قَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ
(117)
قولُه ـ تعالى شأنُه: {َقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} تَابَ: أَيْ: غَفَرَ، وتابَ عَلَيْهم: غَفَرَ لَهم، أَيْ: لم يُؤاخِذْهُم بالذُنوبِ سَواءً كانوا مُذْنِبينَ أَوْ لم يَكونُوا، وهُوَ كَقَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ المُزَّمِّلِ: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} الآية:20. أَيْ: فغَفَرَ لَكم، وتجاوَزَ عَنْ تَقْصيرِكم، حتى ولو لم يكنْ هنالِكَ ذَنْبٌ ولا تَوْبَةٌ. فقد أَكْرَمَ اللهَ تَعَالَى المَهُاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ بِالتَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ لِصِدْقِ إِيمَانِهِمْ بِاللهِ، وَلاسْتِجَابَتِهِمْ لِدَعْوَةِ رَسُولِهِ الكَرِيمِ ـ صلّى اللهُ عليه وسلَّم، وهوَ انْتِقالٌ مِنَ التَحْريضِ عَلى الجِهادِ والتَحْذيرِ مِنَ التَقاعُسِ، والتوبيخِ على التَخَلُّفِ، وما طَرَأَ على ذلكَ التَحْريضِ مِنْ بَيانِ أَحْوالِ النَّاسِ تجاهَ ذَلكَ التَحْريضِ وما أعْقَبَهُ مِنْ أَعْمالِ المُنافِقينَ والضُعَفاءِ، والجُبَناءِ، إلى بَيانِ فَضِيلَةِ الذين انْتُدِبوا للغَزْوِ واقْتَحَموا شَدائدَهُ. وتقديمُ النَبيِّ في تَعَلُّق فِعْلِ التَوْبَةِ بالغَزاةِ للتَنْويهِ بِشَأْنِ هَذِهِ التَوْبَةِ ومحوها لجميعِ الذُنوبِ، إذْ من المعلومَ أَنَّ النَبيَّ ـ صَلى الله عليهِ وسَلَّم، قد غَفَرَ اللهُ له ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ، لقولِه تعالى في سُورَةِ الفتح: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} الآية: 2. فمعنى التوبة على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه أنَّ اللهَ لا يُؤاخِذُهم بما قَدْ يَحْسَبونَ أَنَّهُ يَتَسَبَّبُ بمُؤاخذَة الله لهم كما هو في قولِهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ: ((لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُم)) أخرجه الشيخان وغيرهما.
وللعُلَماءِ في المُرادِ بالتَوبَةِ هُنا أَقْوالٌ: فمِنْهم مَنْ يَرى أَنَّ المُرادَ بها
قَبُولُ تَوبتِهم، وغفرانُ ذُنوبهم، والتجاوُزُ عَنْ زَلاَّتهم التي حَدَثَتْ مِنْهم في تلكَ الغَزوَةِ أَوْ في غيرِها. وإلى هذا القولِ نميل لِقَوْلِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُما: كانَتِ التَوْبَةُ على النَبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ. لأجلِ أَنَّهُ أَذِنَ للمُنافِقينَ في القُعودِ بِدَليلِ قولِهِ سبحانه، قبلَ ذَلِكَ: {عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} الآية: 43. من هذه السورة. وكانت تَوْبَتُه على المؤمنينَ مِنْ مَيْلِ قُلوبِ بَعْضِهم إلى التَخَلُّفِ عَنْهُ، أيْ: إلى التَخَلُّفِ عَنِ الخُروجِ مَعَهُ إلى غَزْوَةِ تَبوك. ولأن الآية الكريمةَ مَسوقَةٌ لِبيانِ فَضْلِ اللهِ تعالى على رَسُولِهِ وعَلى المؤمنينَ، حيثُ غَفَرَ لهم ما فَرَطَ مِنْهم مِنْ هَفَواتٍ وَقَعَتْ في هذِهِ الغَزْوَةِ بمُقْتَضى طَبيعتِهِمُ البَشَريَّةِ، أو بمقتَضى الاجْتِهادِ في أُمورٍ لم يُبَيِّنِ اللهُ تعالى حُكْمَهُ فيها. وهذه التوبةُ لا تَنْقُصُ مِنْ مَنْزِلَةِ الرَسُولِ الكريمِ ولا مِنْ مَنْزِلَةِ أَصْحابِهِ ـ على اللهُ عليه وعلى آلِهِ وأَصْحابِهِ وسلَّمَ.
