشْبيهاً بالنَعامَةِ، وقولُ عنترةَ العبسيِّ:
ويكون مركبك القعود ورحله ......... وابْنُ النَّعامَةِ عِنْدَ ذَلِكَ مَركَبي
فقد قيل أراد رِجْلَهُ وجَعَلَها ابْنَ النَعامَةِ تَشْبيهاً بها في السرعةِ. وقيلَ النَعامَةُ باطِنُ القَدَمِ، ويقولونَ: تَنَعَّمَ فُلانٌ إذا مَشى مَشْياً خَفيفاً فَمِنَ النَعْمَةِ. ونِعْمَ كَلِمَةٌ تُسْتَعْمَلُ في المَدْحِ بإزاءِ بِئْسَ في الذَمِّ، قال تعالى: {نعم العبدُ إنَّهُ أوَّابٌ} سورة ص، الآيتان: 30 و 44، وقال في سورة الزمر: {فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} الآية: 74. وقال في سورة الأنفال: {نعمَ المولى ونعمَ النَصير} الآية: 40. وقال: {والأرض فرشناها فنعم الماهدون} سورة الذاريات، الآية: 48. وقال: {إنْ تُبْدوا الصَدَقاتِ فَنِعِمّا هي} سورة البقرة، الآية: 271. ويقال: إِنْ فَعَلْتَ كذا فَبِها وِنَعْمَتْ، أيْ: نِعْمَتِ الخَصْلَةُ هي، ويقالُ: فَعَلَ كَذا وأَنْعَمَ، إذا زَادَ، وأَصْلُهُ مِنَ الإنْعامِ، ونَعْم: كلمةٌ للإيجابِ مِنْ لَفْظِ النِعْمَةِ، فتقولُ: نَعَم، ويَصِحُّ أَنْ يقالَ: أَنْعَمُ مِنْهُ، أَيْ: أَلْيَنُ وَأَسْهَلُ.
أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ، عنِ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((نَعِيمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِرِضْوَانِ اللهِ عَنْهُمْ أَفْضَلُ مِنْ نَعِيمِهِمْ بِهَا فِي الْجِنَّانِ)). وأبو مالكٍ هو: قَيْسَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُبادَةَ الأَنصاريِّ الخَزْرَجيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وأَخرجَ أَحمدُ في الزُهْدِ عَنِ الحَسَنِ البصريِّ ـ رضي اللهُ عنهما، قال: بَلَغني أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّديقَ ـ رضي اللهُ عنه، كانَ يَقولُ في دُعائهِ: (اللهُمَّ أَسْأَلُكَ الذي هُوَ خَيرٌ في عاقِبَةِ الخَيرِ، اللهُمَّ اجْعَلْ آخرَ ما تُعْطِيني الخيرَ رِضْوانُكَ والدَرَجَاتِ العُلى في جَنَّاتِ النَعيمِ).
قولُهُ تَعالى: {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} يجوزُ أَنْ يَكونَ حالاً مِنْ مَفعولِ "يَهْديهم"، ويجوزُ أَنْ يَكونَ مُسْتَأْنَفاً، ويجوزُ أَنْ يَكونَ مَعْطوفاً على ما قبلَهُ، حُذِفَ مِنْهُ حَرْفُ العَطْفِ.
قولُهُ: {في جنات} يجوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ الجارُّ بَ "تَجْري" ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنَ "الأنهار"، ويجوزُ أَنْ يكونَ خَبراً بَعْدَ خَبرٍ لِ "إنَّ"، ويجوزُ أَنْ يَكونَ مُتَعَلِِّقاً بِ "يَهْدي".