يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
( 28 )
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} استئنافٌ للأمر بإقصاءِ المُشرِكينَ عَنْ المَسْجِدِ الحرامِ الذي جاء في الآية السابعة عشرة من هذه السورة الكريمة، جاءَ لِتَأْكيد الأمْرِ بإبْعادِهم عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ مَعَ تَعْلِيلِ هذا الأَمرِ بِعِلَّةِ أُخرى تَقْتَضِي إبْعادَهمُ عَنْه: وهِيَ أَنَّهم نَجَسٌ. وفي هذا التَعبيرِ ما فِيهِ من بيانٍ بَديعٍ مُصَوِّرٍ مُجَسِّمٍ لهم، حَتَّى لَكَأَنَّهم بِأَرْواحِهم وماهِيَّتِهم وكَيانِهم نَجْسٌ يَمْشي على الأرضِ فيَتَحاشاهُ المُتَطَهِّرون، ويَتَحاماهُ الأَتْقياءُ مِنَ الناسِ.
والنجسُ: هو عينُ الخَبَثِ، وَقَدْ وَصَفَهُمُ اللهُ تَعالى بِذَلِكَ على وَجْهِ المُبالَغَةِ في خُبْثِهم، إِمَّا لِخُبْثِ باطِنِهم بما تحويهِ مِنْ كُفْرٍ، أَوْ لأنَّهم لا يَتَطَهَّرونَ مِنَ النَجاساتِ، في الغالبِ، ولا يَتَوَقَّوْن مِنْها، أَوْ لِلأَمْرَيْنِ معاً. وقد جاء عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ أَعْيانَهم نَجِسَةٌ كالكِلابِ. وروي عنه أيضاً أنَّهُ قال: بَلْ مَعنى الشِرْكِ هُو الذي كَنَجَاسَةِ الخَمْرِ، وقالهُ غيرُه أيضاً. وقالَ الحَسَنُ البَصْرَِيُّ ـ رضي اللهُ عنه: مَنْ صافَحَ مُشْرِكاً فَلْيَتَوَضَّأَ. وقالَ قَتادَةُ ومُعَمَّرُ بْنُ راشِدٍ وغيرُهما: صِفَةُ المُشْرِكِ بالنَجَسِ إنَّما كانَتْ لأنَّهُ جُنُبٌ إذْ غِسْلُهُ مِنَ الجَنابَةِ لَيْسَ بِغُسْلٍ. فمَنْ قالَ بِسَبَبِ الجَنابَةِ أَوْجَبَ الغُسْلِ على مَنْ يُسْلِمُ مِنَ المُشْرِكين، ومَنْ أَخَذَ بالقَوْلِ الأوَّلِ لمْ يُوجِبْه.
قولُه: {فَلا يَقْرَبوا المَسْجَِدَ الحرامَ} هو تفريعٌ على نَجَاسَتَِهم، والمُرادُ بالنَهْيُ عَنْ القربِ الدُخُولُ وقد عُبِّرَ بالقربِ مُبالَغَةً في النهيِ لإِبعادِهم عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ. والأمرُ بالنهي، وإنْ كانَ مُوَجَّهاً إلى المُشْرِكينَ، إلاَّ أَنَّ المَقصودَ مِنْهُ أَمرُ المؤمنين بعدمِ تمكينِهم مِنْ ذَلك. وهذا نَصٌّ بمَنْعِ المُشرِكِينَ، مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ، وهُم عَبَدَةُ الأَوْثانِ، وهُوَ مُجْمَعٌ عليه. وقاسَ مالكٌ ـ رضي اللهُ عنه، علىَ المُشْرِكينَ جميعَ الكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الكِتابِ وغيرِهم. وقاسَ كذلك على المَسْجِدِ الحَرامِ سائرَ المَساجِدِ، ومَنَعَ جميعَ الكُفَّارِ مِنْ جميعِ المَساجِدِ. وكذلك كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العزيزِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، إلى عُمَّالِهِ، ونَزَعَ في كِتابِهِ بهذِهِ الآيةِ، ويُؤَيِّدُ ذلكَ قولُهُ تَعالى في سورةِ النور: {في بيوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ} الآية: 36. وجعَلَها الشافِعِيُّ ـ رضي اللهُ عنه، عامَّةً في الكُفَّارِ، خاصةً بالمَسْجِدِ الحَرامِ، فمَنَعَ جميعَ الكُفَّارِ مِنْ دُخولِ المَسْجِدِ الحَرامِ خاصَّةً، وأَباحَ دُخولَ غيرِهِ. أمَّا أَبو حَنيفَةَ ـ رضيَ اللهُ عنه، فقصرَها على مَوْضِعِ النَهْيِ، فمَنَعَ المُشْرِكين خاصَّةً، مِنْ دُخولِ المَسْجِدِ الحرامِ وأَباحَ لهمْ سائرَ المَساجِدِ، وأَباحَ دُخولَ أَهْلِ الكِتابِ إلى المَسْجِدِ الحرامِ وغيرِهِ. لما أَخرجَ الإمامُ أحمدُ ابْنُ حنبلٍ ـ رضي اللهُ عنه، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وابْنُ مردويْهِ، عَنْ جابِرٍ بْنِ عبدِ اللهِ ـ رَضِيَ الله عَنْهُ، قال: قالَ رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى الله عليه وسلَّمَ: ((لا يَدْخُلُ المَسْجِدَ الحَرامَ مُشْرِكٌ بَعْدَ عامي هذا أَبَداً، إلاَّ أَهْلَ العَهْدِ وخَدَمِكُم)). وأَخْرَجَ عَنْهُ أيضاً عبدُ الرَزّاقِ، وابْنُ جَريرٍ الطبريُّ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ، وابْنُ مَرْدويْهِ، في قولِهِ تعالى: "إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا" إلاَّ أَنْ يَكونَ عَبْداً أَوْ أَحَداً مِنْ أَهْلِ الذِمَّةِ.
قولُه: {بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} يَعني: سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الهِجْرَةِ، حينَ حَجَّ أَبو بَكْرٍ بالنّاسِ، وقَرَأَ عليهِم عَليٌّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، سورةَ (بَراءَة). فقد أَمَرَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بِمَنْعِ المُشْرِكِينَ مِنْ دُخُولِ المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَالطوَافِ بِالكَعْبَةِ، وذلك بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ، لِذَلِكَ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ أَنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ هَذا العَامِ مُشْرِكٌ، لأَنَّهُمْ قَذِرُونَ، قَلِيلُو النَّظَافَةِ (نَجَسٌ)، وَأَلاَّ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَان. فقد أَخرَجَ ابنُ مردويْهِ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه، أَنَّ رَسولَ اللهِ ـ صَلّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، قالَ عامَ الفَتْحِ: ((لا يَدْخُلُ المَسْجِدَ الحرامَ مُشْرِكٌ، ولا يُؤَدِّي مُسْلِمٌ جِزْيَةً)). وأَخْرَجَ عبدُ الرَزّاقِ في المُصَنَّفِ عَنْ عُمَرَ بْنِ عبدِ العزيزِ ـ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: آخَرُ ما تَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ـ صلّى اللهُ عليهِ وسَلَّم، أنْ قال: ((قاتَلَ اللهُ اليَهودَ والنَصارى اتَّخَذوا قُبورَ أَنْبِيائهم مَساجِدَ، لا يَبْقى بِأَرْضِ العَرَبِ دِينان)). وأَخْرَجَ عبدُ الرَزاقِ عَنِ ابْنِ جُريْجٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: بَلَغني أَنَّ النَبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أَوْصى عِنْدَ مَوْتِهِ بِأَنْ لا يُتْرَكَ يَهُودِيٌّ ولا نَصْرانيٌّ بِأَرْضِ الحِجازِ، وأَنْ يَمْضِيَ جيشُ أُسامةَ إلى الشامِ، وأَوْصى بالقُبْطِ خَيراً فإنَّ لهم قَرابَةٌ. وأخرجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، رَفَعَهُ، قال: ((أَخْرِجوا المُشْركينَ مِنْ جَزيرَةِ العربِ)). وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ أَبي عُبَيْدَةَ بْنِ الجَرَّاحِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قال: إنَّ آخِرَ كلامٍ تَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْه وسَلَّمَ أَنْ قال: ((أخْرِجوا اليَهودَ مِنْ أَرْضِ الحِجازِ، وأَهْلَ نَجْرانَ مِنْ جَزيرَةِ العَرَبِ)). وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ جابِرٍ بنِ عبدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قالَ رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لَئِنْ بَقِيتُ لأُخْرِجَنَّ المُشْرِكينَ مِنْ جَزيرَةِ العَرَبِ))، فلمَّا وَليَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَخْرَجَهم.
