وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ
(127)
قولُهُ ـ تعالى وعزَّ: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} لِيَتَواطَؤوا عَلى الهَرَبِ كَراهَةَ سماعِها. ففِي هَذِهِ الآيةِ المباركةِ يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى حَالِ المُنَافِقِينَ الذِينَ يَكُونُونَ حَاضِرِينَ مَجْلِسَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، حِينَ نُزُولِ القُرْآنِ، وهم في مجالِ تَبْليغِ الوَحْيِ كَما أَنَّ الآيات السابقة بيانٌ لمقالاتهم وهم غائبونَ عنه. فَيَقُولُ: وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ وَهُمْ فِي المَجْلِسِ، تَسَارَقُوا النَّظَرَ، وَتَغَامَزُوا بِالعُيُونِ، إنكاراً لها أَوْ سُخْرِيَةً بها، أَوْ غَيْظاً لما فيها مِنْ مخازيهم، فِي ذَلِكَ الوَقْتِ الذِي تَخْشَعُ فِيهِ أَبْصَارُ المُؤْمِنِينَ، وَتَنْحَنِي رُؤُوسُهُمْ سَمعاً للهِ وَطَاعَةً. و "سُورَةٌ" المُرادُ بها سُورَةٌ مُشْتَمْلَةٌ على ما فيه افتضاحُ أَمْرِهم، والظاهرُ هو الإطْلاقُ ليشمَلَ أَيَّ سورةٍ تنزلُ على النبيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ.
قولُهُ: {هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا} يَتَشاوَرونَ في تَدْبيرِ الخُروجِ والانْسِلالِ لِواذاً، مُظْهِرينَ أَنَّهم لا يَصْطَبِرونَ على اسْتِماعِها، فربَّما يَغْلُبُ عَلَيْهم الضَحِكُ فيَفْتَضِحون، وترامَقوا يَقولون: "هلْ يَراكُم من أحدٍ" إنْ قُمْتُمْ مِنَ المجلِسِ، وَتَشاوَرُوا فِي كيفيَّةِ الانسحابِ خلسةً مِنَ المَجْلِسِ وخِفْيَةً دون أنْ يشعرَ أحدٌ بخروجهم، لِئَلاَ يُفْتَضَحَ أَمْرُهُمْ بِمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُخْرِيَةٍ وَإِنْكَارٍ. وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَلْ يَرَاكُمْ رَسُولُ اللهِ وَالمُؤْمِنُونَ إِذَا قُمْتُمْ مِنَ المَجْلِسِ؟ ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ جَمِيعاً مُتَسَلِّلينَ كُرْهاً مِنْهُمْ أَنْ يَسْمَعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ. وإيرادُ ضَميرِ الخِطابِ لِبَعْثِ المُخاطَبينَ عَلى الجِدِّ في انْتِهازِ الفُرْصَةِ، فإنَّ المَرْءَ بِشَأْنِهِ أَكْثَرُ اهْتِماماً مِنهُ بِشَأْنِ أَصْحابِهِ، وهو كقولِهِ تعالى في سورة الكهف: {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} الآية: 19. أَيْ: ثمَّ انْصَرَفوا جميعاً عَنْ مَحْفَلِ الوَحْيِ لِعَدَمِ تَحَمُّلِهم سَماعَ ذَلكَ لِشِدَّةِ كَراهَتِهم، أَوْ مخافَةَ الفَضيحةِ بِغَلَبَةِ الضَحِكِ أَوْ الاطِّلاعِ على تَغامُزِهم. أَوْ انْصَرَفوا عَنِ المجلسِ بِسببِ الغيظِ، وقيلَ: المُرادُ انْصِرافُهم عَنِ الهِدايَةِ، والأَوَّلُ أَظْهَرُ. ويجوزُ أَنْ يُرادَ بِهِ، ثمَّ انْصَرفوا عَنِ اسْتِماعِ القُرآنِ إلى الطَعْنِ فِيهِ وإنْ ثَبَتُوا في مَكانِهم.
قولُهُ: {صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} وَقَدْ صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ عَنِ الهُدَى وَالإِيمَانِ جرَّاءَ انْصِرافِهمْ عَنِ ذَلكَ المجلس، لأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ مَا يَسْمَعُونَ، وَلاَ يَعْقِلونَ، وَلاَ يَتَدَبَّرُونَ مَا يَسْمَعُونَ. والجملة تحتملُ الإخبارَ والدُعاءَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: عَنْ كُلِّ رُشْدٍ وخَيرٍ وهُدى، وقالَ الحَسَنُ: صَرَفَ اللهُ قلوبهم وطَبَعَ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ، وقالَ الزَجّاجُ: أَضَلَّهُمُ اللهُ تَعالى. ونُقِلَ عَنْ محمَّدِ بْنِ إسْحقَ أَنَّهُ قال: (لا تَقولوا انْصَرَفْنا مِنَ الصلاةِ، فإنَّ قوماً انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قلوبَهم، لكن قولوا قَدْ قَضَيْنا الصَلاةَ). فإنَّهُ تَعالى قالَ في سورة الجمُعةِ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فانْتَشِروا فِي الأرْضِ وابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهَ} الآية: 10.
قولُهُ تَعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هل يراكم من أحدٍ} ما: زائدة، وقيل: صلة. و "من" حرفُ جرٍّ زائد، و "أحدٌ" فاعلُ "يراكم" و "هل يراكم" في محلِّ نَصْبٍ بِقولٍ مُضْمَرٍ، أَيْ: يَقولون: "هل يراكم من أحدٍ". فلا بُدَّ مِنْ تَقديرِ القَوْلِ قبلَ الاسْتِفْهامِ لِيَرْتَبِطَ الكَلامُ، فإنْ قُدِّرَ اسْماً كانَ نَصْباً على الحالِ، وإنْ قُدِّرَ فِعْلاً كانَتِ الجُمْلَةُ في مَوْضِعِ الحالِ أَيْضاً، كما قدَّمنا، ويجوزُ جَعْلُها مُسْتَأْنَفَةً. وجملةُ القولِ في محل نَصْبٍ على الحالِ. وجملةُ القولِ في محل نَصْبٍ على الحالِ،
قولُهُ: {ثُمَّ انْصَرَفوا} عطفٌ على نَظَرَ بَعْضُهم، والتَراخِي الذي أفادتْه "ثمَّ" باعْتِبارِ وُجْدانِ الفُرْصَةِ وعَدَمِ رُؤْيةِ أَحَدٍ مِن المؤمنين انْصِرافَهم.
قولُهُ: {صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ} اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ، لأنَّ ما أفادَهُ قولُهُ: "ثُمَّ انْصَرَفُوا" مِنْ عَدَمِ انْتِفاعِهم بما في تِلْكَ السُورَةِ مِنَ الإخْبارِ بالمُغَيَّباتِ للدَلالةِ عَلى صِدْق الرَسولِ ـ صَلىَّ اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، قد يُثيرُ السُؤالَ عَنْ سَبَبِ عَدَمِ انْتِفاعِهم بِذَلكَ، فالجوابُ: لقد صَرَفَ اللهُ قلوبهم عَنِ الفَهمِِ بَأْمْرٍ تَكْوينيٍّ، فحُرِمُوا الانْتِفاعَ بِأَبْلَغِ واعِظٍ وأَنْفَعِ وَعْظٍ.
قولُهُ: {بِأَنَّهُمْ} الباءُ السببيّةُ حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ ب "صرف" أو بِ "انصرفوا". وجملةُ: "لا يفقهون" نَعْتٌ لِ "قوم".