فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
(11)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ
فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} تَفْريعُ حُكْمٍ على حُكْمٍ، لِتَعْقيبِ الشِدِّةِ باللينِ، إنْ هُمْ أَقْلَعوا عَنْ عَداوةِ المُسْلِمين، بِأَنْ دَخَلوا في الإسْلامِ، تَنْبيهاً لهم على أَنَّ تَدَارُكَهم أَمْرَهُم هَيِّنٌ عَلَيْهم، وفرَّعَ على التَوْبَةِ أَنَّهم يَصيرون إخْواناً للمؤمنين. فَإِذَا تابوا، ورَجَعوا، وانْتَهُوا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ، وَدَخَلُوا فِي الإِسْلاَمِ، وَأَدُّوا الصَّلاَةَ حَقَّ أَدَائِهَا، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، فَحِينَئذٍ يُصْبِحُونَ إِخْوَاناً لَكُمْ فِي الدِّينِ.
والأُخُوَّةُ في الدِّينِ هيَ أُخُوَّةُ الإسْلامِ، وقال بعضُ أهل اللغةِ: جمعُ الأَخِ مِنْها إِخوانٌ، وجمعُ أَخِ النَسَبِ إِخْوةٌ، وقيلَ إنَّ الأَخَ مِنَ النَسَبِ يُجْمَعُ على إخْوانٍ أَيْضاً، ومن ذلك قولُهُ تعالى في سورة النور: {ولا على أَنْفُسِكم أَنْ تَأْكُلوا مِنْ بُيُوتِكم، أوْ بُيوتِ آبائكم، أو بُيوتِ أُمَّهاتِكم، أوْ بُيُوتِ إخْوانِكم، أَوْ بُيوتِ أَخَواتِكم} الآية: 61. ويُبَيِّنُ ذلكَ قولُهُ تعالى في آخِرِ الآيَةِ ذاتها: {أوْ صَديقِكم}. ومنه كَذلِكَ قولُه في هذه السورة: {قُلْ إِنْ كانَ آباؤكم وأَبْناؤكم وإخْوانُكم وأَزْواجُكم} الآية: 24، فأمَّا الأَخُ مِنَ التَوَادِّ فقد جُمِعَ في كِتابِ اللهِ على إخوة، قال تعالى في سورة الحجرات: {إنَّما المؤمنونَ إِخْوةٌ} الآية: 10، وقالَ أَبو هُرَيْرَةَ فيما أخرج البُخاريُّ: (كان إخوتي مِنَ المُهاجرين يَشْغَلُهم صَفْقٌ بالأَسْواقِ). وهذا كلُّ يَفصِحُّ أَنَّ الأَخَ يُجْمَعُ على إخوةٍ وإخْوانٍ سَواءً كانَ أخاً منَ النَسَبِ أوِ المودَّةِ.
ثمَّ قَرَنَ اللهُ تعالى إقامةَ الصلاةِ وإيتاءَ الزَكاةِ بالإيمانِ. قالَ ابْنُ عَبَّاس ـ رضي اللهُ تعالى عنهُما: حَرَّمَتْ هذِه الآيةُ دِماءَ أَهْلِ القِبْلَةِ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: قَرَنَ اللهُ الصَلاةَ بالزَكاةِ، ولم يَرْضَ بإحداهما دُونَ الأُخرى. وعلى هذا بَنى أَبو بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، حُكمَهُ في رِدَّةِ مَنْ منعَ الزَكاةَ حينَ حارَبَ أَهْلَ الرِدَّةِ. وأَخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ عَنْ قَتادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} يَقولُ: إنْ تَرَكوا اللاّتَ والعُزَّى، وشَهِدُوا أَنْ لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ، وأَنَّ محمَّداً رَسُولَ اللهِ فإخْوانُكم في الدين.
قولُهُ: {وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} وَاللهُ يُفَصِّلُ الآيَاتِ، ويُبيِّنُها وَيُوَضِّحُهَا لِقَوْمٍ يَِعْلَمُونَ مَا بَيَّنَ اللهُ لَهُمْ مِنَ الحِجَجِ وَالبَرَاهِينِ وَالآيَاتِ، وَيَنْتَفِعُونَ بِهَا. وهو تحريضٌ على تأمّل ما فَصَّلَ مِنْ أَحْكامِ المُشْرِكينَ المُعاهِدين، وعلى المحافَظَةِ عَلَيْها.
قولُهُ تعالى: {فإنْ تابوا فإخْوانُكم} الفاءُ هي الرابِطةُ لجوابِ الشَرْطِ، و "إخوانُكم" خبرٌ لمبتدأٍ محذوف تقديره: فَهم إخْوانُكم. وقد صِيغَ هذا الخَبرُ جملةً اسمِيَّةً للدَلالَةِ على أَنّ إيمانَهم يَقْتَضِي ثَباتَ الأُخُوَّةِ ودَوامَها. وجملةُ "فإن تابوا" مستأنفة. وجملةُ "فإخوانكم" في مَحَلٍّ جَزْمٍ جَواباً للشَرْطِ.
قولُهُ: {في الدين} جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ ب "إخوانكم"؛ لما فيه مِنْ مَعنى الفِعْلِ، والظرفِيَّةُ هنا مجازِيَّةٌ، تشبيهاً للمُلابَسَةِ القَوِيَّةِ بإحاطَةِ الظَرْفِ بالمَظروفِ زِيادةً في الدَلالَةِ على التَمَكُّنِ مِنَ الإسْلامِ وأَنّه يَجُبُّ ما قَبْلَهُ.
وقولُهُ: {وَنُفَصّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمونَ} والواوُ: اعْتِراضِيَّةٌ هُنا،
وهذا اعْتِراضٌ وتذييلٌ، كأَنَّهُ قيلَ: وإنَّ مَنْ تَأَمَّلَ تَفْصيلَها فهُوَ العالم. وجملةُ "نفصل" مُسْتَأْنَفَةٌ، وجملة "يَعْلَمون" نَعْتٌ لِ "قَوْمٍ".