وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
قولُهُ ـ تَبَارَكَ وتَعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} جاءَ عَقِبَ التَحْريضِ عَلى الجِهادِ بقولِه: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللهِ} الآية: 120, من هذِهِ السورة. لِيُبَيِّنَ أَنْ لَيْسَ مِنَ المَصْلَحَةِ تَفرُّغُ المُسْلِمينَ جميعاً للغَزْوِ والقِتالِ، وأَنَّ القائمَ بِواجِبِ التَعْليمِ ليسَ أَقَلَّ شأناً ولا أَدْنى مَنْزِلةًً مِنَ المجاهدِ في سَبيلِ اللهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كِلَيْهِما يَقومُ بِعَمَلٍ مفيدٍ لتأييدِ النبيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ، ونُصرةِ الدينِ، فهذا بِتَوْسيعِ سُلْطانِهِ، وتَكْثيرِ أَتْباعِهِ، والآخَرُ بِتَثْبيتِ ذَلِكَ السُلْطانِ وإعْدادِهِ لأنْ يَصْدُرَ عَنْهُ ما يَضْمَنُ انْتِظامَ أَمْرِهِ وديمومة مجدِهِ، فإنَّ اتِّساعَ الفُتوحِ وبَسالَةَ الجندِ لا يَكْفيان لاسْتِبْقاءِ سلطانِ الأمَّةِ إذا هِيَ خَلَتْ مِنْ جماعَةٍ صالحةٍ مِنَ العُلَماءِ والساسَةِ، وأُولي الرَأْيِ المُهْتَمِّين بِتَدْبيرِ ذَلِكَ السُلْطانِ، ولذلك فإنَّ دولةَ التَتارِ لم تَثْبُتْ إلاَّ عندَما امْتَزَجُوا بِعُلَماءِ المُدُنِ التي فَتَحُوها، ووَكَلُوا أَمْرَ الدَوْلَةِ إلَيْهِمْ. والجِهَادُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا قَامَ بِهِ البَعْضُ سَقَطَ عَنِ البَاقِينَ. وَلكِنْ إِذَا غَزَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَدَبَ النَّاسَ إِلَى الخُرُوجِ مَعَهُ لَمْ يَحِلَّ لأَحَدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ إِلاَّ أَهْلَ الأَعْذَارِ. وَحِينَمَا نَزَلَتِ الآيَاتُ السَّابِقَاتُ فِي التَّشَديدِ عَلَى المُتَخَلِّفِينَ، قَالُوا: لاَ يَتَخَلَّفُ مِنَّا أَحَدٌ عَنْ جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَبَداً، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَبَقِيَ الرَّسُولُ وَحْدَهُ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ.
قولُهُ: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} يُبَيِّنُ اللهُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّ عَليهِمْ أَلاَّ يَنْفِرُوا جَمِيعاً، لِيَبقَى قُربَ رَسُولِ اللهِ أُنَاسٌ يَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ، وقال في سورة آلِ عمران: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}، الآية: 104. فأَمَرَ أَنْ يَقومَ بالجِهادِ طائفَةٌ كافِيةٌ وبِالعِلْمِ طائفةٌ أُخْرى، وأَنَّ الطائفةَ القائمةَ بالجِهادِ تَسْتَدْرِكُ ما فاتَها مِنَ العَلْمِ إذا رَجَعَتْ.
قولُهُ: {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} حَتَّى إِذَا عَادَ الغُزَاةُ إِلَى أَهْلِهِمْ أَعْلَمُوهُمْ بِمَا نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ فِي غَيْبَتِهِمْ، وَبِمَا اسْتَجَدَّ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَتَعْلِيمَاتِ الرَّسُولِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ المُسْلِمُونَ جَمِيعاً عَلَى عِلْمٍ بِأُمُورِ دِينِهِمْ.
وكانَتْ الآيةُ السابِقَةُ قَدْ حَرَّضَتْ فَريقاً مِنَ المُسْلِمين عَلى الالْتِفافِ حَوْلَ رَسولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، في الغَزْوِ لِمَصْلَحَةِ نَشْرِ الإسْلامِ فناسَبَ أَنْ يُذْكَرَ عَقِبَها نَفَرُ فريقٍ مِنَ المُؤمنين إلى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، للتَفَقُّهِ في الدِينِ لِيَكونُوا لأقوامِهمْ الذين دَخَلُوا في الإسْلامِ هُداةً مُرْشِدينَ.
