يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ
(119)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ} نِداءٌ مِنْهُ سُبْحانَهُ إلى المُؤمِنينَ مِنْ عِبادِهِ، يَأْمُرُهم فيهِ بِتَقْواهُ، وتقواه معناها اتقاءُ غَضَبِهِ وتجَنُّبُ عقابِهُ وعَذَابِه. وذلك بتركِ ما نهى عنه، وَاتباع ما أمرَ به وهو خطابٌ عامٌّ يَنْدَرِجُ فيهِ التائبونَ الثلاثةُ من المُتَخَلِّفينَ مَوْضوعَ الآيةِ السابقةِ انْدِراجاً أَوَّلِيّاً. وإذا اتَّقى المُؤمِنُ رَبَّهُ بَلَغَ مَرْتَبَةَ وِلايَتِهِ سُبْحانَهُ لِقَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ يُونُسَ: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ..} الآيات: 62 ـ 64. فإذا مُنِحَ العَبْدُ مَرْتَبَةَ وِلايَةِ رَبِّهِ العَظيمِ، ومَولاهُ الكَريمِ، كان مِنَ الذينَ لا خَوْفَ عَلَيْهِمْ في الدنيا والآخِرَةِ ولا هُمْ يَحْزَنون، وكانَ لهم مُبَشِّراتٌ بِذَلِكَ مِنَ اللهِ تَعالى في الحياةِ الدُنيا، بالحِفْظِ والتَأْيِيدِ والعيشِ السَعيدِ، ومُبَشِّراتٌ بالنَجاةِ مِنَ العَذابِ الشَديدِ يومَ الوَعيدِ، والفوزِ بجنَّةِ الرُضْوانِ والرَّوحِ والرَّيحانِ ورِضَى الرَحيمِ الرَحمنِ.
قولُهُ: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وللحِفَاظِ على تِلْكَ المَرْتَبَة الإيمانِيَةِ الرَفِيعَةِ السامِيَةِ التي هِيَ ولايةُ اللهِ ـ جَلَّ في عُلاهُ، أَمَرَهُمْ بالصُحْبَةِ الصالحَةِ، صُحْبَةِ الصادقينَ فقالَ في مُحْكَمِ كِتابهِ الكَريمِ: "وكُونوا مَعَ الصادقين" أَيْ: الْتَحِموا بهم وكُونُوا في مَعِيَّّتِهم، لأنَّ الصُحْبَةَ لها أَثَرٌ بالغٌ في تحديدِ انْتِماءِ المَرْءِ وتَكْوينِ فِكْرِهِ وسُلوكِهِ، ولِذلِكَ أُمِرَ العَبْدُ الذي تابَ فيمَنْ كانَ قَبْلَنا بَعْدَ أَنْ قَتَلَ مِئَةَ رَجُلٍ ظُلماً وعُدْواناً بالهِجْرَةِ مِنْ بَلَدِهِ التي فيها له قُرَناءُ سُوءٍ، إلى حَيْثُ الصُحْبَةُ الصالحَةُ، إذْ بِدونِها لا يَسْتَطيعُ الالْتِزامَ بِسُلوكِ سَبيلِ المُتَّقينَ، مادام حولَهُ مَنْ يُحاوِلُ جَذْبَه إلى طريقِ الشرِّ والفسادِ. فقد جاءَ في الصَحيحَين عَنْ أبي سَعيدٍ الخِدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُ، أَنَّ النبيَّ ـ صلّى اللهُ عليهَ وسلَّمَ، قَالَ: ((كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسانًا ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ فَأَتَى رَاهِبًا، فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ: هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: لاَ. فَقَتَلَهُ فَجَعَلَ يَسْأَلُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا وَكَذَا فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَنَاءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ، فَأَوْحى اللهُ إِلَى هذِهِ: أَنْ تَقَرَّبِي، وَأَوْحى اللهُ إِلَى هذِهِ: أَنْ تَبَاعَدِي، وَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا فَوُجِدَ إِلَى هذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ، فَغُفِرَ لَهُ)). أَخْرجَهُ البُخاريُّ في: كتابِ الأِنْبِياءِ، واللَّفظُ لَهُ.
