فيضُ العليم ..... سورة التوبة، الآية: 29
قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ولا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ
(29)
قولُه ـ تعالى جَدُّه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} أَمْرٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لرسولِهِ محمدٍ ـ صلى اللهُ عليه وسلّمَ، وللمؤمنينَ مَعَهُ بِقِتَالِ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، بَعْدَ أَنْ كَثُرَتْ خِياناتُهم للهِ ورسولِهِ والمُؤمنين، وافْتُضِحَتْ مؤامراتُهم ودَسائسُهم، وبعدَ أَنِ اسْتَقَامَتِ الأُمُورُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي جَزِيرَةِ العَرَبِ، بِدُخُولِ النَّاسِ فِي الإِسْلاَمِ، وَذَلِكَ سَنَةَ تِسْعٍ لِلْهِجْرَةِ، لمَّا اكْتَمَلَ نَصْرُ الإسْلامِ بِفَتْحِ مَكَّةَ والطائفِ وعُمومِهِ بِلادَ العَرَبِ وجاءتْ وُفودُهم إلى المدينَةِ المنوَّرةِ مُعلِنةً إسلامَهم ومبايِعةً الرَسولَ الكريمَ، ووقد توسَّعَ ذلك وامْتَدَّ إلى تُخومِ بِلادِ الشام، حيث يقيمُ الغساسنةُ النصارى تحت حكم الروم وسلطتهم، فأَوجَسَ هؤلاء النَصارَى العَرَبُ في تلك البِلادِ خِيفَةً مِنْ تَطَرُّقِهِ إلَيهْم. وأزعج الروم أن تكونَ للإسلامِ دولة بجوارهم، ورهبوا أنْ يَدْخُلَ الدينُ الجديدُ إلى نفوسِ النصارى العربِ الذين يحكمونهم، فقد يسهِّلُ ذلك ما بينهم من وشائج القربى. فأَخَذَ الرُومُ يَسْتَعِدُّونَ لِحَرْبِ المُسْلِمين متّخذين مِنْ مُلوكِ الغَساسِنَةِ سادَةِ بِلادِ الشامِ في مُلْكِ الرُومِ رَأْسَ حَرْبَةٍ في معركتهم تلك.
وكان المسلمون في المدينة متوجسون من ذلك فقد جاءَ في صَحيحِ البُخاري عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عنه، أَنَّهُ قالَ: (كانَ لي صاحِبٌ مِنَ الأَنْصارِ إذا غِبْتُ أَتاني بالخَبَرِ، وإذا غابَ كُنْتُ أَنَا آتيهِ بالخَبَرِ، ونحنُ نَتَخَوَّفُ مَلِكاً مِنْ مُلوكِ غَسّانَ ذُكِرَ لَنا أَنَّه يُريدُ أَنْ يَسيرَ إلَيْنا، وأَنَّهم يَنْعلونَ الخَيْلَ لِغَزْوِنا، فإذا صاحِبي الأَنْصارِيُّ يَدُقُّ البابَ فقالَ: افْتَحِ، افْتَحْ. فقُلْتُ: أَجاءَ الغَسَّانيُّ؟. قالَ: بَلْ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ، اعْتَزَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نِساءَهُ .... إلى آخِرِ الحَديثِ. وهذا يُوضِحُ بجَلاءٍ الخَطَرَ الذي كان يَتَوَجَّسُ مِنْه المُسْلِمونَ على أَنْفُسِهم ودينِهم مِنْ هؤلاءِ، فلا جَرَمَ إذاً لمَّا أَمِنَ المُسْلَمونَ بَأْسَ المُشْرِكين، أَنْ يَأْخُذوا الأُهْبَةَ لِيَأمَنُوا بَأْسَ أَهْلِ الكِتابِ مِنَ اليَهودِ والنَصارى، فابْتَدَأَ ذَلِكَ بِغَزْوِ خَيْبَرَ وبني قُرَيْظَةَ وبني النَضيرِ، للاطمئنانِ إلى أنَّ ليس لهم عدوٌّ بين ظهرانيهم ربما يستغل منهم غيبةً أو غفلةً ليمكر بهم وليصيب منهم مقتلاً، فإنَّ تجرُبَتَهم مع اليهود أكسبتهم بأنَّهم لا يمكن أن يؤتمنوا ولا يطمئنّ إليهم، فقاتلوا اليهودَ وهَزَموهم في هذه المعاركِ الثلاثِ، وكَفى اللهُ المُسلِمينَ بَأْسَهُم، وأَوْرَثَهم أَرْضَهم.
ثمَّ بَعْدَ نُزولِ هذِهِ الآيَةِ تَجَهَّزَ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّم، لِقِتَالِ الرُّومِ الذين كانوا يَحْشُدونَ في بِلادِ الشَامِ التي يَحْتَلُّونَها، ويُعِدُّونَ لِغَزْوِ الجَزيرَةِ العَربِيَّةِ واسْتِئصالِ شَأَفَةِ الإسلامِ والمُسْلِمينَ، كما تقدَّم.
