مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ
(120)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّهُ: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ} نَفيٌ لِقُدْرَة أِهْلِ المَدينةِ وَمَنْ حَوْلَها مِنَ الأَعْرابِ عَلى التَخَلُّفِ عن الغزوِ مع رَسُولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم، فإنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَ عَلَيْهم مُوافََقَةَ النبيِّ ومرافقتَهُ في جميعِ الغَزَواتِ والمَشاهِدِ فيما سَبَقَ مِنْ آياتٍ؛ أَكَّدَ ذَلِكَ بالنَّهْيِ عَنِ التَخَلُّفِ عنه ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ، في هذه الآية، التي ظاهِرُها خَبَرٌ ومَعْناها نهْيٌ، ومنه قولُهُ تَعالى في سورةِ الأَحْزابِ: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُواْ رَسُولَ اللهِ} الآية: 53. والحديثُ لايزالُ عَنْ غَزْوَةِ تَبوك والذين تخلَّفوا عَنْها، وفيهِ عِتابٌ مِنَ اللهُ تَعَالَى للمُتَخَلِّفِينَ عَنْ رَسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، عَلَى تَخَلُّفِهِمْ، والمقصودُ ب "ومَنْ حولهم مِنَ الأَعْرابِ" هم قبائلُ: مُزَيْنَةَ، وجُهَيْنَةَ، وأَشْجَعَ، وغِفَارٍ، وأَسْلَمَ. الذين كانوا يَسْكُنونَ البادِيَةِ مِنْ حَوْلِ المَدينةِ المُنَوَّرَةِ. وقيلَ: يَشمَلُ جميعَ الأَعْرابِ الذينَ كانوا حَوْلَ المَدينةِ، فإنَّ اللفظ عامٌّ، والتَخْصيصُ تَحَكُّمٌ، وعَلى القَوْلَيْنِ فلَيْسَ لَهم أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ إذا غَزا.
رُوِيَ أَنَّ أَبَا خَيْثَمَةَ ـ رضي اللهُ عنه، دَخَلَ بُسْتَانَهُ، بَعْدَ خُروجِهِ ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، لِتَبوكَ، وكانتْ لَهُ امْرَأَةٌ حَسْناءُ، فَرَشَتْ لَهُ في الظِلِّ، وبَسَطَتْ لَهُ الحَصيرَ، وقَرَّبَتْ إليْهِ الرُطَبَ والماءَ البارِدَ، فَنَظَرَ فقال: ظِلٌّ ظَلِيلٌ، ورَطْبٌ يانِعٌ، وماءٌ بارِدٌ، وامْرَأَةٌ حَسْنَاءُ، ورَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، في الضِّحِّ والرِّيحِ، ما هَذا بخَيرٍ. فقام، فَرَحَّلَ ناقَتَهُ، وأَخَذَ سَيْفَهُ ورُمْحَهُ، ومَرَّ كالريحِ، فمَدَّ رَسُولُ اللهِ ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، طَرْفَهُ إلى الطَريقِ، فإذا بَراكِبٍ يَقْطَعُ السَّرابَ، فقال: كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ، فكأنهُ، ففرِحَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، واسْتَغْفَرَ لَهُ. وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ، في قولِهِ تعالى: "ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله" قال: هذا حِينَ كانَ الإِسْلامُ قَليلاً، فلَمَّا كَثُرَ الإِسْلامُ وفَشا، قالَ اللهُ تَعالى: {وما كان المؤمنون لِيَنْفروا كافَّةً} سورةُ التَوْبَةِ، الآية: 122. وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ مِنْ طَريقِ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَصْحابِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، قالَ: لمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: "ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله" قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((والَّذي بَعَثَني بالحَقِّ لَوْلا ضُعَفاءُ النَّاسِ مَا كانَتْ سَرِيَّةٌ إلاَّ كُنْتُ فيها)).
