وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
(19)
قولُهُ ـ تباركت أسماؤه: {وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا} يُبَيِّنُ ـ تَبارَكَ وتَعالى، أَنَّ التَوحيدَ مِلَّةٌ واحدةٌ مِنْذُ القديمِ أَجمعتْ عليْهِ الأُمَّمُ قاطِبةً، فِطْرَةً وتَشْريعاً. وذلكَ مِنْ عهدِ آدَمَ ـ عليْهِ الصَلاةُ والسَّلامُ، إلى أَنْ قَتَلَ قابيلُ هابِيلَ، وقيل: إلى زَمَنِ إِدْريسَ ـ عَليهِ السَّلام، وقيل: إلى زَمَنِ نُوحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، حينَ لم يَذَرِ اللهُ مِنَ الكافرينَ على الأرضِ دَيّاراً بالطوفانِ، وكانوا عَشَرَةَ قُرونٍ، إلى أَنْ ظَهَرَ الكُفْرُ فيما بَيْنَهم، وقيل: مِنْ لَدُنْ إبْراهيمَ الخليلِ ـ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ، إلى أَنْ أَظْهَرَ عَمْرُو بْنُ لَحي عبادةَ الأَصْنامِ. وعَنِ الكَلْبيِّ أَنَّ مَعنى كونهم أُمَّةً واحدَةً اتِّفاقُهم عَلى الكُفْرِ، وذلكَ في زَمَنِ إبْراهيمَ ـ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَّلامُ، ورُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ الحَسَنِ إلاَّ أَنَّهُ قالَ: كانوا كذلك مِنْ لَدُنْ وَفاةِ آدَمَ إلى زَمَنِ نُوحٍ ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، ثمَّ آمَنَ مَنْ آمَنَ، وبَقِيَ مَنْ بَقِيَ عَلى الكُفْرِ. فإنَّ الشِرْكَ وما يتفَرَّعُ عنهُ إنّما هو أَمْرٌ طارئٌ على هذه الجماعاتِ وشاذٌّ عنها، وإنَّما هِيَ جَهالاتٌ ابْتَدَعَها الغُواةُ خِلافاً للعامَّةِ، وشَقّاً لِعَصا جماعتِهم.
و "الناس" هو اسْمُ جمعٍ للبَشَرِ وتَعريفُهُ للاستغراق. والأمة: الجماعةُ العظيمةُ التي لها حالٌ واحدٌ في شيءٍ مَّا. والمُرادُ هُنا أُمَّةٌ واحدةٌ في الدين. والسِياق يَدُلُّ على أنَّ المرادَ أنها واحدةٌ في الدين الحقِّ، وهو التوحيدُ لأنَّ الحقَّ هو الذي يمكنُ اتِّفاقُ البَشَرِ عَلَيْهِ لأنَّه ناشئٌ عنْ سلامَةِ الاعْتِقادِ مِنَ الضَلال والتحريف. والإنسانُ لما أُنْشِئَ على فِطرةٍ كاملةٍ بعيدةٍ عن التكلُّفِ. ومِنَ المستحيلِ أَنْ تحمِلَ النَّاسَ عَلى الاتِّفاقِ على منهجٍ واحدٍ في الحياةِ، وقناعاتٍ واحدة.
وقيلَ إنَّ المُرادَ بالنَّاسِ العَرَبُ خاصَّةً وهُوَ يناسِبُ إيرادَ هذه الآيَةِ الكريمةِ لأنهم كانوا موضوع الآيةِ السابقة، وجوّزَ ذلك قرينةُ الخطاب. ويكون المراد تذكيرهم بعهد أبيهم إبراهيم ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، إذْ كان هُوَ وأَبناؤهُ وذُريَّتُهم على الحنيفيَّةِ والتوحيدِ، كما قالَ تَعالى في سورة الزخرف: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} الآيات: 26 ـ 28، أي في عقبه من العرب، فيكون التعريف للعهد.
قولُهُ: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ} بِتَأْخيرِ القَضَاءِ بَيْنَهم، والحلمِ عليهم، وإمهالهم إفساحاً في المجالِ لهم ليتوبوا إلى اللهِ مولاهم الحقِّ، أَوْ بِتَأْخيرِ العَذَابِ الفاصِلِ بَيْنَهم إلى يَوْمِ القِيامَةِ فإنَّهُ يومُ الفصل، حيث يفصلُ سبحانه بين الفريقين ويقضي بين المتخاصمين ويجازي كلاًّ بما قدَّمَ، إنْ خيراً فخيرٍ أو شرّاً فشرٌّ. فلولا أَنَّ اللهَ أرادَ إمهالَ البشرِ إلى يومِ الجزاءِ لأراهم وجهَ الفَصْلِ في اخْتِلافِهم باستئصالِ المُبْطِلِ وإبْقاءِ المُحِقّ. وهذه الكلمة أُجمِلَتْ هُنا، وجاءت في سورة الشورى بشيءٍ من التفصيلِ فقال: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} الآية: 14. والأجل هنا: هو أجل بقاء الأمم، وذلك عند انقراض العالم، فالقضاءُ بينهم إذاً مؤخَّرٌ إلى يوم الحساب. وفَصَّلَ بأكثر من ذلك في بيانِ معنى: "الكلمة" فقال في سورة هود: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} الآية: 118.
قولُهُ: {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} بتمييز الحقِّ من الباطل بإبقاء الحقِّ وإهلاكِ المبطلين بِأَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهم آياتٍ مُلْجِئَةً إلى اتِّباعَ الحَق ِّورَفْعِ الاخْتِلافِ، وصيغةُ الاسْتِقْبالِ لحكايَةِ الحالِ الماضيةِ وللدَّلالَةِ على الاسْتِمْرارِ.
قولُه تعالى: {وما كان الناسُ إلاًّ أُمَّةً} كان واسمُها وخبرُها ، و "إلاّ" أداةُ قصرٍ، وصيغة القصر للمبالغة في تأكيد الخبر لأنه خبر مهم عجيب هو من الحكم العمرانية والحقائق التاريخية بالمكان الأسمى، إذ القصر تأكيد على تأكيد باعتبار اشتماله على صيغتي إثبات للمثبت ونفي عما عداه، فهو أقوى من تأكيد رد الإنكار. وقد حَسَّنَ القصرَ هنا وقوعُه عَقِبَ الجِدالِ مَعَ الذينَ غَيَّروا الدين الحقَّ وروّجوا نِحْلَتَهم بالمعاذير الباطلة كقولهم: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ} الآية: 18 والجملةُ معترضةٌ بين المتعاطفين: "يقولون" في الآية (18) و"يقولون" في الآية (20). ومناسبة الاعتراضِ قولُه: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ} لأن عبادة الأصنام واختراع صفة الشفاعة لها هو من الاختلاف الذي أحدثه ضلال البشر في العقيدة السليمة التي فطر الله الناس عليها في أول النشأة، فهي مما يشمله التوبيخ الذي في قوله: {أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} الآية: 18.
قولُه: {ولولا كلمةٌ} لولا: حرفُ امتناعٍ لوُجودٍ، و "كلمة" مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ تقديرُهُ موجودٌ، وهذه الجملة معطوفةٌ على جملة "ما كان"، وجملةُ "سبقت" نَعْتٌ ل "كلمة".
قولُهُ: {فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} تقدمَ المجرورُ "فيه" للرعاية على الفاصلة.