فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
(129)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّهُ: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ} الْتِفَاتٌ مِنْ خِطابِ العَرَبُ إلى خِطابِ النَبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، فيما كانَ مُقْتَضى الظاهِرِ أَنْ يُخاطَبُوا هُمْ بِهِ اعْتِماداً على قَرينَةِ فاءِ التَفْريعِ فَقيلَ لَهُ: "فإن تولوا فقل حسبي الله". والتقديرُ: فإنْ تَوَلَّيْتُمْ عَنْهُ فَحَسْبُهُ اللهُ، وَقُلْ حَسْبيَ اللهُ. فَجيءَ بهذا النَظْمِ البَديعِ الإيجازِ مَعَ ما فِيهِ مِنْ بَراعَةِ الإيماءِ إلى عَدَمِ تَأَهُّلِهم لِخِطابِ اللهِ تعالى على تَقْديرِ حالةِ تَوَلِّيهم. ومعنى التَوَلي: الإعْراضُ والإدْبارُ. وهو مُسْتَعارٌ هُنا للمُكابَرَةِ والعِنادِ. والحَسْبُ: الكافي، أَيْ كافيكَ شَرَّ إْعراضِهم لأنهم إنْ أَعْرَضوا بَعْدَ هذا فقد أَعْرَضوا عَنْ حَسَدٍ وحِنْقٍ. وتلكَ حالةُ مَظَنَّة السَعْيِ في الكَيْدِ والأَذَى. والمقصودُ بالأَمْرِ أَنْ يَقولَ: "حَسْبيَ اللهُ" عَقْدُ القَلْبِ عَلَيِهِ، أَيْ: فاعْلَمْ أَنَّ حَسْبَكَ اللهُ، فقُلْ حَسْبيَ اللهُ، والقولُ يُؤَكِّدُ المعلومَ ويُرَسِّخُهُ في نَفْسِ العالمِ بِهِ، وفي هذا القولِ إبلاغٌ للمُعْرِضِينَ عَنْهُ بِأَنَّ اللهَ كافيهِ إيَّاهم.
قولُهُ: {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أيْ: لا مَعْبودَ سِواهُ سبحانَه. و "لا إلهَ" نَفْيٌ، و "إِلاَّ هُوَ" إثْباتٌ، إذاً: ففِي هذا القولِ: "لا إله إِلاَّ هُوَ" نَفيٌ مَنْطِقيٌّ مَعَ سَلْبٍ، وإثباتٌ مَنْطِقيٌّ مَعَ إيجابٍ، وهُنا نَفْيُ أَيِّ أُلُوهِيَّةٍ لِغَيرِ اللهِ، والاسْتِثْناءُ مِن ذَلِكَ هُوَ اللهُ، وإذا كان "لا إلهَ إلاَّ هُوَ" وَجَبَ أَنْ يَكونَ لا مُبْدِئَ لِشيْءٍ مِنَ المُمْكناتِ، ولا مُحْدِثَ لِشَيْءٍ مِنَ المُحْدَثاتِ إلاَّ هُوَ، وإذا كان هُوَ الذي أَرْسَلَني بهذه الرسالةِ، وأَمَرَني بهذا التَبْليغِ كانَتِ النُصْرَةُ عَليْهِ والمعونَةَ مِرْتَقَبَةٌ مِنْهُ.
قولُه: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} وعلى عَوْنِهِ اتَّكَلْتُ، وإليْهِ وإلى نَصْرِهِ اسْتَنَدْتُ، فإنَّهُ ناصِري ومُعِيني على مَنْ خالَفَني وتَولّى عَنّي مِنْكم، ومِنْ غيرِكُم مِنَ الناسِ، فلا أَرْجو غيرَهُ، ولا أَخافُ إلاَّ مِنْهُ ـ سبحانَه وتعالى.
والتَوَكُّلُ: حقيقتُهُ التَفْويضُ. وهَوَ مُبالَغَةٌ في "وَكَل". وتقديمُ الجارِّ والمجْرورِ لإفادَةِ الحَصْرَ، أَيْ: لا أَتَوَكَّلُ إلاَّ عَلَيْه، ولا أَثِقُ إلاَّ بِهِ.
ولمْ يُؤْمَرْ بِمُجَرَّدِ التَوَكُّلِ وحَسْبُ، كَما أُمِر بِهِ في قولِهِ تَعالى: {فتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلى الحقِّ المُبينِ} سورةُ النَمْلِ، الآية: 79. ولا أُخْبرَ بِأَنَّ اللهَ حَسْبُهُ مًجَرَّدَ إخْبارٍ كما في قولِهِ تعالى: {فإنَّ حَسْبَكَ اللهُ} سورة الأَنْفال، الآية: 62. بل أُمِرَ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ، بِأَنْ يَقولَ هَذِهِ الكَلِمَاتِ بِعَيْنِها، تَنويهاً بها وإشعاراً ببرَكَتِها، وهَذا ما أفادَتهُ هذِهِ الآيَةُ الكريمةُ.
قولُهُ: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} الذي يَمْلُكُ كُلَّ ما دونَهُ، والملوكُ كُلُّهُمْ ممالِيكُهُ وعَبِيدُهُ. وخَصَّصَ "العرش" بالذكر من بينِ مخلوقاته لأنَّه أَعْظَمُها على الإطلاقِ، وهُو سبحانَهُ رَبُّ العَرْشِ العَظيم. والمسوِّغُ لهذا التَخصيصِ أَنَّهُ كُلَّما كانَ الأثَرُ أَعْظَمَ وأَكْرَمَ، كلَّما كانَ ظُهورُ جَلالَةِ المُؤَثِّرِ في العَقْلِ والخاطرِ أعمَّ وأَحكمَ، فالمَقْصودُ مِنْ ذِكْرِهِ تَعْظيمِ جَلالِ اللهِ ـ سُبْحانَهُ وتعالى.
وقد عُطِفَ قولُهُ: "وَهوَ رَبُّ العَرْشِ العَظيم" على قولِهِ: "عليهِ توكَّلتُ" للثَنَاءِ بِعَظِيمِ القَدْرَةِ على خالقِ السماوات والأرضِ وما فيهنَّ، لأَنَّ مَنْ كانَ رَبَّاً للعَرْشِ العَظيمِ ثَبَتَ أَنَّهُ قَديرٌ، لأنَّهُ قَدِ اشْتُهِرَ أَنَّ العَرْشَ أَعْظَمُ المخلوقاتِ، ولِذلكَ وُصِفَ بالعَظيمِ، فالعَظيمُ في هذهِ الآيةِ صِفَةٌ للعَرْشِ.
وقد وَرَدَ في عِظَمِ العَرْشِ ووَصْفِهِ، وأَسبابِ تَسْمِيتِهِ وماهيَّتِهِ وكيفيَّةِ خلقِهِ العديدُ مِنَ الآثارِ، مِنْ ذلك ما أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، قال: إنَّما سُمِّيَ العَرْشُ عَرْشاً لارْتِفاعِهِ.
وأخرج ابْنُ أَبي حاتمٍ، وأبو الشَيْخِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، قالَ: ما يَقدِرُ قَدْرَ العَرْشِ إلاَّ الذي خَلَقَهُ، وإنَّ السَمَواتِ في خَلْقِ العَرْشِ مِثلُ قُبَّةٍ في صَحْراءَ.
وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ، في العَظَمَةِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قالَ: إنَّ اللهَ تَعالى خَلَقَ العَرْشَ والكُرْسِيَّ مِنْ نُورِهِ، فالعَرْشُ مُلْتَصِقٌ بالكُرْسِيِّ، والملائكَةُ في جَوْفِ الكُرْسِيِّ، وحَوْلَ العَرْشِ أَرْبَعَةُ أَنهارٍ: نهرٌ مِنْ نَورٍ يَتِلأْلأُ، ونهرٌ مِنْ نارٍ تَتَلَظّى، ونهرٌ مِنْ ثَلْجٍ أَبْيَضٍ تَلْتَمِعُ مِنْهُ الأَبْْصارُ، ونهرٌ مِنْ ماءٍ، والملائكةُ قيامٌ في تِلْكَ الأَنهارِ يُسَبِّحونَ اللهَ تَعالى، وللعَرْشِ أَلْسِنَةٌ بِعَدَدِ أَلْسِنَةِ الخَلْقِ كُلِّهم، فَهُوَ يُسَبِّحُ اللهَ تَعالى ويَذْكُرُهُ بِتِلْكَ الأَلْسِنَةِ.
وأَخْرَجَ سَعيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ، عَنْ مجاهِدٍ قال: ما أَخَذَتِ السَمَواتُ والأَرْضُ مِنَ العَرْشِ إلاَّ كَما تَأْخُذُ الحَلَقَةُ مِنْ أَرْضِ الفَلاةِ. وأخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنْ كَعْبٍ قال: إنَّ السَمَواتِ في العَرْشِ كالقِنْديلِ مُعَلَّقاً بَينَ السَماءِ والأَرْضِ.