قولُهُ: {وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} وَليسَ لهم إِيثَارُ أَنْفُسَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ الكَرِيمَةِ. والمَخصوصُّ بِهذا العِتَابِ أَهْلُ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ كما تقدَّمَ، فَإِنَّهُمْ نَقَصُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الأَجْرِ، ومعنى أَلاَّ يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ، ألاَّ يَتَرَفَّعُوا بِهَا، وَلاَ يَضَنُّوا، وَلاَ يَصْرِفُوهَا عنْ متابعةِ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ. أي: ولا يَطْلبوا لأنفُسِهم الحِفْظَ والأمنَ والراحةَ والدَّعَةَ، حالَ ما يَكونُ رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في الحرِّ والمَشَقَّةِ، والمعنى: ليسَ لهم أَنْ يَكْرَهُوا لأَنْفُسِهِمْ ما يَرْضاهُ لِنَفْسِهِ.
يُقالُ: رَغِبْتُ بِنَفْسي عَن هذا الأَمْرَ، أَيْ: تَوَقَّفْتُ عَنْهُ وتَرَكْتُهُ، وأَرْغَبُ بِفُلانٍ عَنْ هَذا الأَمْرِ، أَيْ: أَبْخَلُ بِهِ عَلَيْهِ ولا أَتْرُكُهُ. أَيْ: أَنَّهم زَهِدوا في أَمْرٍ صَدَرَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وفَضَّلوا أَمْرَ نُفوسِهم عَلى أَمْرِ رَسُولِ اللهِ، فيُبَيَّنُ الحَقُّ لهم أَنَّهم ما كانَ لهم أَنْ يَفْعَلوا ذَلِكَ؛ لأنَّه ما دَاموا قَدْ آمَنوا باللهِ، فإنَّ إيمانَهم لن يَكْمُلَ حَتى يَكُونَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أَحَبَّ إليهم مِنْ نُفُوسهم.
أَخْرَجَ أَحمَدُ، والبُخارِيُّ، مِنْ حَديثِ عَبْدِ اللهِ ابْنِ هِشامٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: ((كُنّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الخَطابِ فقال: واللهِ لأنْتَ يا رَسُولَ اللهِ أَحَبُّ إليَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلاَّ مِنْ نَفْسِي، فقالَ النَبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ)) قالَ: فَأَنْتَ الآنَ وَاللهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي. فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الآنَ يَا عُمَر)). مُسْنَدُ أَحمَد: (38/430). لقد كانَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، صادقاً فيما يقولُهُ ويدَّعيهِ لكنَّهُ غيرُ كافٍ ولا يتمُّ بهِ الإيمانُ، والرسولُ يريدُ لعمر أنْ يكمُلَ إيمانُهُ، فَكَرَّرَ ـ صَلىَّ اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، القولَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ)). فَعَلِمَ الفاروقُ أَنَّ الحُبَّ المَطْلوبَ لَيْسَ حُبُّ العاطِفَةِ وحسب، إنّما هُو حُبُّ العَقْلِ أَيْضاً، فهو يكمِّلُه ويتمِّمُه، فحُبُّ العاطفةِ لا تَكْليفَ فِيهِ إنّما يجعَلُ التَكالِيفَ مَحْبوبَةً مَرْغُوباً فيها، فهو كما قالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((وَالذِي نَفْسِي بِيَدَهِ لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَواهُ تَبعاً لِمَا جِئْتُ بِهِ)) شَرْحُ الأَرْبعينَ النَوَوِيَّةِ (ص: 296) لِصالح بْنِ عَبْدِ العَزيزِ آلِ الشَيْخِ، عنْ أَبي محمَّدٍ، عَبْدِ اللهِ ابْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قال: حديثٌ صَحيحٌ، رَوَيناهُ في كتابِ الحُجَّةِ بإسْنادٍ صَحيحٍ. وفَتحِ الباري للحافظ ابْنِ حَجَر العَسْقلانيِّ: (13/289). وأَخْرَجَهُ الحَسَنُ بْنُ سُفْيان، وغيرُهُ ورِجالُهُ ثقاتٌ، وقدْ صَحَّحَهُ النَوَوِيُّ في آخِرِ الأَرْبَعينَ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رضي اللهُ عنه. فلا بُدَّ لاكتمالِ إيمانِ المؤمنِ من اجتماعِ حبِّ العقلِ وحبِّ القلبِ. ولقد كان في تَكرارِهِ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ترقيةٌ لحالِ سيدنا عمرَ ـ رضي اللهُ عنه، إذ نَقَلَهُ من حالٍ إلى أعلى، وهي من جملةِ وظائفِ النبوَّةِ ثبتَ ذلك في أَحادِيثَ كَثيرةٍ وحالاتٍ عَديدَةً مِنْها ما سَبَقَ أَنْ ذكرناه في غزوةِ حنين فيما أَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ، وابْنُ عَساكِرَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ بِنِ عُثمانَ الحَجبيِّ عَنْ أَبيهِ قال: خرجتُ مَعَ النَبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، يَوْمَ حُنَينٍ، واللهِ ما خَرَجْتُ إسْلاماً ولكنْ خَرَجْتُ اتِّقاءَ أَنْ تَظْهَرَ هَوازِنُ على قُرَيْشٍ، فو اللهِ إني لَواقِفٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، إذْ قُلْتُ: يا نَبيَّ اللهِ إنّي لأرَى خَيلاً بُلْقاً ...! قالَ: يا شَيْبَةَ إنَّهُ لا يَراها إلاَّ كافِرٌ. فَضَرَبَ بِيَدِهِ عِنْدَ صَدْري حتّى ما أَجِدُ مِنْ خَلْقِ اللهِ تَعالى أَحَبَّ إليَّ مِنْهُ ... .
قولُهُ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ} لأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظمأٌ: عَطَشٌ، وَلاَ نَصَبٌ: تَعَبٌ، وَلاَ مَخْمَصَةٌ: مَجَاعَةٌ، في سَبيلِ اللهِ. فقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنِ السُدِّيِّ في قَوْلِهِ تعالى: "لا يصيبهم ظمأ" قال: العَطَشُ، "ولا نصب" قالَ: العَنَاءُ. ومنهُ قولُهُ تَعالى في سورةِ الكهف: {لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنَا هَذا نَصَباً} الآية: 62. ومِنْهُ قولُ النّابِغَةِ من الطويل:
كِليني لِهَمٍّ يَا أُمَيْمَةُ ناصِبِ .............. وَلَيْلٍ أَقَاسِيهِ بَطِيء الكواكب
ناصبٌ، أَيْ: ذو نَصَبٍ.
و "المَخْمَصَةُ" على وزن "مفعلة" مِنْ خُمُوصِ البَطْنِ: أَيْ ضُمُورِهِ، واسْتُعيرَ ذَلِكَ لِحالَةِ الجُوعِ، إذِ الخُموصُ مُلازِمٌ لَهُ، ومِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الأَعْشى، من الطويل:
تَبِيتونَ في المَشْتى مِلاءً بُطونُكُمْ .......... وجاراتُكم غَرْثى يَبِتْنَ خمائِصا
ومِنْهُ أَخْمَصُ القَدَمِ، وَسَطُهُ الضامرُ، والخَمْصانَةُ مِنَ النِساءِ: ضامرةُ البطنِ.
قولُهُ: {وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ} وَلاَ يَنْزِلُونَ مَنْزِلاً يُرْهِبُ الكُفَّارَ، وَيَغِيظُهُمْ، ويَغُمُّهُمْ وَيُغْضِبُهُمْ. ومنْهُ قولُ ابْنِ مَسْعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: (كُنَّا لا نَتَوضأ مِنْ مَوْطِئٍ، ولا نَكُفُّ شَعْراً ولا ثَوْباً) أَخرجَهُ عبد الرزاق وأبو داوود. جامِعُ الأُصُولِ في أَحاديثِ الرَسولِ: (7/ 228). أَرادَ: أَنهم كانوا لا يُعيدونَ الوُضوءَ مِنَ الطين أو التراب الذي يُصيبُ أَرْجُلَهَم من الطريق، ولا كانوا يغسلونها منه. ولا نَكُفُّ شَعْراً ولا ثوباً: أَيْ: لا نَقيها مِنَ التُرابِ صِيانَةً لها عَنِه إذا صَلَّيْنا، ولكنْ نُرْسِلُها فَتَقَعَ عَلى الأَرْضِ مَعَ الأَعْضاءِ إذا سَجَدَنا. وقالَ الحارثُ بْنُ وَعْلَةَ الذُهَلِيِّ:
ووطِئْتنا وَطْئاً عَلى حَنَقٍ ...................... وَطْءَ المُقَيَّدِ نابِتَ الهَرَمِ
وأَخْرَجَ الحاكِمُ وابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنْ أمير المؤمنين عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: (خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في غَزَاةٍ، وخَلَّفَ جعْفَراً في أَهْلِهِ فقالَ جَعْفَر: والله ما أَتَخَلَّفُ عَنْكَ فَخَلَّفَني. فقلتُ: يا رَسُولَ اللهِ أَتُخَلِّفُني! أَيَّ شَيْءٍ تَقولُ قَرَيْشٌ؟ أَلَيْسَ يَقولُونَ: ما أَسْرَعَ مَا خَذَلَ ابْنَ عَمِّهِ وجَلَسَ عَنْهُ، وأُخْرى ابْتَغى الفَضْلَ مِنَ اللهِ لأَنّي سمِعْتُ اللهَ تَعالى يَقُولُ: "ولا يَطَؤونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكُفَّارَ ..." الآية. قال: ((أَمَّا قولُكَ: (أَنْ تَقول قُرَيْشٌ: مَا أَسْرَعَ ما خَذَلَ ابْنَ عَمِّهِ وَجَلَسَ عَنْهُ)، فَقَدْ قالوا: إني ساحِرٌ وكاهِنٌ، وإنّي كَذاَّبٌ، فَلَكَ بِي أُسْوَةٌ، أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكونَ مِنّي بمَنْزِلَة هَرونَ مِنْ مُوسى؟ غَيْرَ أَنَّهُ لا نَبِيَّ بَعْدِي، وأَما قولُكَ تَبْتَغي الفَضْلَ مِنَ اللهِ، فقَدْ جاءَنا فُلْفُلٌ مِنَ اليَمَنِ فَبِعْهُ وأَنْفِقْ عَلَيْكَ وعَلى فاطِمَةَ حَتّى يَأْتِيَكُما اللهُ مِنْهُ بِرِزْقٍ)).
قولُه: {وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً} وَلاَ يُحَقِّقُونَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ ظَفَراً وَغَلَبَةً. وشَيْئاً مِنْ قَتْلٍ أَوْ أَسْرٍ أَوْ مَغْنَمٍ. وهو لَفْظٌ عامٌّ لِقَليلِ ما يَصْنَعُهُ المُؤمِنون بالكَفَرَةِ مِنْ أَخْذِ مَالٍ أَوْ إيرادِ هَوانٍ وَكثيرِهِ، والنَيْلُ مَصْدَرٌ من نَالَ يَنالُ ولَيْسَ مِنْ قَوْلهمْ نِلْتُ أَنولُ نَوْلاً ونَوالاً، وقيلَ هُوَ مِنْهُ، وبُدِّلَتِ الواوُ ياءً لِخِفَّتِها هُنا، وهذا ضَعيفٌ، وقد ذكر نحوَهُ الطبريُّ وضَعَّفَهُ وقال: ليسَ ذَلِكَ المَعْروفَ مِنْ كَلامِ العَرَبِ.
وأخرج ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنِ الأُوزاعيِّ وعَبْدِ اللهِ ابْنِ المُبارَكِ، وإبْراهيمَ بْنِ محمَّدٍ الغَزاريِّ وعيسى بْنِ يُونُسَ السُبَيْعِيِّ أَنَّهم قالوا في قولِهِ تَعالى: "ولا ينالون من عدوّ نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح" قالوا: هذِهِ الآيَةُ للمُسْلِمينَ إلى أَنْ تَقومَ الساعَةُ.
