وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ
(75)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} هِيَ الأُخرى مِنْ قَبائحِ المُنافِقين، فإنَّ منهم مَنْ أَعْطَى اللهَ عَهْدَهُ وَمِيثَاقَهُ لَئِنْ أَغْنَاهُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَأَعْطَاهُ مَالاً وَثَرْوَةً لَيَشْكُرَنَّ اللهَ تعالى عَلَى نِعْمَتِهِ ولسوف يَتَصَّدَقُ مِنْهَا، وَينْفقُ على العَمَلِ الصَّالحِ، مِنَ صِلَةِ الرَّحِمِ وَالإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ وغيرِ ذلك. فما وَفَّى بما قالَ، ولا صَدَقَ فيما ادَّعى؟ فقد تَطَلَّبَ إحسانَ ربِّه، وتقرَّبَ إليه بإبرامِ عَهْدِهِ، فلمَّا حقَّق اللهُ مسؤولَه، واستجاب مأمولَه، فَسَخَ ما أبرمَهُ، وانْسَلَخِ عَمّا الْتَزَمَه، واستولى عليه البُخْلُ، فَضَنَّ بإخراج حقِّهِ، فَلَحِقَه شؤمُ نِفاقِه، بِأَنْ بَقِيَ إلى الأَبَدِ في أَسْرِه.
أَمَّا سَبَبُ نُزولِ هذِهِ الآيةِ المُبارَكَةِ فقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ، والطبرانيُّ، والحَسَنُ بْنُ سُفْيانَ، وابْنُ المُنْذِرِ، وأبو الشَيْخِ، والعَسْكَريُّ في الأمثالِ، وابْنُ مَنْدَهْ، والباورديُّ، وأبو نُعيْمٍ في مَعْرِفَةِ الصَحابةِ، وابْنُ مَردويْهِ، والبَيْهَقِيُّ في الدَلائلِ، وابْنُ عَساكِر، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ الأَنْصَارِيِّ: أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنِيَ مَالاً، فَقَالَ: ((وَيْحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ، قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لا تُطِيقُهُ))، قَالَ: ثُمَّ قَالَ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ له: ((مَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِثْلَ نَبِيِّ اللهِ؟ فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ شِئْتُ أَنْ تَسِيلَ مَعِيَ الْجِبَالُ ذَهَبًا وَفِضَّةً لَسَالَتْ))، قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَئِنْ دَعَوْتَ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنِيَ مَالاً لأُعْطِيَنَّ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اللَّهُمَّ ارْزُقْهُ مَالاً، اللَّهُمَّ ارْزُقْ ثَعْلَبَةَ مَالاً)) قَالا فَاتَّخَذَ غَنَمًا فَنَمَتْ كَمَا يَنْمُو الدُّودُ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِ "وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ". وزاد في رواية له: فَضَاقَتْ عَلَيْهِ الْمَدِينَةُ، فَتَنَحَّى عَنِ الْمَنْزِلِ فَنَزَلَ وَادِيًا مِنْ أَوْدِيَتِهَا حَتَّى جَعَلَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي الْجَمَاعَةِ وَيَتْرُكُ مَا سِوَاهُمَا، ثُمَّ نَمَتْ فَكَثُرَتْ حَتَّى تَرَكَ الصَّلَوَاتِ إِلا الْجُمُعَةَ، وَهِيَ تَنْمُو كَمَا يَنْمُو الدُّودُ حَتَّى تَرَكَ الْجُمُعَةَ، وَطَفِقَ يُتَلَقَّى الرُّكْبَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَسْأَلُهُمْ عَنِ الأَخْبَارِ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ ثَعْلَبَةَ؟ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، اتَّخَذَ غَنَمًا فَضَاقَتْ عَلَيْهِ الْمَدِينَةُ، وَأَخْبَرَهُ بِأَمْرِهِ، فَقَالَ: ((يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ)). قَالَ: وَأَنْزَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةٍ تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ فَرَائِضَ الصَّدَقَةِ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَجُلَيْنِ عَلَى الصَّدَقَةِ رَجُلاً مِنْ جُهَيْنَةَ وَرَجُلاً مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَكَتَبَ لَهُمَا كَيْفَ يَأْخُذَانِ الصَّدَقَةَ وَأَسْنَانَ الإِبِلِ، وَأَمَرَهُمَا أَن يَخْرُجَا فَيَأْخُذَا الصَّدَقَةَ، قَالَ لَهُمَا: مُرَّا بِثَعْلَبَةَ وَبِفُلانٍ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، فَخُذَا صَدَقَاتِهِمَا، فَخَرَجَا حَتَّى أَتَيَا ثَعْلَبَةَ فَسَأَلاهُ الصَّدَقَةَ، وَأَقْرَآهُ كِتَابَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ إِلاَّ جِزْيَةٌ، مَا هَذِهِ إِلاَّ أُخْتُ الْجِزْيَةِ، مَا أَدْرِي مَا هَذِهِ؟ اِنْطَلِقَا حَتَّى تَفْرُغَا، ثُمَّ عُودًا إِلَيَّ، فَانْطَلَقَا، وَسَمِعَ بِهِمَا السُّلَمِيُّ، فَنَظَرَ إِلَى خِيَارِ أَسْنَانِ إِبِلِهِ فَعَزَلَهُمَا لِلصَّدَقَةِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَهُمْ بِهَا، فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا: مَا يَجِبُ عَلَيْكَ هَذَا، وما نُريدُ أَنْ نَأخُذَ مِنْكَ هَذا، قالَ: بَلى فَخُذوا، فإنَّ نَفْسي بِذَلِكَ طَيِّبَةٌ، وإنّما هي لي، فَأَخَذُوهَا مِنْهُ، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ صَدَقَاتِهِمَا، رَجَعَا حَتَّى مَرَّا بِثَعْلَبَةَ، فَقَالَ: أَرُونِي كِتَابَكُمَا، فَنَظَرَ فِيهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا إِلاَّ أُخْتُ الْجِزْيَةِ انْطَلِقَا حَتَّى أَرَى رَأْيِي فَانْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُمَا، قَالَ: يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمَا وَدَعَا لِلسُّلَمِيِّ، فَأَخْبَرَاهُ بِالَّذِي صَنَعَ ثَعْلَبَةُ، وَالَّذِي صَنَعَ السُّلَمِيُّ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} إِلَى قَوْلِهِ: {يَكْذِبُونَ}. وَعِنْدَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَجُلٌ مِنْ أَقَارِبِ ثَعْلَبَةَ فَسَمِعَ ذَلِكَ، فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى ثَعْلَبَةَ، فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا ثَعْلَبَةَ قَدْ أَنْزَلَ اللهُ فِيكَ كَذَا وَكَذَا. فَخَرَجَ ثَعْلَبَةُ حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ صَدَقَتَهُ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ قَدْ مَنَعَنِي أَنْ أَقْبَلَ مِنْكَ صَدَقَتَكَ، فَجَعَلَ يَحْثُو عَلَى رَأْسِهِ التُّرَابَ، فَقَالَ لِهِ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا عَمَلُكَ قَدْ أَمَرْتُكَ فَلَمْ تَطِعْنِي، فَلَمَّا أَبَى أَنْ يَقْبِضَ مِنْهُ شَيْئًا رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَقُبِضَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ شَيْئًا، أَتَى أَبُو بَكْرٍ حِينَ اسْتَخْلَفَ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ مَنْزِلَتِي مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَوْضِعِي مِنَ الأَنْصَارِ فَاقْبَلْ صَدَقَتِي، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يَقْبَلْهَا مِنْكَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقْبَلُهَا أَنَا! فَقَبَضَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَقْبَلْهَا، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ أَتَاهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اقْبَلْ صَدَقَتِي، فَقَالَ: لَمْ يَقْبَلْهَا مِنْكَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلا أَبُو بَكْرٍ وَأَنَا أَقْبَلُهَا مِنْكَ! فَلَمْ يَقْبِضْهَا، فَقُبِضَ عُمَرُ وَلَمْ يَقْبَلْهَا، ثُمَّ وَلِيَ عُثْمَانُ فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ أَنْ يَقْبِضَ صَدَقَتَهُ، فَقَالَ: لَمْ يَقْبَلْهَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلا أَبُو بَكْرٍ وَلا عُمَرُ وَأَنَا أَقْبَلُهَا منكَ! فَلَمْ يَقْبَلْهَا وَهَلَكَ ثَعْلَبَةُ فِي خِلافَةِ عُثْمَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ". وعلى هذا فَضَمائرُ الجمعِ في: "لَنَصَّدَّقَنَّ" وَما بعدَهُ مُرادٌ بها واحِدٌ وإنَّما نُسِبَ الفِعلُ إلى جماعةِ المُنافِقينَ على طَريقةِ العَرَبِ في إِلْصاقِ فِعْلِ الواحِدِ بِقَبيلَتِهِ. ويُحْتَمَلُ أَنَّ ثَعْلَبَةَ سَأَلَ ذلك فتَبِعَهُ بَعْضُ أَصْحابِهِ مِثْلُ معتبِ بْنِ قُشيرٍ فأُوتي مِثْلَ ما أَوتيَ ثَعْلَبَةُ، وبَخِلَ مِثْلَ ما بَخِلَ، وإنْ لم تَجْيءْ فيه قِصَّةٌ كما تَقَدَّمَ آنِفاً. فإنَّ مِنَ العُلَماءِ مَنْ قالَ: نَزَلتْ فيهِ وفي سَهْلِ بْنِ الحارثِ، وجَدِّ بْنِ قَيْسٍ ومُعتبِ بْنِ قُشَيرٍ. والأَوَّلُ هُوَ الأَشْهَرُ. وقال بعضُهم: نَزَلَتْ هذه الآيةُ في ثَعْلَبَ بْنِ حاطِبٍ، ويُقالُ لَهُ ابْنَ أَبي حاطِبٍ، وهو مِنْ بَني أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، وليس هُو البَدْرِيّ، لأنَّهُ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُ، قدِ اسْتُشْهِدَ بِأُحُدٍ. ورُوِيَ عَنِ الكَلْبيِّ أَنها والتي بعدَها نَزَلَتا في حاطِبِ بْنِ أَبي بَلْتَعَةَ كانَ لَهُ مالٌ بالشامِ فَنَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْهُ، فلمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ بَخِلَ، وقيلَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ مَوْلًى لِعُمَرَ قَتَلَ حَمِيمًا لِثَعْلَبَةَ، فَوَعَدَ إنْ وَصَلَ إلَى الدِّيَةِ أَنْ يُخْرِجَ حَقَّ اللهِ فِيهَا ، فَلَمَّا وَصَلَتْ إلَيْهِ الدِّيَةُ لَمْ يَفْعَلْ.
ومِنَ العُلماءِ مَنْ أنكرَ هذِهِ القِصَّةَ وقال بِبُطلانِها، وممَّنْ قالَ بِذَلِكَ الإمامُ ابْنُ حَزْمٍ، الذي قالَ في المُحلى (11) /207، 208/: على أَنَّهُ قدْ رَوَيْنا أَثَراً لا يَصِحُّ، وأَنها نَزَلَتْ في ثَعْلَبَةَ بْنِ حاطِبٍ، وهذا باطِلٌ؛ لأنَّ ثَعلَبَةَ بَدْرِيٌّ مَعروفٌ، لأنَّ اللهَ أَمْرَ بِقَبْضِ زَكَواتِ أَمْوالِ المُسْلِمينَ، وأَمَرَ رسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ، عِنْدَ مَوْتِهِ ألاَّ يَبْقى في جَزيرَةِ العَرَبِ دِينانِ، فلا يخلو ثَعلَبَةُ مِنْ أَنْ يَكونَ مُسْلِماً ففَرْضٌ على أَبي بَكْرٍ وعُمَرَ قَبْضُ زَكاتِهِ، ولا بُدَّ، ولا فُسْحَةَ في ذَلِكَ، وإنْ كانَ كافِراً فَفَرْضٌ أَلاَّ يَبْقى في جَزيرةِ العَرَبِ، فَسَقَطَ هذا الأَثَرُ بِلا شَكَّ، وفي رُواتِهِ مُعانُ بْنُ رِفاعَةَ، والقاسمُ بْنُ عبدِ الرَحمنِ، وعليُّ بْنُ يَزيد، وهوَ ابْنُ عبدِ المَلِكِ، وكلُّهم ضُعفاءُ. وقالَ القاضي ابْنُ العربي: هو (ثَعْلَبَةَ بْنَ حَاطِبٍ الأَنْصَارِيَّ) وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ. ثمَّ رَوَى الحديثَ السابِقَ، ثمَّ قالَ: وَهَذَا الْحَدِيثُ مَشْهُورٌ. أَحْكامُ القُرآنِ لابْنِ العَربي: (4/360).