قولُه: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ: إِذَا خِفْتُمْ بَوَارَ تِجَارَتِكُمْ، وَقِلَّةَ أَرْزَاقِكُمْ، بِسَبَبِ انْقِطَاعِ مَجِيءِ المُشْرِكِينَ إِلَى مَكَّةَ، فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَنْ ذَلِكَ، وَسَيُعَوِّضُ عَلَيْكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ إِنْ شَاءَ. والتقييدُ بالمَشيئةِ في قولِهِ: "إِنْ شَاءَ" لَيْسَ لِلتَّرَدُّدِ، بلْ هُوَ لِتَعليمِ المؤمنينَ الأَدَبَ معهُ سبحانه، كما هو في قولِهِ تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ المسجدَ الحرامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ} سورة الفتح، الآية: 27. ولِبَيانِ أَنَّ هذا الإغْناءَ بإرادتِهِ وحده سبحانه، فعَليهم أنْ يجعلوا اعْتِمادَهم عَلَيْهِ، وتَضَرُّعَهم إليه، لا إلى غيرِه، وللتَنْبيهِ على أَنَّ عطاءَهُ لهم، هو مِنْ بابِ التَفَضُّل لا الوُجوبِ، لأنَّهُ لو كان واجِباً ما قَيَّدَهُ بالمَشيئَةِ. وقدْ كانَ ما وعدَ بهِ اللهُ تعالى، فقد أَسْلَمَتِ العَرَبُ فَتَمادى حَجُّهم، وتوسَّعت تجارتُهم، وأَغْناهمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ بالجِهادِ والظُهورِ على الأُمَمِ.
أَخرجَ سَعيدُ بْنُ منصور، وابْنُ المُنذرِ، وابْنُ أبي حاتمٍ، عنْ ابْنِ عبّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قال: كانَ المَشْرِكونَ يَجيئونَ إلى البَيْتِ ويَجيئونَ مَعَهم بالطَعامِ يَتَّجِرونَ فيه، فلمّا نُهُوا عَنْ أَنْ يَأْتوا البَيْتَ قالَ المُسْلِمون: فَمِنْ أَيْنَ لَنا الطَعامُ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى: "وإنْ خِفْتم عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شاءَ" قال: فَأَنْزلَ اللهُ عليهِمُ المَطَرَ وكَثُرَ خَيرُهم حينَ ذَهَبَ المُشْرِكونَ عَنْهم. وأَخْرجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عنْ سعيدِ بْنِ جُبيرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ في قولِهِ تعالى: "فَسَوْفَ يُغْنيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ" قال: أَغْناهُمُ اللهُ تعالى بالجِزْيَةِ الجارِيَةِ. وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وأَبو الشيْخِ عَنْه أَيضاً ـ رَضِيَ اللهُ عنه، قولَه: لمَّا نَزَلَتِ: "إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا" شَقَّ على أَصْحابِ النَبيِّ ـ صَلّى اللهُ عليْه وسَلَّمَ، وقالوا: مَنْ يَأْتينا بِطعامِنا وبالمتاعِ؟ فنَزَلَتْ "وإنْ خِفتُمْ عَيْلَةً ..." الآية. وأََخْرَجَ ابْنُ مردويْهِ، عَنِ ابْنِ عبّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، قالَ: لمَّا نَفى اللهُ تَعالى إلى المُشركين عَنِ المَسْجِدِ الحرامِ، أَلْقى الشَيْطانُ في قلوبِ المَؤمنين فقال: مِنْ أَينَ تَأْكُلونَ وقدْ نُفِي المشركون وانْقَطَعَتْ عنكُمُ العِيرُ؟ فقالَ اللهُ تَعالى: "وإنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شاءَ" فأَمَرَهم بِقِتالِ أَهْلِ الكُفْرِ وأَغْناهم مِنْ فَضْلِهِ.
وأَخرجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وابْنُ المُنذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، عَنْ مُجاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في الآيَةِ قال: قالَ المؤمنون: قدْ كُنّا نُصيبُ مِنْ مَتاجِرِ المُشرِكينَ. فَوَعَدَهمُ اللهُ تَعالى أَنْ يُغْنيهم مِنْ فَضْلِهِ عِوَضاً لهم بِأَنْ لا يَقْرَبوا المَسْجِدَ الحرامَ، فهذِهِ الآيةُ مِنْ أَوَّلِ (بَراءَةٌ) في القِراءَةِ وفي آخِرِها التَأْويلُ.