قولُه: {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} إِلاَّ كَتَبَ اللهُ لَهُمْ بِهذِهِ الأَعْمَالِ، ثَوَابَ عَمَلٍ صَالِحٍ جَزِيلٍ، وقد دَلَّ هَذا التَذْييلُ على أَنَّهم كانوا بِتِلْكَ الأَعْمالِ مُحْسِنَينَ فَدَخَلوا في عُمومِ قَولِه: {إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} بِوَجْهِ الإيجازِ. وروَى أَبو دَاوودَ في سِنَنِهِ، عَنْ أَبي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ ـ رضي الله عنه، قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: ((مَنْ فَصَلَ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَمَاتَ، أَوْ قُتِلَ، فَهُوَ شَهِيدٌ، أَوْ وَقَصَهُ فَرَسُهُ، أَوْ بَعِيرُهُ، أَوْ لَدَغَتْهُ هَامَّةٌ، أَوْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ بِأَيِّ حَتْفٍ شَاءَ اللهُ، فَإِنَّهُ شَهِيدٌ، وإِنَّ لَهُ الْجَنَّةَ)).
وظاهِرُ الآيةِ وُجوبُ الجِهادِ على الكُلِّ، إلاَّ ما خَصَّهُ الدَّليلُ مِنَ المَرْضَى، والضُعَفاءِ، والعاجِزينَ. ولمَّا مَنَعَهم مِنَ التَخَلُّفِ، بَيَّنَ أَنَّهم لا يُصِيبُهم في ذَلِكَ السَفَرِ نَوْعٌ مِنَ المَشَقَّةِ إلاَّ وَهُوَ يُوجِبُ الثَّوابَ العَظيمَ عِنْدَ اللهِ تَعالى.
قولُهُ تعالى: {ما كانَ لأهلِ المدينةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ} ما: نافيةُ، و "كان" فعلٌ ماضٍ ناقصٌ، نَاسِخٌ، و " لأهل" الجارُّ والجرورُ متعلِّقٌ بخبرِ "كان"، و "مِنَ الأعْرابِ" الجارُّ متعلق بحالٍ مِنْ "مَنْ" و "أنّ" حرفٌ ناصبٌ، و "يتخلَّفوا" فعلٌ مضارعٌ منصوبٌ بها، وعلامةُ نَصْبِهِ حذفُ النونِ لأنَّه مِنَ الأَفعالِ الخَمْسَةِ، والمصَدرُ المُنْسَبِكُ مِنْ "أَنْ يِتَخَلَّفوا" اسْمُها، و "عَنْ رسولِ الله"، جارٌّ ومجرورٌ ومضافٌ إليه، وهما مُتعلِّقان ب "يَتَخَلَّفُوا".
قولُهُ: {ولا يرغبوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} يرغبوا: الأَظْهرُ أنَّه مَنْصوبٌ بالعَطْفِ، على "يَتَخَلَّفوا" ويجوزُ أنْ يَكونَ مجْزوماً بالنَهْيِ، فتكون "لا" ناهيةٌ جازمة. و " بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ" الباءُ للمُلابَسَةِ وهِيَ في مَوْضِعِ الحالِ.
قولُه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} ذلك: مبتدأٌ، والإشارةُ بِهِ إلى ما تضمَّنهُ انْتِفاءُ التَخَلُّف عِنْ وُجُوبِ الخُروجِ مِعَهُ، و "بأنهم لا يصيبهم" الباء حرف جرٍّ للسببية، و "أنَّ" حرفُ ناسخٌ مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ، والهاءُ اسمُها، والميمُ علامَةُ جمعِ المُذَكَّرِ، و "لا" نافيةٌ لا عَمَلَ لها، و "يصيبهم" فِعْلٌ مُضارِعٌ والهاءُ مَفْعُولُهُ، و "ظَمَأٌ" فاعِلُهُ، والجُمْلَةُ في محلِّ رفعِ خَبَرِ "أنَّ" والمصْدَرُ المُنْسَبِكُ مِنْ "أَنهم لا يصيبهم" مجرورٌ بالباءِ في محلِّ رَفْعِ خَبَرِ "ذلك". والظَّمأُ: العَطَشُ، يُقالُ: ظَمِئَ يَظْمَأُ ظَمَأً، فهُوَ ظمآنُ وهي ظمأى، وفيه لُغَتانِ: القَصْرُ والمَدُّ، والظِّمْءُ ما بَيْنَ الشَّرْبَتَيْن.