وفي قولِهِ ـ جَلَّ مِنْ قائلٍ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} الآية: 28 من سورة الكهف. إشارتان لطيفتان، أُولاهما: "ولا تعدُ عيناك عنهم" والثانيةُ: "تريدُ زينة الحياةِ الدنيا" فالأولى تؤكِّدُ على عدم مفارقة القلبِ لهم واللُّبِّ ولو طرفةَ عينٍ، والثانيةُ توضحُ بأنًَّه ثمَّة طريقين اثنين في الحياة ولا ثالثَ لهما البتَّةَ، إمَّا طريقُ البرِّ والخيرِ والصدقِ والفضيلةِ، وإمّا طريقُ الشرِّ والمعصيةِ والرذيلة، فإنَّ القلبَ إذا التفتَ عن الأولِ فهو لا مَحالةَ واجدٌ الآخر أمامهُ، ولذلك وجدنا الدينَ الإسلاميَّ الحنيفَ، أشدَّ ما يكون حرصاً على جماعة المسلمين وما فيه تماسُكُها، وقد أكَّدَ رَسُولُ الإسلامِ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ، على هذا في أحاديث كثيرةٍ لا يسعف المقامُ بحصرها، وإنَّما نذكرُ منها ما أخرجهُ ابْنُ حَبّانَ في صحيحِه عَنْ عَرْفَجَةَ بْنِ شُرَيْحٍ الأَشْجَعِيِّ ـ رضي اللهُ عنهُ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ((سَيَكُونُ بَعْدِي هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ، فَمَنْ رَأَيْتُمُوهُ فَارَقَ الْجَمَاعَةِ أَوْ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمْرُهُمْ جَمِيعٌ، فَاقْتُلُوهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ، فَإِنَّ يَدَ اللهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ يَرْتَكِضُ)). ولهُ شواهدُ كثيرةٌ عندَ الترمذيِّ والبيهقيِّ وغيرِهما، وقالَ شعيبُ الأرنؤوط هو صحيحُ الإسناد.
والصدقُ كَما يَكونُ في الأَقْوالِ يَكونُ في الأَحْوالِ، ويقالُ: الصِدْقُ نهايَةُ الأَحْوالِ، وهُوَ اسْتِواءُ السِّرِّ والعَلانِيَةِ، وذلك عزيزٌ. وفي الزَّبور: (كَذَبَ مَنِ ادَّعَى محَبَّتي وإذا جَنَّةِ الليلُ نامَ عنِّي).
و "الصادقينَ" هُمُ الذينَ صَدَقوا في دِينِ اللهِ نِيَّةً وقَوْلاً وَعَمَلاً ، أَوِ الذين صَدَقوا في إيمانِهم ومُعاهَدَتِهم للهِ ورَسُولِهِ عَلى الطاعَةِ مِنْ قَولِهِ: {رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ} سورة الأحزاب، الآية: 23.
ولهؤلاءِ في الآخرةِ خيرُ الدرجاتُ وخيرُ الصُحْبةِ، قالَ ـ جَلَّ ثَناؤهُ: {ومَنْ يُطِعِ اللهَ والرَّسولَ فَأولئكَ مَعَ الذينَ أَنْعَمَ اللهُ عَليهمْ مِنَ النَبِيّينَ والصِدِّيقينَ والشُهَداءِ والصالحينَ وحَسُنَ أولئك رفيقاً} سورةُ النِساءِ، الآية: 69.
إذاً فقدْ أَوْجَبَ اللهُ تَعالى على المؤمنين أنْ يكونوا مَعَ الصادِقين، ومَتى وَجَبَ هذا فلا بُدَّ مِنْ وُجودِهم في كُلِّ وَقْتٍ، وهذا يَمْنَعُ مِنْ اجتماعَ الأُمَّةِ على الباطِلِ، ومتى امْتَنَعَ ذَلِكَ، وَجَبَ إذا اجتمعوا عَلى شَيْءٍ أَنْ يَكُونُوا مُحِقِّينَ. فهذا دليلُّ على أَنَّ إجماعَ الأُمَّةِ حُجَّةٌ. وقد ثَبَتَ بالتَواتُرِ الظاهِرِ مِنْ دِينِ محمَّدٍ ـ صلّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أَنَّ التَكَالِيفَ المَذْكورَةَ في القُرآنِ مُتَوَجِّهَةٌ عَلى المُكَلَّفينَ إلى قيامِ الساعة، فكانَ الأَمْرَ في هَذا التَكْليفِ كَذَلِكَ. وقد أَمَرَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، بالصدقِ وبينَ طريقه، حذَّر منَ الكَذِبِ ورَسَمَ عاقِبَتَهُ فقال فيما أَخْرج أحمدُ ابْنُ حنبلَ في مُسْنَدِهِ، والشيخانِ في صَحيحَيْهِما، عَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ مَسْعودٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((عَلَيْكُمْ بالصِدْقِ؛ فإنَّ الصِدْقَ يَهْدِي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدي إلى الجَنَّةِ، وما يَزَالُ الرَجُلُ يَصْدُقُ ويَتَحَرَّى الصِدْقَ حَتى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقاً، وإيّاكُمْ والكَذِبَ، فإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إلى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجورَ يَهْدِي إلى النَّارِ، وما يَزالُ الرَجُلُ يَكْذِبُ ويَتَحَرَّى الكَذِبَ، حَتى يُكتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذّاباً". وعَنِ ابْنِ مسعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (لا يَصْلُحُ الكَذِبُ في جِدٍّ ولا هَزْلٍ، ولا أَنْ يَعِدَ أَحَدُكم صَبِيَّهُ ثمَّ لا يُنْجِزُهُ. اقرؤوا إنْ شِئْتم: "وكونوا مع الصادقين" فهَلْ فيها مِنْ رُخْصَةٍ؟.
قيلَ المُرادُ بالصادقين هُنا: المُهاجِرونَ، لِقَوْلِهِ تعالى في سورة الحَشْرِ: {للفُقَراءِ المُهاجِرينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} الآية: 8. وقَدِ احْتَجَّ بها أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ على الأَنْصارِ يَوْمَ السَقِيفَةِ، فقال: نحنُ الصادِقونَ، وقدْ أَمَرَكُمُ اللهُ أَنْ تَكونُوا مَعَنَا، أَي: تابعينَ لَنا.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: الخِطابُ لِمَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الكِتابِ، أَيْ كُونوا مَعَ المُهاجِرينَ والأَنْصارِ، ووافِقوهُمْ وانْتَظِموا في جُمْلَتِهم، واصْدُقُوا مِثْلَ صِدْقِهم.
وأَخرجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وأَحمدُ عَنْ أَسماءَ بِنْتِ يَزيدٍ ـ رضي اللهُ عنها، عَنِ النَبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، قال: ((كُلُّ الكَذِبِ يُكْتَبُ عَلَى ابْنِ آدَمَ إلاَّ رَجُلٌ كَذَبَ في خَديعَةِ حَرْبٍ، أَوْ اصْلاحٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ، أَوْ رَجُلٌ يُحَدِّثُ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَها)).
وكَذا إِباحَةُ المعاريِضِ. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ عُمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، إِنَّ في المَعاريضِ لَمَنْدوحَةٌ عَنِ الكَذِبِ.
أمّا في سببِ نزولِ هذه الآيةِ المباركةِ فقد أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، عَنْ نافِعٍ ـ رضي اللهُ عنه، في قولِهِ: "يا أيُّها الذين آمَنُوا اتَّقوا اللهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقينَ" قالَ: نَزَلَتْ في الثَلاثَةِ الذين خُلِّفُوا: قيلَ لهم: كُونُوا مَعَ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وأَصْحابِهِ. وأَخرجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنِ ابْنَ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، مِثْلَهُ.
وأَخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ـ رضي اللهُ عنهُ، قال: فينا نَزَلَتْ أَيْضاً: "اتَّقُوا اللهَ وكُونُوا مَعَ الصادِقين".
قرأ العامَّةُ: {وكونوا مَعَ الصادقين}، وأَخْرَجَ ابْنُ الأَنْبارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّه كانَ يَقْرَأُ "وَكُونُواْ مِنَ الصادقين" وكذا رَوَى البَيْهَقِيُّ وغيرُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعودٍ أَنَّهُ كانَ يَقْرَأُ كَذَلِكَ.