ورأى بعضٌ: أَنْ المَقْصودَ التَنْويهُ بِفَضْلِها، والحَضُّ على تجْديدِها، وهو كَقولِهِ في سورة الفتح: {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وكَقولِهِ: {واسْتَغْفرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} سورة محمد، الآية: 19. وهوَ حضٌّ للمُؤمنين على التَوْبَةِ، فما مِنْ مُؤْمِنٍ إلاَّ وهُو محتاجٌ إلى التوبةِ والاسْتِغْفارِ، فإنَّ التَوابين الأَوابين من صفة الأنبياءِ.
ومنهم مَنْ رأى أَنَّ المُرادَ بالتوبة هنا: دَوامُها لا أَصْلُها، وإلى هذا المعنى أشار بعضُهم بِقَوْلِهِ: لقد تابَ اللهُ على النبيِّ، أيْ: أَدامَ تَوْبَتَهُ على النَبيِّ والمهاجرين والأَنْصارِ.
ومنهم مَنْ رأى أنَّ المُرادَ قَبولُ تَوْبَةِ المُهاجرينَ والأَنْصارِ لما صَدَرَ عنْ بَعْضِهم مَنْ زَلاَّتٍ يومَ أُحُدٍ ويَومَ حُنَينٍ، وأنَّ ذِكْرَ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ وسلَّم، هُنا هُوَ مِنْ بابِ التَشْريفِ لهم، والتعْظيم لِقَدْرِهم، وهذا كما قالَ تعالى: {فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} فذكرَ ذاتَهُ العليَّةِ تشريفاً.
قولُهُ: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} الذِينَ اتَّبَعُوا رَسُولَ اللهِ فِي وَقْتِ عُسْرَةٍ في النَّفَقَةِ وَالظَّهْرِ وَالزَّادِ، فقد بَلَغَتْ بهم الشِدَّةُ إلى أَنِ اقْتَسَمَ التَمْرَةَ اثْنانِ، ورُبَّما مَصَّها الجَماعَةُ لِيَشْرَبوا عَلَيْها الماءَ المُتَغَيِّرَ. وفي عُسْرَةٍ مِنَ الماءِ، حتَّى قيلَ إنَّهم نحَروا الإبِلَ واعْتَصَروا فُروثَها. وفي شِدَّةِ زَمانٍ مِنْ حِمارَةِ القَيْظِ، ومِنَ الجَدْبِ والقَحْطِ والضِيقِ الشَديدِ. ووصْفُ المهاجرين والأنصارِ بما ذُكِرَ مِنِ اتِّباعِهم لَهُ ـ صلّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، في مِثْلِ ها تيكَ الألوان مِنَ الشِدَّةِ للمُبالَغَةِ في بيانِ الحاجَةِ إلى التوبةِ، فإنَّه إذْ لم يُغْنِهم ذَلِكَ عَنْها، فَالأَحْرَى أَلاَّ يَسْتَغْني عَنْها غيرهم.