قولُهُ: {ولا يطؤون موطئاً} "مَوْطِئاً" مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مَفْعولٌ مُطْلَقٌ عَلَى مَعْنى: يَدوسُونَ دَوْسًا، بوزنِ "مَفْعِل" مِنْ وَطِئَ ، ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ مَصْدَراً بمعنى الوَطْءِ، وأَنْ يَكونَ مَكاناً، والأَوَّلُ أَظْهَرُ، لأَنَّ فاعلَ "يغيظ" يَعودُ عَلَيْهِ مِنْ غيرِ تَأْويلٍ بخلافِ كَوْنِهِ مَكاناً فإنَّهُ يَعودُ على المَصْدَرِ وهُوَ الوَطْءُ الدّالُّ عَلَيْهِ المَوْطِئُ.
قولُهُ: {ولا ينالونَ من عدوٍّ نيلاً} النَّيْلُ مَصْدَرٌ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ على بابِهِ، وأَنْ يَكونَ واقعاً مَوْقِعَ المَفْعولِ بِهِ، ولَيْسَتْ ياؤهُ مُبْدَلَةً مِنْ واوٍ كَما زَعَمَ بَعْضُهم، بَلْ نالَهُ يَنُولُهُ مَادَّةٌ أُخْرَى، ومَعْنى آخَرَ وهُو المُناوَلَةُ، يُقالُ: نِلْتُهُ أَنُوْلُهُ، أيْ: تَناوَلْتُهُ ونِلْتُهُ أَنِيلُهُ، أَيْ: أَدْرَكْتُهُ. و "مِنْ" مُسْتَعْمَلٌ هنا في التَبْعيضِ المجازِيِّ المُتَحَقِّقِ في الرَزِيَّةِ.
قولُهُ: {إلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} الاسْتِثْنَاءُ هنا مُفَرَّغٌ مِنْ عُمومِ الأَحْوالِ. فجُمْلَةُ: "كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ" في مَوْضِعِ الحالِ، وأَغْنى حَرْفُ الاسْتِثْناءِ عَنْ اقْتِرانِها بِ "قَدْ". والضَميرُ في "به" عائدٌ على "نصَبٌ" وما عُطِفَ عَلَيْهِ، إمَّا بِتَأْويلِ المَذْكورِ، وإمَّا لأَنَّ إعادَةَ حَرْفِ النَفْيِ جَعَلَتْ كُلَّ مَعْطوفٍ كالمُسْتَقِلِّ بالذِكْرِ، فَأُعيدَ الضَميرُ على كلِّ واحِدٍ عَلى البَدَلِ، كَما يُعادُ الضَميرُ مُفْرَداً عَلى المُتَعاطِفاتِ بِ (أو) باعْتِبارِ أَنَّ ذَلِكَ المُتَعَدِّدَ لا يَكُونُ في نَفْسِ الأَمْرِ إلاَّ واحداً مِنْهُ. وقيل: "إلا" للحَصْرِ، وجملةُ "كتب" أيضاً في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من "ظمأ" وما عطف عَلَيْهِ؛ أيْ: لا يُصِيبُهم ظَمَأٌ إلاَّ مَكْتوباً، وأُفْرِدَ الضَميرُ في "به" وإنْ تَقَدَّمَهُ أَشْياءُ إجْراءً لَهُ مُجْرى اسْمِ الإشارَةِ؛ أَيْ: كُتِبَ لهم بِذلِكَ عَمَلٌ صالحٌ، وجازَتِ الحالُ مِنَ النَكِرَةِ لِسَبْقِها بالنَفْيِ.
وقرأَ العامَّةُ: {يَغيظُ} بفتح الياءِ، وقرأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ ـ رضي اللهُ عنهما: "يُغيظُ: بِضَمّها، وهما لُغَتانِ، يقالُ: "غَاظَ" ثلاثيّاً و "أَغاظَ" رباعيّاً.
وقرأ العامَّةُ: {ظمأٌ} بالقَصْرِ، وقَرأَها عَمْرو بْنُ عَبَيْدٍ بالمَدِّ، نحوَ: سَفِهَ سَفَاهاً.