أخرج ابْنُ أبي حاتمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما، قَوْلُهُ: "فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلْيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ" قَالَ: "كَانَ يَنْطَلِقُ مِنْ كُلِّ حَيٍّ مِنَ الْعَرَبِ عِصَابَةٌ، فَيَأْتُونَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَسْأَلُونَهُ عَمَّا يُرِيدُونَهُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ، وَيَتَفَقَّهُونَ فِي دِينِهِمْ، وَيَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا تَأْمُرُنَا أَنْ نَفْعَلَهُ؟ وَأَخْبِرْنَا بِمَا نَقُولُهُ لِعَشَائِرِنَا إِذَا انْطَلَقْنَا إِلَيْهِمْ؟ قَالَ: فَيَأْمُرُهُمْ نَبِيُّ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِطَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، وَيَبْعَثُهُمْ إِلَى قَوْمِهِمْ عَلَى الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ، وَكَانُوا إِذَا أَتَوْا قَوْمَهُمْ نَادُوا: مَنْ أَسْلَمَ فَهُوَ مِنَّا، وَيُنْذِرُونَهُمْ حَتَّى أَنَّ الرَّجُلَ لَيُفَارُقُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ".
وأخرج عَنه : "فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ" يَعْنِي: السَّرَايَا، فَإِذَا رَجَعْتِ السَّرَايَا، وَقَدْ نَزَلَ بَعْدَهُمْ قُرْآنٌ، تَعْلَمُهُ الْقَاعِدُونَ مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّكُمْ بَعْدَكُمْ قُرْآنًا، وَقَدْ تَعَلَّمْنَا سَرَايَا آخَرِينَ" فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ" يَقُولُ: لِيَعْلَمُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِمْ، وَيُعَلِّمُوا السَّرَايَا "إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ".
ففيهِِ واجبُ أنْ يَتَفَرَّغَ جماعةٌ مِنَ المُسْلِمين لِكُلِّ بابٍ مِنْ أَبوابِ العِلْمِ الضَرُورِيِّ حَتى يَكونوا رُوّاداً لمُجْتَمَعِهم ومُرْشِدينَ، فلا يَتَخَلَّفَ مجتمَعُ المُسلمين.
وفي الآيةِ دَلالَةٌ على وُجُوبِ طَلَبِ العِلْمِ، وَأَنَّهُ مِنْ فُروضِ الكَفايَةِ في بَعْضِ العُلومِ، وفَرْضُ عَينٍ في بَعْضٍ. وفيهِ دَلالَةٌ عَلى لُزومِ قَبولِ خَبَرِ الواحِدِ في أُمُورِ الدين التي لا يَجِبُ على الكُلِّ مَعْرِفَتُها، ولا تَعُمُّ الحاجَةُ إِلَيْها. فإذا رَجَعَ الغازون أنذرهم المُعَلِّمون، أَيْ: عَلَّموهم الفِقْهَ والشَّرْعَ. ولذلك كانتْ هَذِهِ الآيةُ أَصْلاً في وُجُوبِ طَلبِ العِلمِ على طائفةٍ عَظيمةٍ مِنَ المُسْلِمينَ وُجوباً عَلى الكِفايَةِ، أَيْ عَلى المِقْدارِ الكافي لِتَحْصيلِ المَقْصِدِ مِنْ ذَلكَ الإيجابِ.