ومعنى "اتَّبَعُوهُ" أَطَاعوهُ ولم يُخالِفوا عَلَيْهَِ، فالاتِّباعُ هنا مجازِيٌّ. و
"ساعة" الساعةُ: الحِصَّةُ مَنَ الزَمَنِ. و "العُسْرَةِ" اسْمُ العُسْرِ، وزِيدَتِ التاءُ فيه للمُبالَغَةِ، وهِيَ الشِدَّةُ. و "ساعة العسرة" هيَ زَمَنُ اسْتِنْفارِ النبيِّ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، الناسِ إلى غَزْوَةِ تَبوكٍ. فهُو الذي تقدَّمَتِ الإشارة إليه بقولِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} الآية: 38 من هذه السورة الكريمة. فالذين انْتُدِبوا فتَأَهَّبوا وخَرجوا هُمُ الذينَ اتَّبَعوهُ، فأَمَّا ما بعدَ الخروج إلى الغَزْوِ فذَلِكَ الجهادُ. لقولِهِ: "مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ" أيْ: مِنَ المُهاجِرينَ والأَنْصارِ، فإنَّهُ مُتَعَلِّقٌ ب "اتَّبَعُوهُ" أَيْ: اتَّبَعوا أَمْرَهُ بَعدَ أَنْ خامَرَ فَريقاً منهم خاطِرُ التَثاقُلِ والقُعودِ والمَعْصِيَةِ بحيثُ يُشْبِهونَ المُنافقينَ، فإنَّ ذَلِكَ لا يُتَصَوَّرُ وُقوعُهُ بَعَدَ الخُروجِ، وهَذا الزَيْغُ لم يَقَعْ ولكنَّهُ قارَبَ الوُقوعَ.
أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وابْنُ خُزَيْمَةَ، وابْنُ حَبَّانَ، والحاكِمُ، وصَحَّحَهُ، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وأَبو نُعَيْمٍ، والبَيْهَقِيُّ، في دَلائلِ النُبوَّةِ والضِياءُ المقدسيُّ، عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. أَنَّهُ قالَ لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ, حَدِّثْنا مِنْ شَأْنِ ساعَةِ العُسْرَةِ. فقال: خَرَجْنَا إِلَى تَبُوكَ فِي قَيْظٍ شَدِيدٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً، أَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّ رِقَابَنَا سَتَنْقَطِعُ، حَتَّى إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَذْهَبُ يَلْتَمِسُ الْمَاءَ، فَلا يَرْجِعُ حَتَّى نَظُنَّ أَنَّ رَقَبَتَهُ سَتَنْقَطِعُ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبُهُ, وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ عَلَى كَبِدِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ عَوَّدَكَ اللهُ فِي الدُّعَاءِ خَيْرًا، فَادْعُ لَنَا، فَقَالَ: ((أَتُحِبُّ ذَلِكَ))؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَرَفَعَ يَدَيْهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى أَظَلَّتْ سَحَابَةٌ، فَسَكَبَتْ، فَمَلأُوا مَا مَعَهُمْ، ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنْظُرُ، فَلَمْ نَجِدْهَا جَاوَزَتِ الْعَسْكَرَ.
وأَخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ عَنْ قَتَادَةَ في قولِهِ تعالى: "لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ" قَالَ: "هُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ قَبْلَ الشَّامِ، فِي لَهْبَانِ الْحَرِّ، عَلَى مَا يَعْلَمُ اللهُ مِنَ الْجَهْدِ، أَصَابَهُمْ فِيهَا جَهْدٌ شَدِيدٌ، حَتَّى لَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الرَّجُلَيْنِ كَانَ يَشُقَّانِ التَّمْرَةَ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ النَّفْرُ يَتَدَاوَلُونَ التَّمْرَةَ بَيْنَهُمْ يَمُصُّهَا أَحَدُهُمْ ثُمَّ يَشْرَبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَاءِ ثُمَّ يَمُصُّهَا الآخَرُ، فَتَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ، فَأَقْفَلَهُمْ مِنْ غَزْوِهِمْ".