ونقولُ إنَّ ابْنَ حَزْمٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ، قدْ قالَ بِضَعْفِ بَعْضِ رُواةِ هذا الحديثِ ولم يَتَّهِمَهُمْ بالكَذِبِ، ثمَّ إنَّ قصَّةَ ثعلبةَ قدْ تكونُ استثناءً، كونَها حالةً خاصةً طَلَبَ فيها مِنَ النبيِّ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ، الدعاءَ بالرِزْقِ، وعاهدَهُ على القيامِ بحقِّهِ، ثمَّ لم يَفْعَلْ فحَنَثَ بِوَعْدِهِ ونَقَضِ عَهْدَه، وبِناءً عليْه فإنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلى اللهُ عليه وسلَّمَ، لم يقبلْ مِنْهُ، عقوبةً له وإظهاراً للاستغناءِ عنه. وهذا نحوُ ما رُوِيَ أَنَّ عامِلاً كَتَبَ إلى عُمَرَ بْنِ عبدِ العزيزِ أَنَّ فُلاناً يَمْنَعُ الزَكاةَ، فَكَتَبَ إليْهِ أَنْ دَعْهُ واجْعَلْ عُقوبَتَهُ أَنْ لا يُؤدِّي الزَكاةَ مَعَ المُسلمينَ، يُريدُ لمِا يَلْحَقُهُ مِنَ المَقْتِ في ذَلِكَ. وإنَّما فَعَلَ أَصْحابُ النبيِّ الثَلاثةُ الخُلَفاءُ مِنْ بعدِهِ ما فَعَلَ هُوَ تَأَسِّياً بِهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولم يَقتُلوهُ لاحْتِمالِ أَنَّهُ نِفاقُ مَعْصِيَةٍ لا نِفاقَ كُفْرٍ، لأنَّهُ سَبْحانَهُ وتَعالى قالَ: "وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ" والْمُعَاهِدُ للهَِ يجبُ أَنْ يَكونَ عَارِفًا بِهِ، وهو مؤمنٌ بأنَّ اللهَ هو الرازقُ، ومُصَدِّقٌ بنبوَّة رسولِهِ ـ صلى الله عليه وسلَّم، وكرامتِهِ على ربِّهِ، بِدَليلِ أَنَّهَّ الْتَمَسَ مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ بالرِزْقِ، فإِنْ كَانَ غَيْرَ عَارِفٍ بِاَللهِ فَكَيْفَ يَصِحُّ مُعَاهَدَةُ اللهِ مَعَ مَنْ لا يَعْرِفُهُ، وإنْ كان غيرَ مؤمنٍ بِرَسُولِهِ فكيفَ يَلْتَمِسُ مِنْهُ الدُعاءَ، وإنّما غلبَ على قلبِه حبُّ المالِ، ومنعهُ شحُّ نفسِهِ مِنْ أَداءِ حَقِّ اللهِ فيه. أخيراً فإننا عندما نقرأ قول ابْنِ كثير: (وقد ذَكَرَ كَثيرٌ مِنَ المُفَسِّرينَ، مِنْهمُ ابْنُ عبّاسٍ، والحَسَنُ البَصْرِيُّ: أَنَّ سَبَبِ نُزولِ هَذِهِ الآيَةِ الكَريمةِ في "ثعلبةَ بْنِ حاطِبٍ الأَنْصارِيِّ". تفسيرُ ابْنِ كثير: (4/ 183)، مُضافاً إليه قولُ ابْنِ العربيِّ المتقدِّم: (وَهَذَا الْحَدِيثُ مَشْهُورٌ، وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ). أَحْكامُ القُرآنِ لابْنِ العَربي: (4/360). يصبح من المتعذِّرِ علينا أن نَرْكَنَ إلى ما جَنَحَ إليه ابْنُ حزمٍ. واللهُ وليُّ التوفيقِ والهادي إلى سواءِ السبيل.
قولُهُ تَعالى: {مَنْ عَاهَدَ الله} فيه مَعنى القَسَمِ فَلِذلِكَ أُجيبَ بِقولِهِ: "لنصَّدَّقَنَّ"، وحُذِفَ جوابُ الشَرْطِ لِدَلالَةِ هَذا الجوابِ عَلَيْهِ.
قولُهُ: {لئن آتانا} واللامُ مُوطِّئَةٌ للقَسَمِ. ولا يَمْتَنِعُ الجَمْعُ بين القَسَمِ واللاّمِ المُوَطِّئَةِ لَهُ. و "إنْ" شَرْطِيَّةٌ، وجملةُ "لئن آتانا" تَفسيريَّةٌ.
وقولُهُ: {لَنَصَّدَّقَنَّ} هذه الجملةُ واقعةٌ في جوابِ القَسَمِ لا محلَّ لها من الإعراب.
قرأَ الجمهورُ: {لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ} بالنونِ الثَقيلَةِ، وقرأَ الأَعْمَشُ: "لنصَّدَّقنْ ولَنَكونَنْ" بالخَفيفَةِ.