وأَشْعَرَ نَفْيُ وُجوبِ النَفْرِ عَلى جميعِ المُسْلِمين، وإثباتُ إيجابِهِ على طائفةٍ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهم بِأَنَّ الذين يَجِبُ عَلَيْهمُ النَفْرَ لَيْسُوا بِأَوْفَرَ عَدَداً مِنَ الذين يَبْقونَ للتَفَقُّهِ والإنْذارِ، وأَنْ لَيْسَتْ إِحْدى الحالَتَينِ بِأَوْلى مِنَ الأُخْرى على الإطْلاقِ، فيُعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مَنُوطٌ بمِقْدارِ الحاجَةِ الداعِيَةِ للنَفْرِ. وفي فوائدِ النفرِ في طلب العلم قالَ الإمامُ الشافعيُّ ـ رضي اللهُ عنه:
تَغَرَّبْ عَنِ الأَوْطانِ في طَلَبِ العُلا .... وسافِر فَفِي الأَسْفارِ خمسُ فَوائِدِ
تَفَرُّجُ هَمٍّ، واكْتِسابُ مَعيشَةٍ .......... وعِلمٌ، وآدابٌ، وصُحْبَةُ ماجِدِ
قولُهُ تَعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} لينفروا: لامُ الجحودِ لتأكيد النَفْيِ في "ما كان" و "يَنْفُروا" منصوبٌ ب "أنْ" مضمرةً، والمَصْدَرُ المُؤَوَّلُ منهما مجْرورٌ مُتَعَلِّقٌ بخبَرِ "كان" تَقديرُهُ: مريداً، وهذا الخبرُ مُسْتَعْمَلٌ في النَهْيِ فَتَأْكِيدُهُ يُفيدُ تَأْكيدَ النَهْيِ، أَيْ كونُهُ نهْياً جازماً يَقْتَضي التَحْريمَ، و "كافة" حالٌ مِنَ الواوِ في "يَنْفُروا"، وجملةُ "كانَ" معطوفةٌ على مجموعِ الكَلامِ الذي قَبْلَها فهي جملةٌ ابْتِدائِيَّةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لغَرَضٍ جَديدٍ.
وقدْ قابَلَ صِيغَةَ التَحْريضِ على الغَزْوِ بمِثْلِها في التَحْريضِ عَلىَ العِلْمِ إذِ افْتُتُحِتْ صِيغَةُ التحْريضِ على الغَزْوِ بِلامِ الجُحودِ أيضاً في قولِه: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ} الآية. وافتُتُحَتْ صِيغَةُ التَحْريضِ عَلى العِلْمِ والتَفَقُّهِ بمثِلِ ذَلِكَ فقالَ: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً" وهذا مِنْ محاسِنِ البَيانِ القُرآنيِّ المجيدِ.
قولُهُ: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} لولا: حرفُ تحضيضٍ والمُرادُ بِهِ الأَمرُ. و "مِنْهم" يجوزُ أَنْ يِكونَ صِفَةً ل "فِرْقَةٍ" وأَنْ يَكون حالاً مِنْ "طائفةٌ" لأنها في الأصْلِ صِفَةٌ لها، وعلى كِلا التَقْديريْنِ فَيِتَعَلَّقُ بمحذوفٍ. والذي يَنْبَغي أَنْ يُقالَ: إنَّ "مِنْ كُلِّ " متعلِّقٌ بحالٍ مِنْ "طائفةٍ"، و "مِنْهُمْ" متعلِّقٌ بصِفَةٍ لِ "فِرْقَةٍ"، ويجوزُ أَنْ يَكونَ "مِنْ كُلِّ" مُتَعَلِّقاً بِ "نَفَرَ".
قولُهُ: {لِّيَتَفَقَّهُواْ} إمَّا أنْ يَعودَ هذا الضَميرُ ل "طائفةٌ" النافِرَةِ عَلى أَنَّ المُرادَ بالنُفُورِ النُفُورَ لِطَلَبِ العِلْمِ، وهُوَ ظَاهِرٌ. وإمَّا يعودَ على الطائِفَةِ القاعِدَةِ، وفي "رَجَعُوا" عائدٌ على النافِرَةِ، والمُرادُ بِالنُفورِ نُفورُ الجهادِ، والمعنى: أَنَّ النَافِرينَ للجِهادِ إذا ذَهَبُوا بَقِيَ إخْوانهم يَتَعلمونَ مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، الفِقْهَ، وما يَسْتَجِدُّ مِنْ أُمورٍ خِلالَ فترةِ غِيابِهِمْ.
وقولُهُ: {إذا رَجَعُوا إليهم لعلهم يحذرون} إذا: ظَرْفٌ محضٌ مُتَعَلِّقٌ بِ "يُنْذِروا"، و "إليهم" متعلقٌ ب "رجعوا". وجملةُ "لَعَلَّهم يحْذَرونَ" مُسْتَأْنَفَةٌ.