وأَخْرَجَ أَبو الشَيْخِ عَنْ حمَّادٍ، قال: خَلَقَ اللهُ العَرْشَ مِنْ زُمُرُّدَةٍ خَضْراءَ، وخَلَقَ لَهُ أَرْبَعَ قوائِمَ مِنْ ياقوتَةٍ حمْراءَ، وخَلَقَ لَهُ أَلْفَ لِسانٍ، وخَلَقَ في الأَرْضِ أَلْفَ أُمَّةٍ، كُلُّ أُمَّةٍ تُسَبِّحُ اللهَ بِلِسانٍ مِنْ أَلْسُنِ العَرْشِ.
وأَخْرَجَ أَبو الشَيْخِ عَنِ الإمامِ الشَعْبِيِّ، قال: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((العَرْشُ ياقوتَةٌ حمراءَ، وإنَّ مَلَكاً مِنَ المَلائكَةِ نَظَرَ إلَيْهِ وإلى عِظَمِهِ فأوْحى اللهُ إلَيْهِ: إني قَدْ جَعَلْتُ فِيكَ قُوَّةَ سَبْعينَ أَلْفَ مَلَكٍ، لِكُلِّ مَلَكٍ سَبْعونَ أَلْفَ جَناحٍ فَطِرْ. فَطارَ المَلَكُ بما فيهِ مِنَ القُوَّةِ والأَجْنِحَةِ ما شاءَ اللهُ أَنْ يَطيرَ، فوَقَفَ فَنَظَرَ فَكَأَنَّهُ لمْ يَرْمِ)). وأَخرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ في العَظَمَةِ، عَنْ سَعْدٍ الطّائيِّ، قالَ: العَرْشُ ياقوتَةٌ حمراءَ.
كما وَرَدَتْ في فَضْلِ هذِهِ الآيةِ الكَريمَةِ آثارٌ جليلةٌ، منها ما أَخْرَجَ أَبو دَاوودَ، عَنِ أَبي الدَرْداءِ مَوْقوفاً، وابْنُ السنيِّ عَنهُ مرفوعاً قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((مَنْ قالَ حِينَ يُصْبِحُ وحينَ يُمْسي: "حَسْبيَ اللهُ لا إلهَ إلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وهوَ رَبُّ العَرْشِ العَظيمِ". سَبْعَ مَرَّاتٍ كَفَاهُ اللهُ ما أَهَمَّهُ مِنْ أَمْرِ الدُنْيا والآخِرَةِ)).
وأَخْرَجَ أَبو الشيْخِ، عَنْ محمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قال: خَرَجَتْ سَرِيَّةٌ إلى أَرْضِ الرُومِ، فَسَقَطَ رَجُلٌ مِنْهم فانْكَسَرَتْ فَخِذُهُ، فَلَم يَسْتَطيعوا أَنْ يَحْمِلوهُ فَرَبَطوا فَرَسَهُ عِنْدَهُ، ووَضَعُوا عِنْدَهُ شَيْئاً مِنْ ماءٍ وَزادٍ، فلَمَّا وَلُّوا، أَتَاهُ آتٍ فقالَ لَهُ: ما لَكَ هَهُنا؟ قال: انْكَسَرَتْ فَخِذِي، فَتَرَكَني أَصْحابي. فقال: ضَعْ يَدَكَ حَيْثُ تَجْدُ الأَلمَ. فَقُلْ: "فإنْ تَوَلَّوا فَقُلْ حَسْبيَ اللهُ لا إلهَ إلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظيم". قالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ فَقَرأَ هَذِهِ الآيَةَ، فَصَحَّ مَكانُهُ، ورَكِبَ فَرَسَهُ وأَدْرَكَ أَصْحابَهُ.
وأَخْرَجَ ابْنُ النَجَّارِ في تاريخِهِ، عَنِ الحَسَنِ ـ رضي اللهُ عنه، قالَ: مَنْ قالَ حِينَ يُصْبِحُ سَبْعَ مَرَّاتٍ: "حَسْبيَ اللهُ لا إلهَ إلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وهو رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ". لمْ يُصِبْه ُذَلِكَ اليَوْمِ، ولا تَلْكَ اللَّيْلَةِ كَرْبٌ، ولا سَلْبٌ، ولا غَرَقٌ.
وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وأحمدُ، والبُخارِيُّ، ومُسْلَم، والتِرْمِذِيُّ، والنَّسائيُّ، وابْنُ ماجَةَ، والبَيْهَقِيُّ في الأسماءِ والصِفاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قالَ: كانَ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، يَقولُ عِنْدَ الكَرْبِ: ((لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ العَظيمُ الحَليمُ، لا إلهَ إلاَّ اللهُ رَبُّ العَرْشِ العَظيمِ، لا إلهَ إلاَّ اللهُ رَبُّ السَمَواتِ ورَبُّ الأَرْضِينَ، ورَبُّ العَرْشِ الكَريم)).
وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ جَعْفَر، أَنَّهُ زَوّجَ ابْنَتَهُ، فَخَلا بها فقالَ: إذا نَزَلَ بِكِ المَوْتُ، أَوْ أَمْرٌ مِنْ أُمورِ الدُنْيا فَظيعٌ، فاسْتَقْبِليهِ بِأَنْ تَقولي: (لا إلهَ إلاَّ اللهُ الحليمُ الكريمُ، سُبْحانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ العَظيمِ، الحمدُ للهِ رَبِّ العالمين).
وأَخْرَجَ النَّسائيُّ، والحاكِمُ، والبَيْهَقِيُّ، أيضاً عَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ جَعْفَر ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه قالَ: عَلَّمَني عَليٌّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَلِماتٍ عَلَّمَهُنَّ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، إيَّاهُ يَقولُهُنَّ عِنْدَ الكَرْبِ والشَيْءِ يُصِيبُهُ: (لا إلَهَ إلاَّ اللهُ الحَليمُ الكريمُ، سُبْحانَ اللهِ وتَبارَكَ اللهُ رَبُّ العَرْشِ العَظيمِ، والحَمْدُ للهِ رَبِّ العالمين).
وأَخْرَجَ الحَكيمُ التِرْمِذِيُّ، مِنْ طَريقِ إسْحَقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ ابْنِ جَعْفَر عَنْ أَبيهِ قال: كانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، يَقولُ: ((لَقِّنوا مَوْتاكُمْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ الحَليمُ الكَريمُ، سُبْحانَ اللهِ رَبِّ السَمَواتِ السَبْعِ ورَبِّ العَرْشِ العَظيمِ، الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالمين)). قالوا: يا رَسُولَ اللهِ فَكَيْفَ هِيَ للحَيِّ؟ قال: ((أَجْوَدُ وأَجْوَدُ)). وأَخْرَجَهُ ابْنُ ماجَةَ: (1/465، رقم 1446)، قالَ البُوصيريُّ (2/22): هذا إسْنادُ حَسَنٌ.
قولُهُ تَعالى: {فإنْ تَوَلّّوا} الفاءُ للتَفْريعِ على إرْسالِ النَبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، صاحِبِ هذِهِ الصِفاتِ إِلَيْهم، فإنَّ صِفاتَهُ المَذْكورَةَ تَقْتَضي مِنْ كُلِّ ذِي عَقْلٍ سَليمٍ مِنَ العَرَبِ الإيمانَ بِهِ واتِّباعَهُ لأنَّهُ مِنْ أَنْفُسِهم، ومُحِبٌّ لخيرِهِم، ورؤوفٌ رَحيمٌ بمَنْ يَتَّبِعُهُ مِنْهم، فَتَفَرَّعَ عَلَيْهِ أَنَّهم مُحَقَّوقونَ بالإيمانِ بِهِ فإنْ آمَنُوا فذاك وإن لمْ يُؤمنوا فإن الله حَسيبُهُ وكافيه. وقدْ دَلَّ الشَرْطُ عَلى مُقابِلِهِ لأنَّ "فإن تولوا" يَدُلُّ عَلى تَقْديرِ ضِدِّهِ، وهُوَ إِنْ أَذْعَنوا بالإيمان. وهذه الجملةٌ معطوفةٌ على جملةِ "جَاءَكُمْ"، فلا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ {حسبي اللهُ لا إلهَ إلاَّ هوَ} حسبي اللهُ: مُبْتَدَأٌ، وخبرُهُ، "لا" نافيةٌ للجِنْسِ تعملُ عملَ "إنّ"، و "إلهَ" اسمُها مَنْصوبٌ بها، وخبرُها محذوفٌ تقديرُه: مُسْتَحِقٌ للعِبادَةِ، و "إلا" أداةُ حَصْرٍ، "هو" بَدَلٌ مِنَ الضَميرِ المُسْتَتِرِ في الخَبَرِ المحذوفِ، وجملةُ التَنْزيهِ حالٌ مِنْ لَفْظِ الجَلالَةِ.
قولُهُ: {عليه توكلت وهوَ ربُّ} عليه توكَّلْتُ: جملةٌ في محلِّ نصبٍ حالاَ ثانيةً من لفظ الجلالة، وجملة "وهو ربُّ" مَعطوفةٌ على جملةِ "عليه توكلت".
قرأَ الجُمهورُ: {العَظيمِ} بجَرِّ الميمِ صفةً للعَرْشِ. وقرأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِرَفْعِها، فجَعَلَه نَعْتاً ل "رَبُّ"، ورُويتْ قراءةً عَنِ ابْنِ كَثيرٍ. قالَ أَبو بَكْرٍ الأَصَمُّ: وهذِهِ القِراءَةُ أَعْجَبُ إليَّ لأنَّ جَعْلَ العظيمِ صِفةًَ للهِ تَعالى أَوْلى مِنْ جَعْلِهِ صَفَةً للعَرْشِ.
وبعدُ فقدْ كان في هاتينِ الآيَتَينِ الكريمتينِ إِشْعارٌ بالإعذارِ للنَّاسِ، وتَنْبيهٌ إلى المبادَرَةِ باغْتِنامِ وُجُودِ الرَسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، بَينَ أَظْهُرِهم، لِيَتَشَرَّفوا بالإيمانِ بِه، وَهُمْ يُشاهِدونَهُ ويَقْتَبِسونَ مِنْ أَنْوارِ هَدْيِهِ، لأنَّ الاهْتِداءَ بمُشاهَدَتِهِ والتَلَقِّي مِنْهُ أَرْجَى لحُصولِ كَمالِ الإيمانِ، والانْتِفاعِ بِقَليلٍ مِنَ الزَمانِ لِتَحْصيلِ وافِرِ الخَيرِ الذي لا يحصُلُ مِثْلُهُ في أَضْعافِ ذَلِكَ الزَمَانِ.
وفيهِما أَيْضاً إيماءٌ إلى اقْتِرابِ أَجَلِ النَبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، لأنَّ التَذْكيرَ بِقَوْلِهِ: "لقد جاءكم" يُؤْذِنُ بِأَنَّ هذا المجيءَ الذي مَضَى عَلَيْهِ زَمَنٌ طَويلٌ يُوشِكُ أَنْ يَنْقَضْيَ، لأَنَّ لِكُلِّ وارِدٍ قُفُولاً، ولِكُلِّ طالِعٍ أُفُولاً. وقدْ رُوِيَ عَنْ أُبَيْ بْنِ كَعْبٍ، وقَتَادَةَ ـ رضي اللهُ عنهما، أَنَّ هاتين الآيَتَينِ هما أَحْدَثُ القُرآنِ عَهْداً باللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، أيْ: آخِرُ مَا نَزَلَ مِنَ القُرآنِ. وقيلَ: إنَّ آخِرَ القَرآنِ نُزولاً آيَةُ الكَلالَةِ خاتمةُ سُورَةِ النِساءِ. وقد تقدَّمَ ذلك هناك. وقيلَ آخِرُهُ نُزُولاً قولُهُ سبحانه، في سورة البقرةِ: {واتّقوا يوماً تُرْجَعونَ فيهِ إلى اللهِ ثمَّ تُوفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وهُمْ لا يُظْلَمُونَ} الآية: 281. وهو المرجَّحُ وقد بينّا ذلك في موضِعِهِ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
وفي صحيح البخاريِّ مِنْ حَديثِ زَيْدِ بْنِ ثابتٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنه، في جمعِ القُرآنِ زَمَنَ أَبي بَكْرٍ ـ رضيَ اللهُ عَنْه، قالَ زَيْدٌ: (حتى وَجَدْتُ مِنْ سُورَةِ التَوبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ خُزَيِمَةَ الأَنْصاريِّ لمْ أَجْدْهما مَعَ أَحَدٍ غَيرِهِ: "لقدْ جاءَكم رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكم عَزيزٌ عَليهِ ما عَنِتُمْ حَريصٌ عَلَيْكُمْ" إلى آخرهما. وأخرجه كذلك مِنْ طَريقِ إبراهيمِ بْنِ سَعْدٍ عَنِ الزُهْرِيِّ معَ أَبي خُزيمَةَ الأَنْصارِيِّ. ومَعنى ذَلِكَ أَنَّهُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، بَحَثَ عَنْ هاتينِ الآيَتَيْنِ في ما هُوَ مَكْتوبٌ مِنَ القُرآنِ الكريم، فَلَمْ يَجِدْهما، وهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ في آخِرِ سُورَةِ التَوْبَةِ آيَتَيْنِ خاتِمَتَيْنِ، أَوْ هُوَ يَحْفَظُهُما، فإنَّ زيْداً ـ رضي اللهُ عنه، اعْتَنى في جمعِ القُرآنِ بحِفْظِهِ وبِتَتَبُّعِ ما هُوَ مَكْتوبٌ منه بإمْلاءِ النَبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وبِقِراءَةِ حُفَّاظِ القُرآنِ غَيرِهِ، فوَجَدَ خُزَيمَةَ أَوْ أَبا خُزيمَةَ يَحْفَظُهُما. فلَمَّا أَمْلاهما خُزيمةُ أوْ أبوهُ عَلَيْهِ تَذَكَّرَ زَيْدٌ لَفْظَهُما وتَذَكَّرَهما مَنْ سمِعَهُما مِنَ الصَحابَةِ حينَ قرَأَوهما، كيفَ وقدْ قالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ـ رضي اللهُ عنه: إنَّهُما آخِرُ ما أُنْزِلَ، كما تقدَّم آنفاً، فَلَفْظُهُما ثابتٌ بالإجماعِ، وتَواتُرُهما حاصلٌ، إذْ لم يَشُكَّ فيهِما أَحَدٌ، وليسَ إثباتُهُما قاصِراً على إخبارِ خُزَيِمَةَ، أوْ أَبي خُزَيْمَةَ، واللهُ أعلمُ.
ولقد كانَتْ هذِهِ السُورَةُ سُورَةَ شِدَّةٍ وغِلْظَةٍ عَلى المُشْركينَ وأَهْلِ الكتابِ والمُنافِقينَ مِنْ أَهْلِ المَدينَةِ ومِنَ الأَعْرابِ، وأَمْراً للمُؤمِنينَ بالجِهادِ، وإنْحاءً باللاَّئِمَةِ على المُقَصِّرينَ في شَأْنِهِ. وتَخَلَّلَ ذَلِكَ تَنْويهٌ بالمُتَّصِفينَ بِضِدِّ ذَلكَ مِنَ المؤمِنينَ الذين هاجروا، والذين آوَوا ونَصَروا، والذين اتَّبَعُوا الرَّسُولَ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، في ساعةِ العُسْرةِ. فجاءتْ خاتمَتُها آيَتَيْنِ تُذَكّرانهم بالنعمةِ العظيمةِ عليهم والمِنَّةِ بِبِعْثَةِ محمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ، وللتَنْويهِ بِصِفاتِهِ الجامِعَةِ للكَمالِ. ومِنْ أَخَصِّها حِرْصُهُ على هُداهم، ورَغبَتُهُ في إيمانهم ودُخُولهِمْ في جامِعَةِ الإسْلامِ لِيَكونَ رَؤوفاً رَحيماً بهم، ولِيَعْلَموا أَنَّ ما لَقِيَهُ المُعْرِضونَ عَنِ الإسْلامِ مِنَ الإغْلاظِ عليهم بالقولِ والفِعْلِ ما هُوَ إلاَّ اسْتِصْلاحٌ لحالهم. وهذا مِنْ مَظاهِرِ الرّحمةِ التي جَعَلَها اللهُ تَعالى مُقارِنَةً لِبِعْثَةِ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، بِقولِهِ في سورة الأنبياءِ: {وما أَرْسَلْناكَ إلاَّ رَحمةً للعالَمينَ} الآية: 107، بحيثُ جاءَ في هاتينِ الآيتينِ بما شَأْنُهُ أَنْ يُزيلَ الحَرَجَ مِنُ قُلوبِ الفِرَقِ التي نَزَلَتْ فيهم آياتُ الشِدَّةِ وعُومِلوا بالغِلْظَةِ تَعقيباً للشِدَّةِ بالرَفْقِ وللغِلْظَةِ بالرَحمةِ، وكذلك هي عادةُ القرآنِ العظيم. فَقَدِ انْفَتَحَ بهاتين الآيتَينِ بابُ حَظيرةِ الإيمانِ والتَوْبَةِ لِيَدْخُلَها مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ إليْها.
تمّت بعون الله هذه السورة المباركة، فالحمد لله توفيقه