وأخرج ابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ، والبَيْهَقِيُّ في الدَلائلِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلِ بْنِ أبي طالبٍ، "فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ" قَالَ: "خَرَجُوا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، الرَّجُلانِ وَالثَّلاثَةُ عَلَى بَعِيرٍ، وَخَرَجُوا فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، فَأَصَابَهُمْ يَوْمًا عَطَشٌ شَدِيدٌ، فَجَعَلُوا يَنْحَرُونَ إِبِلَهُمْ فَيَعْصِرُونَ أَكْرَاشَهَا، فَيَشْرَبُونَ مَاءَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ عُسْرَةٌ مِنَ الْمَاءِ، وَعُسْرَةٌ مِنَ الظَّهْرِ، وَعُسْرَةٌ مِنَ النَّفَقَةَ".
قولُهُ: {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} أيْ: مِنْ بعدِ أَنْ أَشْرَفَ فريقٌ مِنْهم على المَيْلِ عَنِ التَخَلُّفِ عَنِ الخُروجِ إلى غَزْوَةِ تَبُوكٍ، لِما لابَسَها وصاحَبَها مِنْ عُسْرٍ وشِدَّةٍ وتَعَبٍ. وفيه بَيانٌ لِتَناهي الشِدَّةِ، وبُلوغِها الغايةَ القُصْوى. وقال: "فَرِيقٍ مِّنْهُمْ" إشارةً إلى أَنَّ مُعْظَمَ المُهاجرينَ والأَنْصارِ، مَضَوا إلى تبوكٍ مع رسولِهِ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، دونَ أَنْ تُؤثِّرَ هَذِهِ الشَدائدُ في قوَّةِ إيمانهم، وصِدْقِ يَقينِهم، ومَضاءِ عَزيمَتِهم، وشِدَةَّ إخْلاصِهم.
قولُهُ: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} تَذْييلٌ مُؤَكِّدٌ لِقَبولِ التَوْبَةِ ولِعِظيمِ فَضْلِ اللهِ عَلَيْهم ولُطْفِهِ بهم. فإنَّ صِفَتا الرَأْفَةِ والرَّحمةِ مِنْ دَواعي التَوْبَةِ والعَفْوِ، ويجوزُ كَوْنُ الأَوَّلِ عِبارةً عَنْ إزالَةِ الضَرَرِ، والثاني عن إيصالِ المَنْفَعَةِ، وأَنْ يَكونَ أَحَدُهما للسَوابِقِ، والآخَرُ لِلَّواحِقِ. أي: ثمَّ تابَ سبحانه عَلَيْهم بَعْدَ أَنْ كابَدوا ما كابَدوا مِنَ العُسْرِ والمَشَقَّةِ ومجاهَدَةِ النَفْسِ. فإنَّهُ بهم رَؤوفٌ رَحيمٌ.
وقد ذكرَ التَوبَةَ أَوَّلاً قَبْلَ ذِكْرِ الذَنْبِ تَفَضُّلاً مِنْهُ وتَطْييباً لِقُلوبهم، ثمَّ ذَكَرَ الذَنْبَ وأَرْدَفَهُ بِذِكْرِ التَوبةِ مَرَّةً أُخرى، تَعظيماً لِشَأْنهم، ولِيَعْلَموا أَنَّهُ قد قَبِلَ تَوبَتَهم، وعَفا عَنْهم، ثمَّ أَتْبَعَهُ سبحانه بقوله: "إِنَّهُ بِهِمْ رَؤوفٌ رَّحِيمٌ" تَأْكيداً لِذلك. والرَأْفَةُ إزالَةُ الضَرَرِ، والرَّحمةُ إيصالُ النَفْعِ، واللهُ أعلمُ.
وفي سببِ نزولِ هذه الآيةِ المباركةِ، قالَ مجاهدٌ وغيرُ واحِدٍ من المفسِّرين: نَزَلَتْ هذِهِ الآيةُ في غَزْوةِ تَبوكٍ، وذلِكَ أَنَّهم خَرَجوا إليْها في شدَّةٍ مِنَ الأَمْرِ، في سَنَةٍ مُجْدِبَةٍ، وحَرٍّ شَديدٍ، وعُسْرٍ في الزادِ والماءِ.