و "العَيْلَةُ" الفَقْرُ، يُقالُ: عالَ الرَّجُلُ يَعيلُ عَيْلَةً، إذا افْتَقَرَ، ومنْهُ قولُ الشاعرِ أُحَيْحَةَ بْنِ الجَلاَحِ الأَوْسِيُّ الأَنْصارِيُّ:
وما يَدْري الفقيرُ متى غِناهُ ................. وما يَدْري الغَنِيُّ متى يُعيلُ
والبيتُ مِن ْقصيدةٍ لَهْ قالها في حربٍ كانت بَينَ قومِهِ مِنَ الأَوْسِ وبَني النَجّارِ مِنَ الخَزْرَجِ، قُتِلَ فيها أَخوهُ، منها:
وقد علِمتْ سَراةُ الأَوْسِ أنِّي ............... مِنَ الفِتْيانِ أَعْدِلُ لا أَميلُ
وقد أَعْدَدْتُ للحِدْثان حِصْناً ................ لَوَ انَّ المَرءَ تنفعُهُ العقولُ
وما يَدْري الفقيرُ متى غِناهُ ................. وما يَدْري الغَنِيُّ متى يُعيلُ
وَمَا تَدْرِي، إذَا أَجْمَعْتَ أَمْرًا .............. بِأَيِّ الأَرْضِ يُدْرِكُكَ المَقِيلُ
وكانتْ عِنْدَهُ امْرَأَتُهُ سَلْمَى بِنْتُ عَمْرٍو بْنِ زَيْدٍ النَجَّارِيَةُ، فحَذَّرَتْ قومَها مَجِيءَ أُحَيْحَةَ وقومِهِ مِنَ الأَوْسِ، فَضَرَبها حتى كَسَرَ يَدَها وطَلَّقَها.
قولُه: {إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أَيْ: إنَّ اللهَ عَليمٌ بِأَحْوالِكم ومَصالِحِكم، وبما يَكونُ عَلَيْهِ أَمْرُ حاضِرِكم ومُسْتَقْبَلِكم، حكيم فيما شَرَعَهُ لكم. فاسْتَجيبوا لَهُ لِتَنالوا السَعادَةَ في دُنْياكُمْ وآخِرَتِكم. فإنَّ مشيئتَه سُبْحانَه، تجرى حَسَبَ مُقْتَضى عِلْمِهِ وحِكْمَتِه، وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا فِيهِ الخَيْرَ وَالمَصْلَحَةَ، حَكِيمٌ فِيمَا يَشْرَعُهُ وَيُقَرِّرُهُ. ومِنَ الأحكامِ والآدابِ التي اشتملت عليها هذه الآيةُ:
ـ تَأَوَّلَ الكَثيرُ مِنَ الفُقَهاءِ أَنَّ المُرادَ بالمُشركين عَبَدَةُ الأَوْثان وغيرُهم مِنْ أَهْلِ الكِتابِ، ويَدُلُّ عليهِ كذلك قولُهُ تعالى في سورةِ النساءِ: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} الآية: 48. أيْ: لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ بِأَي لَوْنٍ مِنْ أَلْوانِ الشِرْكِ. ورأى جماعةٌ أُخرى مِنهم أَنَّ المُرادَ بالمُشركين هُنا عَبَدَةَ الأَوْثانِ فَحَسْب، لأنَّ الحديثَ خاصٌّ بهم مِنْ أَوَّلِ السُورةِ إلى هُنا.
ـ جمهورُ فُقَهاءِ المذاهبِ الأربعةِ، سلَفَهم وخَلَفهم، على أَنَّ نجاسَةَ المُشْرِكينَ مَرْجِعُها إلى خُبْثِ بَواطِنِهم لِعِبادَتِهم سِوى اللهِ تعالى، أَمَّا أَبْدانُهم فَطاهِرَةٌ، لأنَّهُ مِنَ المعلومِ أَنَّ المُسْلِمينَ كانُوا يُعاشِرونَ المُشْرِكينَ ويُخالِطونَهم. ومَعَ هذا فالنَبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، لم يَأْمُرْ بِغَسْلِ شيءٍ مما أَصابَتْهُ أَبْدانُهم. بَلِ الثابِتُ أَنَّهُ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، تَوَضَّأَ مِنْ مَزادَةِ مُشْرِكَةٍ وأَكَلَ مِنْ طَعامِ اليَهودِ، وأَطْعَمَ هُوَ وأَصْحابُهُ وَفْداً مِنَ الكُفَّارِ، ولمْ يَأْمُرْ بِغَسْلِ الأَواني التي أَكَلوا منها وشَرِبوا، ورَوى الإِمامُ أَحمَدٌ، وأَبو داوودَ، مِنْ حديثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعودٍ ـ رضي اللهُ عنه، قال: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَنُصيبُ مِنْ آنِيَةِ المُشْرِكينَ وأَسْقِيَتِهم، فَنَسْتَمْتِعُ بها، ولا يَعيبُ ذلك عَلَيْنا. في حين قالَ بعضُهم بِنَجاسَةِ أَعْيانِ المُشرِكين، ووُجوبِ تَطهيرِ ما تُصيبُهُ أَبْدانُهم مَعَ البَلَلِ. كما تقدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ والحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما. وهُوَ رَأْيُ جمهورِ الظَاهِرِيَّةِ.