فدَعَا رسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ، المسلمين إِلَى تَنْفيذِ هَذا الأَمْرِ الإلهيِّ، وَنَدَبَ المُؤْمِنِينَ إِلَى الجِهَادِ، وَتَخَلَّفَ بَعْضُ المُنَافِقِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ العَامُ عَامَ جَدْبٍ، وَالْوَقْتُ شديدُ الحَرِّ، وخَرَجَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسَلَّمَ، وَصَحْبُهُ ـ رضي اللهُ عنهم، إِلَى تَبُوكَ، فَنَزَلَ بِهَا، وَأَقَامَ فِيهَا قُرَابَةَ عِشْرِينَ يَوْماً، فَصالحَ أَهْلَ أَدْرَجَ وأَيلةَ، وغيرِهما، على الجِزْيَةِ، ثُمَّ رَجَعَ لِضِيقِ الحَالِ، وَضَعْفِ النَّاسِ. فقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وابْن ُجريرٍ، وابْنُ المُنذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأبو الشَيْخ، والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عَنْ مجاهدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، في قولِهِ تعالى: "قاتِلوا الذين لا يُؤْمِنونَ باللهِ ..." الآية. قال: نَزَلَتْ هَذِهِ حينَ أُمِرَ محمَّدٌ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وأَصحابُه بِغزوَةِ تَبوكٍ. وأَخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ شِهابٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: أُنْزِلَ في كُفَّارِ قُرَيْشٍ والعَرَبِ قولُه تعالى في سورة البقرة: {وقاتلوهم حتى لا تكونَ فِتْنةٌ ويكونَ الدينُ للهِ} الآية: 193. وأُنْزِلَ في أَهْلِ الكِتابِ قولُه تعالى في هذه الآية: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر" إلى قولهِ: "حتى يعطوا الجزية" فكانَ أَوَّلَ مَنْ أَعْطَى الجِزْيَةَ أَهْلُ نَجْرانَ.
وقد شُرِعَ القتالُ في الإسْلامِ لأَمْرَيْنِ، حدّدَهما النبيُّ ـ صلّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، فيما أَخْرَجَ ابْنُ عَساكِرَ عَنْ أَبي أُمامةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: ((القِتالُ قِتالانِ: قتالُ المُشْرِكينَ حتى يُؤْمِنوا أَوْ يُعطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرونَ، وقتالُ الفِئَةِ الباغِيَةِ حَتى تَفيءَ إلى أَمْرِ اللهِ، فإذا فاءَتْ أُعْطِيَتِ العَدْلَ)).
قولُه: {ولا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ} فأَحلُّوا الخَمْرَ والمَيْتَةَ والدَمَ ولَحْمَ الخِنزيرِ، واستحلّوا الرِّبا والمَيْسِرَ وغيرَ ذلك ممّا حَرَّمَتْهُ الشَريعةُ المُحَمَّدِيَّةُ، فالمَعْنيُّ ب "رَسُولهُ" هُنا هو محمَّّدٌ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّم.
قولُه: {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} أَيْ: لا يَدْخُلونَ في دينِ الإسْلامِ، الذي هُو الدَيْنُ الحَقُّ، الناسِخُ لِسائرِ الأَدْيانِ ومُبْطِلُها، وهو الذي طلبه منهم أنبياؤهم جميعاً والذي أوضحناه غيرَ مَرَّةٍ. فقدْ وَجَبَ إذاً قِتَالُ أَهْلِ الكِتَابِ إِذا اجْتَمَعَتْ فِيهِمْ أَرْبَعُ صِفَاتٍ هِيَ العِلَّةُ فِي عَدَاوَتِهِمْ لِلإِسْلاَمِ وَالمُسْلِمِينَ وهِيَ:
1 ـ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ، لأَنَّهُمْ هَدَمُوا التَّوْحِيدَ فَاتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ مُشَرِّعِينَ، واتبعوهم على ضلالاتهم، فمنهم من قال بالتثليث وَمِنْهُمْ مَنْ عَبَدَ المَسِيحَ أو العُزَيْرَ ـ عليْهِما السَّلامُ.
2 ـ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاليَوْمِ الآخِرِ، إِذْ يَقُولُونَ إِنَّ الحَيَاةَ الآخِرَةَ هِيَ حَيَاةٌ رُوحَانِيَّةٌ يَكُونُ فِيهَا النَّاسُ كَالمَلائِكَةِ أَخْذاً بِرأْيِ بعض الفلاسفة، مخالفين بذلك ما جاءهم بِهِ النَبيّونَ عَلَيْهِمُ السّلامُ.
3 ـ أَنَّهُمْ لاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولَهُ، وَلاَ يَلْتَزِمُونَ العَمَلَ بِمَا حَرَّمَ عَلَيهِمْ، فقد كان أحبارُهم ورُهبانهم يحلِّلون ويحرّمون على هواهم، بحسب ما تمليه عليهم مصالحِهم وشَياطِينِهم، وقد اتبعتهُمُ العامّةُ في ذَلكِ.
4 ـ أَنَّهُمْ لاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ الذِي أَوْحَى اللهُ به إِلَى أَنْبِيَائِهِ، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ دِيناً وَضَعَهُ لَهُمْ أَحْبَارُهُمْ وَأَسْاقِفَتُهُمْ، مخالفاً كثيراً لما نَزَلَ بِهِ الروحُ الأمينُ جبريلُ على أَنْبِيائهم عليه وعليهِمُ السَّلامُ.
قولُهُ: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} وأهلُ الكتابِ هُمُ اليَهودُ والنَصارَى، ويَلْحَقُ بهِمُ المَجوسُ؛ لِقولِهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ: ((سُنُّوا بِهِمْ سُنًّةَ أَهْلِ الكتابِ)) لأنَّ لهم شُبْهَةُ كِتابٍ، فأُلْحِقوا بِهم، وبِهِ قالَ الإمام أَحمدُ وأَبو ثورٍ، والثوريُّ وأبو حنيفةَ وأَصْحابُهُ.
وأَخْرجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنِ الحَسَنِ بْن ِمحمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهم، قال: كَتَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إلى مجوسِ هَجَرَ يَعْرِضُ عَلَيْهِمُ الإِسلامَ، فمَنْ أَسْلَمَ قُبِلَ مِنْهُ ومَنْ أَبى ضُرِبَتْ عَليهِمُ الجِزْيَةُ، حتى أَنْ لا تُؤْكَلَ لهمْ ذَبيحةٌ ولا يُنْكَحَ مِنْهُمُ امْرَأَةٌ.
وأَخْرَجَ أَيْضاً عَنْ بَجَالَةَ قال: لمْ يَأْخُذْ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ الجِزْيَةَ مِنَ المجوسِ حتى شَهِدَ عَبْدُ الرَحمنِ بْنُ عَوْفٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه أَنَّ رَسولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أَخَذَها مِنْ مجوسِ هَجَر.
وقالَ الشافعيُّ ـ رَضيَ اللهُ عنه: لا تُقْبَلُ الجِزية إلاَّ مِنْ أَهْلِ الكِتابِ خاصَّةً عَرَباً كانوا أَوْ عَجَماً لهذه الآية، فإنهم هُمُ الذين خُصّوا بالذِكْرِ فتَوَجَّهُ الحُكمُ إليهم دون مَنْ سِواهُم، لقولِهِ تعالى في سورة التوبة: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية:5. ولم يَقلُ: حتى يُعْطُوا الجِزْيَةَ كما قالَ في أَهْلِ الكِتابِ. فقد اتَّفَقَ العُلَماءُ على قَبُولِ الجِزْيَةِ مِنَ اليَهودِ والنَصَارى، فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالإِسْلاَمِ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَرَضَ اللهُ عَلَى المُسْلِمِينَ قِتَالَهُ، حَتَّى يُعْطِيَ الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ مَقْهُورَةٍ مَغْلُوبَةٍ عَنِ انْقِيَادٍ وَخُضُوعٍ. مُنْقَادينَ لِحُكْمِ الإِسْلاَمِ. وأيضاً فمعنى "عَنْ يَدٍ" أَنْ يُباشِرَ إعْطاءَها بِيَدِهِ، لا أَنْ يَبْعَثَ بها مَعَ أَحَدٍ، وأَلاَّ يَمْطُلَ بها، وهذ المعنى هو كَقَوْلِهم: أعطِهِ الأَمانَةَ يَداً بِيَدٍ. فقدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنْ سُفيانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في قولِهِ: "عن يَدٍ" قال: مِنْ يَدِهِ ولا يَبْعَثُ بها مَعَ غَيْرِهِ.
أَخْرجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنِ المُغيرَةَ بنِ شُعبةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. أَنَّهُ بُعِثَ إلى رُسْتم فقال لهُ رُسْتُم: إلامَ تَدْعو؟ فقالَ لَه: أَدْعوك إلى الإِسلامِ، فإنْ أَسْلَمتَ فلكَ ما لَنا وعَليك ما عَلَيْنا. قال رستم: فإنْ أَبَيْتُ؟ قال: فتُعْطي الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وأَنْتَ صاغِرٌ. فقال: لِتَرْجُمانِهِ: قلْ لَهُ أمَّا إعطاءُ الجِزْيَةِ فقد عَرَفْتُها، فما قولُكَ وأَنْتَ صاغِرٌ؟ قال شعبة: تُعطيها وأَنْتَ قائمٌ وأَنَا جالسٌ والسَوْطُ على رأْسِكَ.