قولُهُ تَعالى: {لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} هذه الجملة استئنافٌ ابتدائيٌّ، وافتِتاحُها بحرفِ التحقيق "لقد" تَأْكيدٌ لمضمونها المُتقرِّرِ فيما مَضى مِنَ الزَمانِ حَسْبَما دَلَّ عَلَيْهِ الإتْيانُ بالمُسْنَداتِ كلِّها أَفعالاً ماضِيَةً (تاب، اتَّبعوهُ، ثمَّ تاب، كادَ). ومِنَ المُحَسِّناتِ افْتِتاحُ هذا الكلامَ بالبِشارَة برضى الله على المؤمنين الذين غزوا تبوك. وقيل بأنَّ هذه الجملةَ جوابُ قَسَم مُقَدَّرٍ لا محلَّ لها.
قوله: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} الذين: هذا الاسمُ الموصولُ في محلِّ جرٍّ نعتاً ل "النبي والمهاجرين والأنصار"، و "اتبعوهُ: يجوزُ أَنَّهُ اتِّباعٌ حَقيقِيٌّ، بأنْ خَرَج ـ عليه الصلاةُ والسلامُ، أَوَّلاً وتَبِعَهُ أَصْحابُهُ، ويجوزُ أَنْ يَكونَ الاتِّباعُ مجازيّاً، أيْ: اتَّبَعوا أَمْرَهُ ونَهْيَهُ.
وقوله: {في ساعةَ العُسْرة} اسْتُعيرتِ السَّاعَةُ لذلكَ كَما اسْتُعيرَ
اليومُ والغَداةُ في قولِ قُطَرِيِّ بْنِ الفُجاءَةِ المازنيِّ:
فلو شَهَدتْني يومَ دُولابَ أبْصَرَتْ ....... طِعَانَ فتىً في الحربِ غَيْر لئيمِغَدَاةَ طَفَتْ عَلْمَاءِ بَكْرُ بنُ وَائِلِ ........ وَعُجْنَا صُدُورَ الخيلِ نحوَ تَميمِ وكما استعيرتِ العشِيَّةُ في قول: زُفَرِ بْنِ الحارِثِ الكِلابيِّ: وَكُنَّا حَسِبْنَا كُلَّ بَيْضَاءَ شَحْمَةً ........... عشية قارَعْنا جُذَامَ وحِمْيَراقوله: {من بعد ما كَادَ يَزِيغُ قلوب فريق منهم} من بعد: الجارُّ متعلِّقٌ ب "اتبعوه"، و "ما" مَصْدريَّة، والمصدَرُ المُؤَوَّلُ مُضافٌ إليه، و "كاد" فعلٌ ماضٍ ناسخٌ، مِنْ أَفعالَ المُقارَبَةِ، تعمَلُ في اسمينِ عَمَلَ (كان)، واسْمُها ضَميرُ الشَأْنِ، وإنما جُعِلَ ضَميرَ شَأْنٍ هُنا لِتَهْويلِ شَأْنِهم حين أَشْرَفوا على الزَيْغِ. والزيغ: الميلُ عَنِ الطَريقِ المقصود. و "قلوبُ" فاعلٌ مَرْفوعٌ بِ "يَزيغُ"، والجملةُ في محلِّ نَصْبٍ خبراً ل "كاد"، ويجوزُ أَنْ يكونَ اسمُها ضَميرَ القومِ، أوِ الجَمْعِ الذي دَلَّ عَلَيْهِ ذِكْرُ المهاجرين والأَنْصارِ، ولذلك قَدَّرَهُ أَبو البَقاءِ وابْنُ عَطِيَّةَ: مِنْ بعدِ كادَ القَوْمُ، وقال