أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ
(126)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} أَيَجْهَلُ هَؤُلاَءِ المُنَافِقُونَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَخْتَبِرُهُمْ "يُفْتَنُونَ" كُلَّ عَامٍ مَرَّةٍ أَوْ مَرَّتَيْنِ، بِالغَزاةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الفِتْنَةِ وَالابْتِلاَءِ، وَالاخْتِبَارِ لَهُمْ، التِي تُظْهِرُ اسْتِعْدَادَ النُّفُوسِ لِلإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، أَوْ لِلْكُفْرِ وَالتَمَرُّدِ، وَالخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ اللهِ، ويَغفلونَ ولا يعلمون أَنَّ نِفاقَهم يُفْضَحُ في عامٍ مرةً أو مرَّتين؟. فالمُرادُ مَنْ فِتْنَتِهم كَشْفُ نِفاقِهم وفَضيحَتُهم على رؤوسِ الأَشْهادِ، كالذي حَدَثَ في غَزْوَةِ أُحُدٍ، حينَ رَجَعوا مِنَ الطَريقِ، وكالذي حدَثَ في غَزْوَةِ الخَنْدَقِ حينَ قالوا: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا} سورة الأحزاب، الآية: 13. وغيرِ ذلكَ مما حدَثَ مِنْهم مِنَ المُخالفاتِ الشنيعةِ التي كَشَفَها اللهُ، وفَضَحَ فيها نِفاقَهم، وكَشَفَ أَسْتارَهُم مَرَّةً بعدَ مرَّةٍ. أوَ لا يخشون أن يسلِّطَ اللهُ عليهم عبادَه المؤمنين ويَبْتَلِيَهم بالمَصائبِ تنالُ جماعتَهم مما لا يُعْتادُ تَكَرُّرُ أَمْثالِهِ في حياةِ الأمَمِ؟ فإنَّهم لَوْ رُزِقوا التَوفيقَ لأفاقوا مِنْ غَفْلَتِهم، ولَتَنَبَّهوا إلى ما يَنْتَظِرُهم إذا هم أَصَرّوا على نِفاقِهم. والرُؤْيَةُ هُنا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكونَ قَلْبِيِّةً، وأَنْ تَكونَ بَصَرِيَّةً.
قولُهُ: {ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ غَيٍّ نفاقٍ وَضَّلاَلِ، وَاقْتِرَافِ الذُنوبِ، وَمُقَارَفَةِ المَعَاصِي، وَلاَ يَرْجِعُونَ عَنْ غَيْهِمْ، وَلاَ يَتَّعِظُونَ بِمَا يَحِلُّ بِهِم ْمِنَ العَذَابِ. ولا يقلعون عَنْ هذا النفاق الذي كان سببًا في فضيحتهم، ولا هم يستغفرون الله مما حدث منهم، تحقيقًا لتوبتهم وندمًا على ما كان منهم، وعدولاً عن تلك الأَساليب الذميمة التي توهن من شأْن المجاهدين عند لقاءِ المشركين.
و "ثم" للترتيب الرُتَبي لأنَّ المعطوفَ بها زائدٌ في رُتْبَةِ التَعْجيبِ مِنْ شأنِهِ على المَعْطوفِ عَلَيْهِ، فإنَّ حُصولَ الفِتْنَةِ في ذاتِهِ عَجيبٌ، وإنَّ عدمَ اهتدائهم للتَدارُكِ بالتَوْبَةِ والتَذَكُّرِ أَعْجَبُ. ولو كانت "ثم" للتَراخِي الحقيقيِّ لَكانَ محلَّ التَعْجيبِ مِنْ حالهم هُو تَأَخُّرُ تَوْبَتِهم وتَذَكُّرِهم.
قولُهُ تَعالى: {أَوَ لا يَرَوْنَ أَنَّهم يُفْتَنونَ في كلِّ عامٍ مرَّةً أو مرَّتين} الهَمْزَةُ للاسْتِفهامِ، والواوُ للعطفِ، وقدِّمَتْ همزةُ الاسْتِفْهامِ على حَرْفِ العَطْفِ على طَريقةِ تَصْديرِ أَدَواتِ الاسْتِفهامِ. والتَصْديرُ للتَنْبيهِ عَلى أَنَّ الجُمْلَةَ في غَرَضِ الاسْتِفْهامِ.
والاسْتِفْهامُ هُنا إنْكارٌ وتَعْجيبٌ لِعَدَمِ رُؤْيَتِهم فِتْنَتَهم فَلا تَعْقُبُها منهم تَوْبةٌ ولا تُذَكِّرُهُمْ أَمْرَ رَبِّهم. والغَرَضُ مِنْ هَذا الإنكارِ هُوَ الاسْتِدْلالُ على ما تَقَدَّمَ مِنِ ازْدِيادِ كُفْرِ المُنافقينَ وتَمَكُّنِهِ كُلَّما نَزَلَتْ سُورَةٌ مِنَ القُرآنِ بإيرادِ دَليلٍ واضِحٍ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ المَحْسوسِ المَرْئِيِّ حتّى يَتَوَجَّهَ الإنْكارُ عَلى مَنْ لا يَراهُ. والجملةُ مَعْطوفَةٌ على جملةِ الشَرْطِ المُتَقَدِّمَةِ لا محلَّ لها، والمَصْدَرُ المؤوَّلُ من "أنهم يُفتنون" مَفعولُ رَأَى، و "مَرَّةً" نائبُ مفعولٍ مُطْلَقٍ، وجملةُ "ولا هم يذكرون" في محلِّ رَفْعٍ عطفاً على جملةِ "يتوبون".
وقرأَ الجُمهورُ: {أو لا يَرون} بالياء المُثنَّاةِ التَحْتِيَّةِ. وقَرأَ حمزةُ ويعقوبُ "أولا ترون" بالتاءِ المثناة الفَوْقِيَّةِ عَلى أَنَّ الخِطابَ للمُسْلِمِين، فيَكونُ مِنْ تَنْزيلِ الرائي مَنْزِلَةَ غَيْرِهِ حَتى يُنْكَرَ عَلَيْهِ عَدَمُ رُؤيَتِه مَا لا يخفى. وقَرَأَ الأَعْمَشُ: "أَوَ لم يَرَوا". وقَرَأَ طلحةُ بْنُ مَصَرِّفٍ "أوَلاَ تَرَى" وهي قراءةُ ابْنِ مَسْعودٍ، خطاباً للرَسُولِ صَلّى اللهُ عليْهِ وَسَلَّمَ.
قال أبو جعفر الطَبرِيُّ: والصَوابُ عِنْدَنا مِنَ القِراءَةِ في ذَلِكَ، الياءُ، على وَجْهِ التَوْبيخِ مِنَ اللهِ لهم، لإجماعِ الحُجَّةِ مِنْ قَرَأَةِ الأَمْصارِ عَلَيْهِ، وصِحَّةِ مَعْناهُ.