وأَخْرَجَ ابنُ أبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخ، عَنْ سَعيدِ بْنِ جُبَيرٍ ـ رَضِيَ اللهً عَنْهُ، في قولِهِ تعالى: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله" يَعني الذين لا يُصَدِّقون بِتَوحيدِ اللهِ و "لا يحرِّمون ما حرَّمَ اللهُ ورَسُولُه" يَعني الخمرَ والخِنزيرَ، و "لا يَدينونَ دِينَ الحَقِّ" يَعني دِينَ الإِسلامِ، و "من الذين أوتوا الكتاب"، يَعني مِنَ اليَهودِ والنَصارى، أُوتُوا الكتابِ مِنْ قَبْلِ المُسلمينَ، أُمَّةِ محمَّدٍ ـ صلَّى الله عليه وسَلَّمَ: و "حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون" يَعني يَذِلّون)).
وأَخْرَجَ أَبو الشَيْخِ عَنْ سَلْمانَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْه أَنَّهُ قالَ لأهلِ حِصْنٍ حاصَرَهم: الإِسلامَ أَوِ الجِزْيَةَ وأَنْتمْ صاغرون، قالوا: وما الجِزْيَةُ؟ قال: نَأْخُذُ مِنْكمُ الدَراهِمَ والتُرابُ على رُؤوسِكم.
وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قال: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، عَنِ الجِزْيَةِ عَنْ يَدٍ، فقال: ((جِزْيَةُ الأَرْضِ والرَقبةِ، جِزْيَةُ الأَرْضِ والرَقَبَةِ)).
وأَخْرَجَ مالكٌ والشافعيُّ وأَبو عُبَيْدٍ في كتابِ الأموالِ، وابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ جَعفرَ عَنْ أَبيه. أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ اسْتَشارَ الناسَ في المجوسِ في الجِزْيَةِ فقالَ عبدُ الرَحمنِ ابْنُ عوفٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: سمعتُ رسولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسلم، يقول: ((سنّوا بهم سُنَّةَ أَهْلِ الكِتابِ)). وأَخرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ حُذيْفَةَ بْنِ اليَمانِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: لولا أَني رَأَيْتُ أَصْحابي أَخَذوا مِنَ المجوسِ ما أَخَذْتُ مِنْهم، وتلا: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ... " الآية.
وأَخْرَجَ عبدُ الرَزّاقِ في المُصَنَّفِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبي طالبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْه. أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَخْذِ الجِزْيَةِ مِنَ المجوسِ؟ فقالَ: والله ما عَلى الأَرْضِ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِذلك مِني، إنَّ المجوسَ كانوا أَهْلَ كِتابٍ يَعْرِفونَهُ وعِلْمٍ يَدْرُسونَهُ، فَشَرِبَ أَميرُهمُ الخَمْرَ فَسَكِرَ فَوَقَعَ على أُخْتِهِ، فرآهُ نَفَرٌ مِنَ المُسلمين فلمّا أَصْبَحَ قالتْ أُخْتُهُ: إنَّكَ قدْ صَنَعْتَ بي كَذا وكَذا، وقدْ رَآكَ نَفَرٌ لا يَسْتُرونَ عَلَيْكَ. فدَعا أَهْلَ الطَمَعِ فأَعْطاهُم، ثمَّ قالَ لهم: قدْ عَلِمْتُم أَنَّ آدَمَ ـ عليْهِ السّلامُ قَدْ أَنْكَحَ بَنِيهِ بَناتِهِ، فجاءَ أُولئكَ الذينَ رَأَوْهُ فقالوا: وَيْلٌ للأَبْعَدِ، إنَّ في ظَهْرِكَ حَدُّ اللهِ، فَقَتَلَهم أُولئكَ الذين كانوا عِنْدَهُ، ثمَّ جاءتِ امْرَأَةٌ فقالتْ لَهُ: بَلى قَدْ رَأَيْتُكَ، فقال لها: ويحاً لِبَغِيِّ بَني فُلان ... ! قالتْ: أَجَلْ، والله لقد كانَتْ بَغِيَّةً، ثمَّ تابَتْ، فَقَتَلَها، ثمَّ أَسْرى على ما في قلوبهم وعلى كُتُبهم فَلَمْ يُصْبِحْ عِنْدَهم شيءٌ.
والمجوسُ هم أَتْباعُ (زَرا دشت) صاحبِ الدينِ الذي ظَهَرَ بِفَارِسَ في القرنِ السابِعِ قَبْلَ ميلادِ المسيحِ عيسى ابْنِ مريم ـ عليه السلامُ. وهم يُؤمِنونَ بإلهيْنِ اثْنَيِنِ، إلهٍ للخيرِ واسمُه (هُرْمُز) وإلهٍ للشَرِّ واسمُهُ (أَهْرَمْز)، وبَعْضُهم يَقولُ إلَهُ النُورِ وإلَهُ الظُلْمَةِ. وقدْ عَبَدوا النَارَ وأَنْكَروا البَعْثَ، وزَعَموا أَنَّ جَزاءَ النُفوسِ يَكونُ بِطَريقَةِ التَجانُسِ للأَرواحِ بَأَنْ تَظْهَرَ الرُوحُ الصالِحَةُ في الذَواتِ الصّالِحَةِ والرُوحُ الشِرِّيرَةُ في الحَيَواناتِ الذَمِيمَةِ.