قولُهُ تَعالى: {إِنَّمَا المُشْرِكونَ نَجَسٌ} أَخْبرَ عَنْهُمْ بالمَصْدَرِ للمُبالَغَةِ كأنَّهم عَينُ النَجاسَةَ، فقد جُعِلوا نَفْسَ النَّجَسِ أَوْ على حَذْفِ مُضافٍ. وقرأ أبو حيوة "نِجْسٌ" بِكسَرِ النُونِ وسُكونِ الجيمِ، ووجهُهُ أَنَهُ اسْمُ فاعلٍ في الأَصْلِ على فَعِلٍ مِثلَ: كَتِفٍ وكَبِدٍ، ثمَّ خُفِّفَ بِسُكونِ عَيْنِه بعدَ إتْباعِ فائِهِ، من نَجِسَ الشَيْءُ يَنْجَسُ فهو نَجِسٌ، إذا كانَ قَذِراً غيرَ نَظيفٍ، وبابُه "تَعِبَ" أو هو نَجَسَ يَنْجُسُ مِنْ بابِ "قَتَلَ" في لُغةٍ أُخْرى. وجُوِّزَ أَنْ يَكونَ لَفْظُ "نَجَسٌ" صِفَةً مُشَبَّهَةً، ولا بُدَّ حِينَئِذٍ مِنْ تَقديرِ مَوْصوفٍ مُفْرَدٍ لَفْظاً مُجْمَعٍ مَعنًى، لِيَصِحَّ الإِخْبارُ بِهِ عَنِ الجَمْعِ. أيْ: جِنْس ونَجَس ونحوِهِ. وجملةُ: "إنَّما المُشْرِكونَ نَجْسٌ" مُستأنفةٌ، جَواباً للنِداءِ، وجملة: "فلا يقربوا" مَعْطوفةٌ على المُسْتَأْنَفَةِ، "إنما المشركون نجس"، وقولُهُ "هذا": نَعْتٌ مُؤَوَّلٌ بِمُشْتَقٍّ، أَيْ: عامَهمُ المُشارُ إليهِ، وجملة "إن شاء" مُسْتَأْنَفَةٌ، وجَوابُ الشَرْطِ مَحْذوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ ما قَبْلَهُ.
وصِيغَةُ الحَصْرِ في قولِهِ: "إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ" لإفادَةِ نَفْيِ التَرَدُّدِ في اعْتِبارِهمْ نَجَساً، فهُو للمُبالَغَةِ في اتِّصافِهم بالنَجاسَةِ حتى كأَنَّهم لا وَصْفَ لهم إِلاَّ النَجَاسةِ.
وقرأَ ابْنُ السُمَيْفَعِ "أنجاس" بالجَمْعِ، وهيَ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكونَ جمعَ قراءةِ الجُمهورِ، أَوْ جمعَ قراءَةِ أَبي حَيَوَةَ.
وإضافةُ "العام" إلى ضَميرِ "هم" في قولِهِ: "عامَهمُ هذا" لَمَزيدِ اخْتِصاصِهم بحُكْمٍ هائلٍ في ذَلِكَ العامِ ووَصَفَهُ باسْمِ الإشارةِ لِزِيادَةِ تَمْييزِهِ وبَيانِهِ. وهو كَقَوْلِ أبي الطَيِّبِ:
فإنْ كانَ أَعْجَبَكمْ عامُكم ................. فعُودوا إلى مِصْرَ في القابِلِ
وقَرَأَ عَلْقَمَةُ وغيرُهُ مِنْ أَصْحابِ ابْنِ مَسْعودٍ، "عايلة" وهو مَصْدرٌ ك "القايلة" مِنْ قالَ يَقيلُ، وك "العاقِبة" و "العافية"، ويُحْتَمَلُ أَنْ تَكونَ نَعْتاً لِمَحْذوفٍ تَقديرُهُ حالاً عائلَةً، وحَكى الطَبَرِيُّ أَنَّهُ يُقالُ عَالَ يَعولُ إذا افْتَقَرَ.