لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ أَن يُجَهِدُواْ بِأَمْوَلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ
(44)
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ: {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ أَن يُجَهِدُواْ بِأَمْوَلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} أَيْ لَيْسَ مِنْ شأنِ المؤمنِ أِنْ يَسْتَأْذِنَك في أَنْ يُجاهِدَ بمالِهِ ونَفْسِهِ، وإنَّ الخُلَّصَ مِنَ المؤمنينَ يُبادرونَ إلى الجهادِ في سبيلِ اللهِ بأنفسهم وأموالهم مِنْ غيرِ تَوَقُّفٍ على الإذْنِ فَضْلاً عَنْ أَنْ يَسْتَأْذنوكَ في التَخَلُّفِ، فقد أَخْرَجَ مُسْلِمٌ في صحيحه عَنْ أَبي هُريرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالى عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، قالَ: ((مِنْ خَيرِ مَعَاشِ النَّاسِ رَجُلٌ ممْسِكٌ بِعِنانِ فَرَسِهِ في سَبيلِ اللهِ، يَطيرُ عَلى مَتْنِهِ، كُلَّما سمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزَعاً طارَ على مَتْنِهِ يَبْتَغي القَتْلَ أَوِ المَوْتَ مَظانَّهُ)). ونَفْيُ العادَةِ مُسْتَفادٌ مِنْ نَفْيِ الفِعْلِ الدالِّ على الاسْتِمْرارِ، فيكونُ المعنى عادتُهم عدمُ الاسْتِئْذان، ومنْهُ قولُ قُرَيطِ بْنِ أُنَيْفٍ أَحَدِ بَني العَنْبَر:
لاَ يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ ......... في النَّائِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ بُرْهَانَا
قيل: وهذا الأَدَبُ يجِبُ أَنْ يَقْتَفِيَ مُطْلَقاً فلا يَليقُ بالمرْءِ أَنْ يَسْتَأْذِنَ أَخاهُ في أَنْ يُسْدِي إليْهِ مَعْروفاً ولا بالمُضيفِ أَنْ يَسْتَأْذِنَ ضَيْفَهُ في أَنْ يُقَدِّمَ إليْهِ طَعاماً فإنَّ الاسْتِئْذانَ في مِثْلِ هَذِهِ المَواطِنِ أَمارَةُ التَكَلُّفِ والتَكَرُّهِ، ولقد بَلَغَ مِنْ كَرَمِ الخليلِ ـ صَلَواتُ اللهِ عليه وسلامُهُ، وأَدَبِهِ مَعَ ضُيُوفِهِ أَنَّهُ لا يَتَعاطَى شَيْئاً مِنَ أَسْبابِ التَهَيُّئِ للضِيافَةِ بِمَرْأَى مِنْهمْ، فلِذلكَ مَدَحَهُ اللهُ تَعالى بقولِهِ في سُورَةِ الذاريات: {فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ} الآية: 26. أَيْ ذَهَبَ على خَفاءٍ مِنْهم كَيْ لا يَشْعُروا بِهِ.
فالآيةُ إِعْلامٌ مِنَ اللهِ نَبِيَّهٌ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صيفةَ المنافقين: بأَنَّ مِنْ علاماتِهمُ التي يُعْرَفونَ بها تخلُّفُهُم عَنِ الجِهادِ في سَبيلِ اللهِ، بالاسْتِئْذانِ في تَرْكِهِمُ الخُروجَ بالمعاذيرِ الكاذِبَةَ إذا اسْتَنْفَرَهم. وحَيْثُ أَنَّ هَؤلاءِ اسْتأَذَنَوه في التَخَلُّفِ فإنَّ ذَلِكَ مُوجِبٌ للتَأَنّي في أَمْرِهم، بَلْ هُوَ دَليلٌ على نِفاقِهم، وفيهِ تَنْبيهٌ عَلى أنَّهُ كانَ يَنْبَغي أَنْ يَسْتَدِلَّ بِاسْتِئْذانهم على حالِهمْ فلا يأْذَنَ لهم.