الشيخ أبو حيّان الأندلُسيُّ: فيَتَعيَّن أَنْ يَكونَ في "كاد" ضميرُ الشأنِ وارتِفاعُ "قلوب" ب "يزيغ" لامْتِناعِ أَنْ يَكونَ "قلوب" اسْمَ "كادَ"، و "يزيغ" في موضِعِ الخَبرِ، لأنَّ النيَّةَ بِهِ التَأْخيرُ، ولا يجوزُ: مِنْ بعدِ كادَ قلوبُ يَزيغُ (بالياءِ). ولا يَتَعَيَّنُ ما ذَكَرَه الشيخُ في هذِهِ القِراءَةِ لِما تقدَّم مِنْ جوازِ أَنْ يَكونَ اسْمُ "كادَ" ضَميراً عائداً على الجَمْعِ أَوِ القَوْمِ، والجملةُ الفعليَّةُ خَبرُها، ولا محذورَ يمنعُ مِنْ ذَلِكَ. وقوله: (لامتناع أن يكون "قلوب" اسْمَ "كاد"، يَعني أنَّا لو جَعَلْنا "قلوب" اسمَ "كاد" لَزِم أَنْ يَكونَ "يَزيغ" خَبراً مُقدَّماً، فيَلْزَمُ أَنْ يَرْفَعَ ضَميراً عائداً على "قلوب"، ولو كانَ كذلكَ لَلَزِم تَأْنيثُ الفِعْلِ لأنَّهُ حِينَئذٍ مُسْنَدٌ إلى ضَميرٍ مُؤَنَّثٍ مَجازِيٍّ؛ لأنَّ جمعَ التَكْسيرِ يَجْري مُجْرى المؤنَّثَةِ مَجازاً. وعلى قراءةِ التاءِ مِنْ فوق فيُحتَمَلُ أَنْ يَكونَ في "كاد" ضميرُ الشأن، كما تقدَّمَ، و "قلوب" مرفوعٌ ب "تزيغ"، وأُنِّثَ لِتأنيثِ الجمع، ويجوز أن يكون "قلوب" اسمَها، و "تزيغ" خبرٌ مقدَّمٌ، ولا محذورَ في ذلك، لأن الفعلَ قد أُنِّث. قالَ الشيخُ أبو حيّان: وعلى كلِّ واحدٍ من هذِه الأعاريب الثلاثةِ إِشْكالٌ على ما تقرَّرَ في علمِ النَّحْوِ مِنْ أَنَّ خبرَ أَفعالِ المقارَبَةِ لا يَكونُ إلاَّ مُضارِعاً رافعاً ضَميرَ اسمِها، فبَعضُهم أَطْلَقَ وبعضُهم قيَّدَ بغيرِ "عسى" مِنْ أَفعالِ المُقارَبَةِ، ولا يكونُ سبباً، وذلك بخلافِ "كان" فإنَّ خبرَها يرفعُ الضميرَ والسببيَّ لاسم كان، فإذا قدَّرْنا فيها ضميرَ الشأنِ كانت الجملةُ في موضِعِ نصبٍ على الخبرِ، والمرفوعُ ليس ضميراً يعودُ على اسْمِ "كاد" بلْ ولا سَبَباً لَهُ. وهذا يَلْزَمُ في قراءةِ التاءِ أَيْضاً. وأَمَّا تَوسيطُ الخبرِ فهو مَبْنيٌّ على جَوازِ مِثْلِ هَذا التَرْكيبِ في مِثْلِ (كان يقوم زيد) وفيه خلافٌ، والصحيحُ المنعُ. وأَمَّا الوجهُ الأخيرُ فَضَعيفٌ جِدّاً مِنْ حَيثُ أَضْمَرَ في "كاد" ضميراً لَيْسَ لَهُ على مَنْ يَعودُ
إلاَّ بِتَوَهُّمٍ، ومِنْ حَيْثُ يَكونُ خَبرَ "كاد" رافعاً سَبباً.
