وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
(15)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} هذا عطفٌ على جملةِ: {ولو يُعَجِّل اللهُ للناسِ الشَرَّ} من الآيةِ: 11. مِنْ هذه السورة الكريمة، لأنَّ ذلك ناشئٌ عَنْ قولهم قبل ذلك في سُورةِ الأَنْفالِ: {اللهُمَّ إِنْ كانَ هَذا هُوَ الحَقُّ مِنْ عِنْدِكَ فأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَمَاءِ، أَوِ ائتِنا بِعَذابٍ أليم} الآية: 32. كَما تَقَدَّمَ.
وفي الآيةِ الْتِفاتٌ مِنَ خطابِ المشركين حيث قال لهم مخاطباً في الآية التي قبلها {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الأَرْضِ} إلى الغَيْبَةِ "تُتْلَى عَلَيْهِمْ" إعْراضاً عنهم، مُتَوَجِّهاً بالخطابِ إلى الرسولِ ـ صَّلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، وكَانَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ إِذَا قَرَأَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، القُرْآنَ عَلَيْهِمْ طالبوهُ بتغيير القرآنِ أو تبديلِه إطماعاً له بإيمانهم. ووصفُ الآياتِ بالبَيِّنَاتِ لِزيادَةِ التَعْجيبِ مِنْ طَلَبِهم تَبديلَها لا بِطَلَبِ تَبْديلِهِ إذْ لا مَطْمَعَ في خَيرٍ مِنْهُ.
قولُهُ: {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} وصْفٌ لهؤلاء الذين إذا تليت عليهم آياتُه ـ سبحانه وتعالى، قالوا: " ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ" بأنَّهم لا يخافونَ يَوْمَ البَعْثِ والحِسابِ، ولا يَرْجونَ الثَوابَ مِنَ اللهِ تَعالى فِيهِ لأنَّهم لا يؤمنون باللهِ ولا باليومِ الآخر أَصْلاً.
قولُه: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} قَالُوا لَهُ: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ، وَضَعْ قُرْآناً غَيْرَهُ لَيْسَ فِيهِ مَا لاَ نُؤْمِنُ بِهِ مِنَ البَعْثِ، وَالجَزَاءِ عَلَى الأَعْمَالِ، وَلاَ مَا نَكْرَهُهُ مِنْ ذَمٍّ لآلِهَتِنَا. وسمّوا ما طَلَبُوا الإتيانَ بِهِ قُرآناً لأَنَّهُ عِوَضٌ عَنِ المُسمَّى بالقرآنِ، فإنَّ القُرآنَ عَلَمٌ عَلى الكِتابِ الذي جاءَ بِهِ محمَّدٌ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ ائْتِ بِغَيرِ هَذا ممَّا تُسَمِّيهِ قُرآناً.
وقدْ أَجمَلَ المُرادَ بالتَبْديلِ في الآيةِ لأنَّه مَعْلومٌ عِنْدَ السامعين. والتبديلُ يحتَمَلُ أن يكونَ في الذاتِ ويحتملُ أنْ يكون في الصفات، كأنْ يجعلَ مكان آيةَ عَذابٍ آيةَ رَحمَةٍ. وهكذا
ومعنى "غير هذا" أَيْ: ائْتِنا بما يُخالِفُ هذا الكتاب، أي كتابٍ آخر. والمرادُ بالمخالَفِ المُخالفَ لَهُ كُلِّهِ بالإعراضِ عَنْهُ وابْتِداءِ كتابٍ آخَرَ بَأَسالِيبَ أُخرى، إذْ لَيْسَ مُرادُهم أَنْ يَأْتي بِسُوَرَ أُخْرى غيرِ التي نَزَلَتْ مِنْ قَبْلُ لأنَّ ذَلِكَ حاصِلٌ، ولا غَرَضَ لهم فيهِ إذا كان مَعْناها مِنْ نَوْعِ سابقِها.
قولُهُ: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} وَرَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ آمِراً نَبِيَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ: إِنَّنِي عَبْدٌ مَأْمُورٌ، وَرَسُولٌ أُبَلِّغُ مَا يَأْمُرُنِي بِهِ رَبِّي، وَأتَّبِعُ أَوَامِرَهُ، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِي، وَلاَ مِمَّا تُجِيزُهُ لِي رِسَالَتِي، أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي. فقد أَمَرَ اللهُ نبيَّه بأنْ يجيبهم بما يَقْلَعُ شُبْهَتَهم مِنْ نُفوسِهم، ومِنْ نُفوسِ مَنْ يَتبعونهم مِنْ دَهمائهم.