واخْتَلَفوا في قَبُولِها مِنْ عَبَدَةِ الأَوْثانِ؛ قالَ مَالِكٌ ـ رحمه الله: تُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ كافِرٍ إلاَّ المُرْتَدَّ، ولا تُؤْخَذُ مِنَ النِساءِ والصِبْيانِ والمجانين. وقالَ الأُوزاعيُّ: تُؤْخَذُ الجِزْيَةُ مِنْ كُلِّ عابِدِ وَثَنٍ أَوْ نارٍ أَوْ جاحِدٍ أَو مُكَذِّبٍ. وهو مَذْهَبُ مالِكٍ، فإنٍّهُ رأى الجِزْيَةَ تُؤخَذُ مِنْ جميعِ أَجْناسِ أهلِ الشِرْكِ والجحْدِ، عَرَبِيّاً أَوْ أعْجَميّاً، تَغْلِبِيّاً أَوْ قُرَشِيّاً، كائناً مَنْ كانَ، باسْتِثْناءِ المُرْتَدِّ.
وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ وأَبو الشَيْخِ عَنِ الحَسَنِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: قاتَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، أَهْلَ هَذِهِ الجَزيرَةِ مِنَ العَرَبِ على الإِسْلامِ لمْ يَقْبَلْ مِنْهمْ غيرَهُ، وكانَ أَفضلَ الجِهادِ، وكانَ بعدُ جهادٌ آخَرُ على هذِه الأَمَّةِ في شَأْنِ أَهْلِ الكِتابِ: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ..." الآية.
وأَخرجَ ابْن ُأبي شَيْبَةَ في مُصنَّفِهِ، والبَيهقيُّ في سُنَنِهِ، عنْ مجاهدٍ ـ رضيَ اللهُ عنه، قال: يُقاتَلَ أَهْلُ الأَوْثانِ على الإِسلامِ، ويُقاتَلُ أَهْلِ الكِتابِ على الجِزْيَةِ.
وقال عددٌ من الفُقَهاءِ: تُؤْخَذُ الجِزْيَةُ مِنْ مجوسِ العَرَبِ والأُمَمِ كُلِّها. أَمَّا عَبَدَةُ الأَوثانِ مِنَ العَرَبِ فَلَمْ يَسْتَنِّ اللهُ فِيهم جِزْيَةً، ولا يَبْقى على الأَرْضِ مِنْهم أَحَدٌ، وإنَّما لهمُ القِتالُ أَوِ الإسْلامُ. وقالَ الشافعيُّ: وإنْ صُولِحوا على أَكْثَر مِنْ دِينار جازَ، وإنْ زادوا وطابَتْ بِذلِكَ أَنْفُسُهم قُبِلَ مِنْهم. وإنْ صُولِحوا على ضِيافَةِ ثَلاثةِ أَيَّامٍ جازَ. وقال مالكٌ: إنَّها أَرْبَعَةُ دَنانيرَ على أَهْلِ الذَهَبِ، وأَرْبعونَ دِرْهماً على أَهْلِ الوَرِقِ، الغَنيُّ منهم والفقيرُ سَواءٌ ولو كان مجوسِيّاً. لا يُزادُ ولا يُنْقَصُ، على ما فَرَضَ عُمَرُ ـ رضي اللهُ عنه لا يؤخذ منهم غيره. وقالَ أَبو حنيفة وأصحابُهُ، وأَحمدُ بْنُ حَنْبَلٍ: اثْنا عَشَرَ، وأَرْبَعَةٌ وعِشرونَ، وأَرْبَعونَ. قال الثوري: جاءَ عَن ْعُمَرَ بْنِ الخَطابِ في ذلك ضَرائِبُ مُخْتَلِفَةٌ، فللوالي أَنْ يَأْخُذَ بِأَيِّها شاءَ، إذا كانوا أَهْلَ ذِمَّةٍ. وأَمَّا أَهْلُ الصُلْحِ فما صُولِحوا عَلَيْهِ لا غَيرَ. وقيلَ: يخفّفُ عن الضَعيفِ منْهُم بِقَدْرِ ضعفِه حسبَ ما يَراهُ الإمامُ.
وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ مَسْروقٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: لمّا بَعثَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، مُعاذَ بْنَ جَبَلٍ ـ رضي الله عنه، إلى اليَمَنِ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ حالمٍ دِيناراً أَوْ عَدْلَهُ مَعافِرَ.
وأَخْرجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عنِ الزُهرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: أَخَذَ رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، الجِزْيَةَ مِنْ مجوسِ أَهْلِ هَجَرَ (مدينة خَطّ هَجَرَ ساحليةٌ منْ مدن مملكة البحرين حالياً وإليها كانت تُنْسَبُ الرماحُ الخَطِيَّةُ)، ومِنْ يهودِ اليَمَنِ ونَصاراهم، مِنْ كُلِّ حالمٍ دِينارٌ.
وقد أجمعَ العلماءُ: والذي دَلَّ عليه القُرآنُ أَنَّ الجِزْيَةَ تُؤخَذُ مِنَ الرِجالِ المُقاتِلينَ، لأنَّ اللهَ تَعالى قال: "قَاتِلُوا الَّذِينَ" إلى قولِهِ: "حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ" فيَقْتَضي ذلكَ وُجوبَها على مَنْ يُقاتِلُ. ويَدُلَّ على أَنَّهُ ليسَ على العَبْدِ وإنْ كان مُقاتِلاً، لأنَّه لا مالَ لَهُ، ولقولِه تعالى: "حَتَّى يُعْطُوا". ولا يُقالُ لِمَنْ لا يَمْلِكُ: (حتى يُعطي). وهذا يعني أَنَّ الجِزْيَةَ إنَّما تُوضَع ُعلى جماجِمِ الرِجالِ الأَحْرارِ البالِغين، وهُمُ الذين يُقاتِلون دونَ النِساءِ والذُرِّيَّةِ والعَبيدِ والمَجانينَ المَغلوبين على عُقولِهم والشَيْخِ الفاني. واخْتُلِف َفي الرُهْبانِ، فرَوى ابْن ُوهْبٍ عَنْ مالكٍ أَنها لا تُؤْخَذُ مِنْهم. وهذا إذا لم يَتَرَهَّبْ بَعدَ فَرْضِها عليه، فإنْ فُرِضَتْ ثمََّ تَرَهَّبَ لم يُسْقِطْها تَرَهُّبُهُ.
فإذا أَعْطوا الجِزْيَةَ لم يُؤْخَذ ْمنهم شيءٌ مِنْ ثمارِهم، ولا تِجارَتِهم ولا زُروعِهم، إلاَّ أَنْ يَتَّجِروا في بِلادٍ غيرِ بِلادِهم التي أُقِروا فيها وصُولِحُوا عليها. فإن خرجوا تجاراً عَنْ بِلادِهمُ التي أُقِرّوا فيها إلى غيرِها أُخِذَ مِنْهُمُ عُشْرُ الرِبْحِ في كُلِّ مَرَّةٍ يَتَّجِرونَ فيها، إلاَّ في حملِهِمُ الطَعامَ، الحِنطَةَ والزيتَ إلى المدينةِ المنوَّرة ومكَّةَ المشرَّفةِ خاصَّةً، فإنَّه يُؤخَذُ مِنْهم نِصْفُ العِشْرِ على ما فَعَلَ عُمَرُ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُ. ومِنْ أَهلِ المدينةِ مَنْ لا يَرى أَنْ يُؤخَذَ مِنْ أَهْلِ الذِمَّةِ العِشْرُ في تجارتهم إلاَّ مَرَّةً في الحَولِ، مثلَ ما يُؤْخَذُ مِنَ المُسْلِمينَ. وهُو مَذْهَبُ عُمَرَ بْنِ عبدِ العزيزِ وجماعةٍ مِنْ أَئِمَّةِ الفُقَهاءِ. والأَوَّلُ قَوْلُ مالِكٍ وأَصْحابُهُ. ومَنْ لَدَّ في أَداءَ جِزْيَتِهِ أُدِّبَ على لَدَدِهِ وأُخِذَتْ مِنْهُ صاغِراً. فإذا أَدَّى أَهْلُ الجزيَةِ ما عليهم، أَوْ صالحوا عليها، خُلِّيَ بَيْنَهم وبينَ أَمْوالِهم كلِّها، وبَينَ كُرومِهِم وعَصْرِها ما سَتَروا خُمورَها، ولم يُعْلِنوا بَيْعَها مِنْ مُسْلِمٍ، ويمْنَعوا مِنْ إظهارِ الخمْرِ والخِنْزيرِ في أَسْواقِ المُسلمين، فإنْ أَظْهَروا شيئاً مِنْ ذلك أُريقَتِ الخَمْرُ عَليهم، وأُدِّبَ مَنْ أَظْهَرَ الخِنْزيرَ. وإنْ أَراقَها مُسْلِمٌ مِنْ غيرِ إظهارِها فَقَدْ تَعَدَّى، ويَجِبُ عليْهِ الضَمانُ. وقيلَ: لا يَجِبُ ولو غَصَبَها وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّها. ولا يُعْتَرَضُ لهم في أَحكامِهم ولا مُتَاجَرَتِهم فيما بَيْنَهم بالرِّبا. فإنْ تَحاكَموا إليْنا فالحاكِمُ مُخَيَّرٌ، إنْ شاءَ حَكَمَ بَيْنَهم بما أَنْزَلَ اللهُ وإنْ شاءَ أَعْرَضَ. وقيلَ: يَحْكُمُ بينَهم في المَظالِمِ على كُلِّ حالٍ، ويَأْخُذُ مِنْ قَوِيِّهم لِضَعيفِهم، لأنَّهُ مِنْ بابِ الدَفْعِ عَنْهم، وعلى الإمامِ أَنْ يُقاتِلَ عَنْهم عَدُوَّهم، ويَسْتَعينُ بِهم في قِتالِهم. ولا حَظَ لهمْ في الفَيْءِ، وما صُولِحوا عليْهِ مِنَ الكَنائِسِ لم يَزيدوا عَلَيْها، ولم يُمْنَعوا مِنْ إِصْلاحِ ما وَهَى مِنْها، ولا سَبيلَ لهم إلى إحداثِ غيرِها. ويَأْخُذونَ مِنَ اللِّباسِ والهيئةِ بِما يُمَيَّزونَ بِهِ مِنَ المُسلِمين، ويُمْنَعونَ مِنَ التَشَبُّهِ بِأَهْلِ الإسْلامِ، كأن يرتدوا زيَّهم. ولا بأسَ باشْتِراءِ أَوْلادِ العَدُوِّ مِنْهم إذا لمْ تَكُنْ لقومِ هؤلاء الأولادِ ذِمَّةٌ عند المسلمين.
واخْتَلَفَ العُلَماءُ فيما وَجَبَتِ الجِزْيَةُ عَنْهُ، فقالَ عُلَماءُ المالِكِيَّةِ: وَجَبَتْ بَدَلاً عَنِ القَتْلِ بِسَبَبِ الكُفْرِ. فإذا أسلم سقطت عنه الجزية لما مضى، ولو أسلم قبل تمام الحول بيوم أو بعده عند مالك، وهو قول بعضِ الحنفيةِ. وقالَ الشافعيَّةُ: وَجَبَتْ بَدَلاً عَنِ الدَمِ وسُكْنى الدارِ. فهي دَيْنٌ مُسْتَقِرٌّ في الذِمَّة فلا يُسْقِطُهُ الإسْلامُ كَأُجْرَةِ الدارِ. وقالَ بعضُ الحَنَفِيَّةِ: إنَّما وَجَبَتْ بَدَلاً عَنِ النَصْرِ والجِهادِ. والقوْلُ الأوّلُ أَصَحّ، لقولِهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْه وسَلَّمَ: ((ليسَ على مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ)). فإذا أَسْلَمَ الذُمِّيُّ بَعدَ ما وَجَبَتْ الجِزْيَةُ عَلَيْهِ سقطتْ عَنْهُ. يَدُلُّ على ذلك قولُهُ تَعالى: "حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ" لأنَّ الإسْلامَ يَنفي هذا المعنى. ولا خِلافَ أَنَّهم إذا أسلَموا فلا يُؤدّونَ الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وهُمْ صاغِرونَ. والشافعيُّ لا يَأْخُذُ بَعْدَ الإسْلامِ على الوَجْهِ الذي قالَهُ اللهُ تَعالى. وإنَّما يَقولُ: إنَّ الجِزْيَةَ دَيْنٌ وَجَبَ عليه بِسَبَبٍ سابِقٍ وهُوَ السُكْنى أَوْ تَوَقّي شَرِّ القَتْلِ، فصارَتْ كالدُيونِ كُلِّها.
فلو عاهَدَ الإمامُ أَهْلَ بَلَدٍ أَوْ حِصْنٍ ثمَّ نَقَضوا عهدَهم وامْتَنَعوا مِنْ أَداءِ ما يَلْزَمُهم مِنَ الجِزْيَةِ وغيرِها، وامْتَنَعوا مِنْ حُكْمِ الإسْلامِ مِنْ غيرِ أَنْ يَظْلِموا، وكانَ الإمامُ غيرَ جائرٍ عَلَيْهم، وَجَبَ على المُسْلِمينَ غَزْوُهم وقِتالُهم مَعَ إمامِهِمْ. فإنْ قاتَلوا وغُلِبوا حُكِمَ فيهم بالحُكمِ في دارَ الحرْبِ سَواءً. وكانوا هُمْ ونِساؤهم فيْئاً ولا خمْسَ فيهم.
وأَخرجَ أَبو الشَيْخِ، وابْنُ مردويْهِ عنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قال: مِنْ نِساءِ أَهْلِ الكِتابِ مَنْ يَحِلُّ لَنا، ومِنْهم مَنْ لا يَحِلُّ لَنا، وتلا: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر" فمَن أَعْطى الجِزْيَةَ حَلَّ لَنا نِساؤُهُ، ومَنْ لمْ يُعِطِ الجِزْيَةَ لمْ يَحِلَّ لَنا نِساؤهُ، ولَفْظُ ابْنِ مَردويْهِ: لا يحلُّ نِكاحُ أَهْلِ الكِتابِ إذا كانوا حَرْباً، ثمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ.