وكيفَ يَقولُ أبو حيّان: (والصحيحُ المنعُ) وهذا التَرْكيبُ مَوْجُودٌ في القُرآنِ كَقَولِهِ تَعَالى: {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ} سورة الأعراف، الآية: 137، وكقولِه في سورة الجِنِّ: {كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} الجِنّ: 4، وفي قولِ امْرِئ القيس:
وإن تَكُ قد ساءَتْكِ مني خَليقةٌ .......... فسلِّي ثيابي من ثيابِكِ تَنْسُلِ
فهذا التركيبُ واقعٌ لا مَحالةَ، وإنّما اخْتَلَفوا في تقديرِهِ: هلْ مِنْ بابِ تقديمِ الخبرِ أَمْ لا؟ فَمَنْ مَنَعَ لأنّهُ كبابِ المُبْتَدَأَ والخَبَرِ، والخَبرُ الصَريحُ مَتى كانَ كذلِكَ امْتَنَعَ تَقديمُهُ على المبتدَأَ لئَلاَّ يَلْتَبِسَ بِبابِ الفاعلِ، فكذلك بعدَ نَسْخِه. ومَنْ أَجازَ فَلأَمْنِ اللَّبْسِ.
ثمَّ قالَ الشيخُ: ويُخَلِّصُ مِنْ هَذِهِ الإِشْكالاتِ اعْتِقادُ كَوْنِ "كاد" زائدةً، ومعناها مُرادٌ، ولا عَمَلَ لها إذْ ذَاكَ في اسْمٍ ولا خَبَرٍ، فَتَكون مثل "كان" إذا زِيْدَتْ، يُرادُ مَعناها ولا عَمَلَ لها، ويُؤيِّدُ هذا التأويلَ قراءةُ ابْنِ مَسعودٍ: "مِنْ بعد ما زاغَتْ"، بإسقاطِ "كاد"، وقدْ ذَهَبَ الكُوفيّون إلى زيادتها في قولِهِ تَعالى: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} سورة النور، الآية: 40، مَعَ تأثُّرِها بالعاملِ وعملِها في ما بعدَها، فأَحْرى أنْ يُدَّعى زيادتُها وهي ليسَتْ عاملةً ولا معمولة. وقد أبى الجمهورُ زيادتَها، وقالَ بِهِ مِنَ البَصْريّينَ الأَخفشُ، وجَعَلَ مِنْهُ قوله تعالى في سورة طه: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} الآية: 15. وقد تقدَّمَ الكلامُ على ذلك. و "منهم" الجارُّ متعلِّقٌ بنعتٍ ل "فريق".
وقولُه: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} عطفٌ على جملة "لَقَدْ تَابَ اللهُ" أي: تاب على غير هذا الفريق مطلقاً، وتاب على هذا الفريق بعد ما كادت قلوبهم تزيغ، فتكون "ثُمَّ" على أصلها من المهلة. وذلك كقوله في نظير هذه الآية {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} الآية: 118. التالية. والمعنى تابَ عليهِم فهَمّوا بِهِ وخَرَجُوا فَلَقُوا المَشَقَّةَ والعُسْرَ، فالضَميرُ في قولِهِ: "عَلَيْهِمْ" ل "فَريق". وجَوَّزَ كثيرٌ مِنَ المفسرينَ أَنْ تكون "ثُمَّ" للترتيب في الذكر، والجملةُ بعدَها تأكيدٌ لِجُمْلَةِ "لَقَدْ تَابَ اللهُ"، فالضَميرُ للمُهاجرينَ والأَنْصارِ كُلِّهم.
قولُهُ: {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤوفٌ رَحِيمٌ} هَذِهِ الجمْلَةُ تَعْليلٌ لما قَبْلَها على التَفْسيريْنِ. وقِيلَ: هِيَ مُعْتَرِضَةٌ.
قرأَ العامَّةُ: {تزيغ} بالتاءِ مِنْ فَوْق، وقرَأَ حمزةُ وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ "يزيغ" بالياءِ مِنْ تحت.
قَرَأَ العامَّةُ: {مِنْ بعدِ ما كَادَ يَزِيغُ}، وقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "مِنْ بَعْدِ ما زَاغَتْ"، وقَرَأَ أُبيُّ بْنُ كَعْبٍ "مِنْ بَعْدِ ما كادَتْ تَزيغُ".