قولُهُ: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} أيْ: لا أَتلوا عليكم إلاَّ ما يوحي به اللهُ إليَّ مِنْ وَعْدٍ ووَعيدٍ، وتحريم وتحليلٍ، وأَمْرٍ ونهْيٍ. وقد يُسْتَدَّلُ بهذا على مَنْعِ نَسْخِ الكتابِ بالسُنَّةِ؛ لأنَّه تَعالى يقولُ: "قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي"، وهذا فيه بُعْدٌ؛ فإنَّ الآيَةَ وَرَدَتْ في الردِّ على طَلبِ المُشْركينَ مِثْلَ القُرآنِ نَظْماً، ولم يَكُنِ الرسولُ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، قادراً على ذَلِكَ، ولم يَسْأَلوهُ تَبْديلَ الحُكْمِ دونَ اللَّفْظِ؛ ولأنَّ الذي يَقولُهُ الرَّسُولُ إذا كانَ وَحْياً لم يَكُنْ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِهِ، بَلْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ تعالى. وحتى الحديثُ النَبَوِيُّ فإنَّه لم يَكن لِيَأْتي مخالِفاً للقُرآنِ الكريمِ إلاَّ بإذْنِ اللهِ، فإنَّه ـ صلَّى اللهً عَلَيْهِ وسَلَّمَ: {وما يَنْطِقُ عَنْ الهوى * إنْ هوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحى}، سورة النجم الآيتان: 3 و 4. ولِقَوْله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ، ((أَلا هَلْ عَسى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ الحديثُ عَني وهوَ مُتَّكِئٌ على أَريكَتِهِ فيَقولُ: بَيْنَنا وبَيْنَكمْ كتابُ اللهِ فَمَا وَجَدْنا فيهِ حَلالاً اسْتَحْلَلْناهُ، وما وَجَدْنا فيهِ حَرامًا حَرَّمناهُ، وإنَّ ما حَرَّمَ رَسولُ اللهِ كَما حَرَّمَ اللهُ)). أَخْرَجَهُ الترْمِذِيُّ عَنِ المِقدامِ بْنِ مَعْدِ َيكْرِبَ، وقال: حَسَنٌ غَريبٌ، (5/38، رقم 2664) وأخرجه أحمدُ، والطبرانيُّ، وأبو يعلى، وابنُ ماجةَ والدار قطنيّ، وأَخْرَجَهُ أَبو داوودَ وزادَ في أَوَّلِهِ: "أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ" وروي أيضاً عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وعَنْ العِرباضِ بْنِ ساريةَ و عن جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وعنْ أَبي رافعٍ مولى رسول اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، ورضيَ اللهُ عنهم، أجمعين، وقال شعيب الأرناؤوط حديث صحيح. وللحديث رواياتٌ بلغت حدَّ الكثرةِ بصيغٍ متقاربةٍ ومضمونها واحدٌ.
قولُه: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} هو من قولِ النبيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم: إِنِّي أَخَافُ عَذَابَ يَوْمٍ شَدِيدِ الخَطَرِ وَالهَوْلِ، إِنْ أَنَا عَصَيْتُ أَمْرَهُ، فغيرتُ أو بدَّلتُ. لأنَّه ـ عليه الصلاةُ والسلامُ، أَشَدُّ النَّاسِ خَشْيَةً للهِ، بما أنَّه أَكثرً مَعْرِفةً بِهِ سُبْحانَه.
قولُهُ تعالى: {وإذا تتلى عليهم} ضميرُ الغَيْبَةِ راجِعٌ إلى النَّاسِ والمُرادُ مِنْهم المشركون، أَوْ هو راجعٌ إلى "الذين" في قولِهِ: {إنَّ الذين لا يرجون لقاءنا} الآية: 7. مِنْ هذِهِ السُورَةِ المُبارَكَةِ. وتقدَّمَ الظَرْفُ "إذا" على عامِلِهِ وهو: "قَال الذين لا يرجون لقاءنا" للاهتمامِ بِذِكْرِ ذَلكَ الوَقْتِ الذي تُتْلى فيه الآياتُ عليهم فيَقولونَ فيهِ هذا القولَ، للتَعْجيبِ مِنْ كلامِهم، وتوهين أَحْلامِهم. ولكونِ العاملِ في الظَرْفِ فعلاً ماضياً، فعُلِمَ أَنَّ قولهم هذا واقعٌ في الزَمَنِ الماضي، فكانَتْ إِضافَةُ الظَرْفِ المُتَعَلِّقِ بِهِ إلى جملةٍ فِعلُها مُضارعٌ، وهوَ "تُتْلى" دالَّةٌ على أَنَّ ذلك المُضارِعَ لمْ يُرَدْ بِهِ الحالُ أَوِ الاسْتِقْبالُ، إذْ لا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكونَ الماضي واقعاً في الحالِ أَوِ الاسْتِقبْالِ، فتَعَيَّنَ أَنَّ اجْتِلابَ الفِعْلِ المُضارِعِ لمجرَّدِ الدَلالةِ على التَكَرُّرِ والتَجَدُّدِ، أَيْ: ذلِكَ قولُهم كُلَّما تُتْلى عَلَيْهِمُ الآياتُ. و "بَيِّنَاتٍ" نَصْبٌ على الحالِ مِنْ الآيات.
قولُه: {غيرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ} غير: نعتٌ ل "قرآن"، والإشارة "هذا" مضاف إليه، والضمير في "بدله" عائد إلى اسم الإشارة، من قوله "هذا القرآن" أي: أو بدِّلْ "هذا".
قولُه: {ما يكون لي أن أبدِّلهُ} المصدرُ المنسبك مِنْ "أن أبدله" اسم يكون، والجارُّ في "لي" خبرها.
قولُه: {مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} تِلْقاء: مصدرٌ على وزن "تِفْعال"، ولم يجيء مصدر بكسر التاء إلاَّ هذا والتِّبْيان.
وقوله: {إن أتبع إلاَّ ما يوحى إليَّ} إنْ: نافية، و "إلاَّ" للحصر و "ما" موصولة بمعنى الذي. والجملةُ مُسْتَأْنَفَةٌ في حيِّزِ القولِ، فلا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
وقولُه: {إني أخاف} إن: الناسخةَ واسمُها وخبرُها جملةُ "أخاف" وجملةٌ "إني" مُستأنفة في حيِّزِ القولِ في محلِّ نصبٍ به. وجملةُ "إن عصيت" اعتراضية لا محلَّ لها من الإعراب.
قرأ العامَّةُ: {تِلْقَاءِ} بكسر التاء، وقرئ شاذاً بفتحها، وهو قياسُ المصادر الدالة على "التَكرار" ك "التَّطْواف" و "التَّجوال". وقد يُسْتعمل التِّلقاء بمعنى قبالَتك، فينتصبُ انتصابَ الظروفِ المكانيَّة.