وأَخْرَجَ عبدُ الرَزَّاقِ في المُصنَّفِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّ رَجُلاً قالَ لَهُ: آخُذُ الأَرْضَ فَأَتَقَبَّلُها أَرْضاً خَرِبَةً فأَعْمُرُها وأُؤَدِّي خَراجَها؟ فنَهاهُ، ثمَّ قال: لا تَعْمَدوا إلى ما وَلاَّهُ اللهُ هذا الكافِرَ فَتَخْلَعهُ مِنْ عُنُقِهِ وتَجْعَله في عُنُقك، ثمَّ تَلا قولَه تعالى: "قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ولا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ" إلى قولِه: "حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ".
وهذِهِ الآيةُ ناسِخَةٌ لِقَوْلِهِ تَعالى في الآيَةِ الخامِسَةِ مِنْ هذِه السُورَةِ: {فاقْتُلوا المُشْرِكين} لِما فيها مِنْ أَخْذِ الجِزْيةِ، فإنَّه نَسخٌ للقتلِ، وذَلِكَ عِنْدَ مَنِ اعْتَبرَ أَهْلَ الكِتابِ مُشْرِكينَ، ونَفى عَنْهُمُ الإيمانَ باللهِ واليومِ الآخِرِ، مِنْ حَيْثُ تَرَكوا شَرْعَ الإسْلامِ الذي أَوْجَبَ اللهُ عليهِمُ الدُخُولَ فِيه، فأَصْبَحَتْ كُلُّ مُعْتَقداتِهم في ذاتِ الله تَعالى، وفي البَعْثِ بعد الموتِ والحِسابِ والجزاءِ، والجنّةِ والنارِ، وغير ذلك مِنْ تَخَيُّلاتٍ واعْتِقاداتٍ لا مَعنى لها، إذْ أَخَذوها مِنْ غيرِ طَريقِها الصَحيحِ الثابِتِ عَنِ اللهِ ـ تَبارَكَ وتَعالى، فلم تَكنْ اعْتِقاداتُهم تلكَ مُستَقيمةً، لأنَّهم تَشَعَّبوا فيها، فهُوَ سبحانَه، في معتقدِهم، تارةً لَهُ ابْنٌ اسْمُهُ "عُزَيْر" وتارةً اسمُهُ "عيسى المسيح"، وهوَ ثالثُ ثلاثةٍ تارةً أُخرى، وهذا كُلُّه مِنْ أَشْنَعِ الكُفْرِ والشِرْكِ، فما الذي يُمَيِّزُ مُعْتَقداتِهم هذِه منْ مُعتَقَداتِ كَفَرَةِ قُرَيْشٍ الذين اتَّخذوا مِنَ الحِجارَةِ والخشبِ وغيرِها تَماثيلَ يَتَقَرَّبونَ إلى اللهِ بعبادتها؟! ولهم أَيْضاً في البعثِ آراء باطلةٌ، أَدْخلَها أَحبارُهم ورُهبانُهم في عُقولِهم، فباعوهم مَنازِلَ في الجَنَّةِ، وبَراءاتٍ مِنَ النارِ، بمبالغَ يَدْفعونَها إلى أُولئكَ الرُهبانِ، افتراءً على اللهِ، وسلباً لأموالِ خلقه ممن اتبعهم وصدَّق إفكَهم، وقد ادَّعى اليَهودُ بأنَّهم إنّما يَكونونَ في النَّارِ أَيَّاماً قليلةً وحسْبُ. ونحو ذلك مِنَ العَقائدِ الفاسدَةِ التي ما أَنْزَلَ اللهُ بها مِنْ سُلْطانٍ.
قولُه تعالى: {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} دينَ: مَنْصوبٌ عَلى نَزْعِ خافِضِهِ، وهو الباءُ، أَيْ: بِدينِ الحقِّ.
قولُه: {مِنَ الذين أُوتُواْ} مِنْ: بَيانِيَّةٌ، فهي تُبَيِّن المَوْصولَ الذي قَبْلَها. مِنْ قولِهِ تَعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}.
قولُه: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} عَنْ يَدٍ: هذا الجارُّ مُتَعَلِّقٌ بحالٍ مِنَ الواوِ في "يُعطوا"، أَيْ: حتى يُعْطَوها مقهورِين أَذِلاَّء. وكذلك جملةُ: "وهم صاغرون" من المبتدأ والخبر، هي أيضاً في محلِّ نصبٍ حالٍ من واو "يعطوا".
و "الجِزْيَة" على وزنِ "فِعْلَة" لِبَيانِ الهَيْئَةِ ك "الرِّكْبَةِ"، لأنَّها مِنَ الجَزاءِ على ما أُعْطُوهُ مِنَ الأَمِنِ.