وقيل: معنى قولِهِ تعالى: "أَنْ يُجاهِدوا" أَيْ: كَراهَةَ أَنْ يُجاهَِدوا، فالمُسْتَأْذَنُ فيهِ محذوفٌ، وقيلَ: المَعنى لا يستأذنك المؤمنون في التخلف كراهةَ الجهاد، والمحذوفُ هُوَ التَخَلُّفُ، فيَتَوَجَّهُ النَفْيُ إلى القَيْدِ، وبِهِ يَمْتازُ المُؤْمِنُ مِنَ المُنافِقِ، وهوَ وإنْ كانَ في نَفْسِهِ أَمْراً خَفِيّاً لا يُطَّلَعُ عليهِ بادئَ الأمْرِ لكنَّ عامَّةَ أَحْوالِهم مُنْبِئَةٌ عَنْ ذَلك ولذلك فقد جُعِلَ في حُكْمِ الظاهرِ المُقَرَّرِ. وقيل: المحذوفُ هو الجِهادُ، أَيْ: لا يَسْتَأْذِنُكَ المؤمنونَ في الجهادِ كَرَاهةَ أَنْ يُجاهِدوا، وذلك بِناءً على أَنَّ الاسْتِئْذانَ في الجِهادِ قد يَكونُ لكَراهَتِه. وهو بعيدٌ إذ لا يَخْفى أَنَّ الاسْتِئْذانَ في الشَيْءِ لِكَرَاهَتِهِ مما لا يُعْقَلُ حصولُه، فالذي نُفِيَ عَنِ المؤمنين، يَجِبُ أَنْ يُثْبَتَ للمُنافقين وظاهرٌ أنَّهم إنَّما اسْتَأْذَنوا في التَخَلُّفِ، ولم يَسْتَأْذِنوا في الجهادِ لكراهَتِهم لَهُ. فقد أخرج ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما، قَوْلُهُ: "لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ": فَهَذَا تَعْبِيرٌ لِلْمُنَافِقِينَ حَيْثُ اسْتَأْذَنُوا فِي الْقُعُودِ عَنِ الْجِهَادِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَعَذَرَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: {لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوكَ}.
قولُهُ: {وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} هذه شهادةٌ للمؤمنينَ أصحابِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم، مِنَ اللهِ تَعالى بالانْتِظامِ في سِلْكِ المتقين، وإشعارٌ بأنَّ ما صَدَرَ عَنْهم مُعَلَّلٌ بالتَقْوَى، ووَعْدٌ لهم بِجزيلِ الثَوابِ، وتقريرٌ لمضمونِ ما سَبَقَ، فكأنَّه قيل: واللهُ عَليمٌ بأنَّهم كذلكَ.
أخرج ابنُ أبي حاتمٍ عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: "لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ" الآيَتَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ تعالى: {يَتَرَدَّدُونَ} نُسِخَتا بقولِه فِي سُورَةِ النُّورِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ} إِلَى قولِه: {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَعْلَى النَّظَرَيْنِ مَنْ غَزَا فِي فَضِيلَةٍ مَنْ قَعَدَ، قعدَ فِي غَيْرِ حَرَجٍ. وأخْرِجَه ابْنُ جَريرٍ، وابْنُ المَنْذِرِ، والنَحَّاسُ، وأخرجه كذلك أبو عُبَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وابْنُ مَردوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ، في سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما.
قولُهُ تعالى: {أَنْ يُجَاهِدُواْ} الأَظْهَرُ فيهِ أَنَّ المصدَرُ المُؤَوَّلَ مِنْ "أَنْ يُجاهدوا" مَنْصوبٌ بنَزْعِ الخافِضِ وهو مُتَعَلَّقُ الاسْتِئْذانِ، أَيْ: لا يَسْتَأذِنُكَ الذين يؤمِنوا باللهِ واليومِ الآخِرِ في الجِهادِ، بَلْ يَمْضونَ فيهِ غيرَ مُتَرَدِّدين. أوْ هوَ مَفْعولٌ مِنْ أَجْلِهِ والتَقْديرُ: لا يَسْتَأْذِنُكَ المؤمنونَ في عَدَمِ الخُروجِ، وفي القُعودِ كَراهَةَ أَنْ يُجاهدوا، بَلْ إذا أَمَرْتَهم بِشَيْءٍ من ذلك بادروا إليه. وعليهِ فمُتَعَلَّقُ الاسْتِئْذانِ محذوفٌ.
وقولُهُ: {والله عليم بالمتَّقين} اللهُ عليمٌ: مبتدأٌ وخبرُهُ، والجارُّ في "بالمُتَّقينَ" مُتَعَلِّقٌ ب "عليم" والجملةُ مُسْتَأْنَفَةٌ.