التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ
(112)
قولُه ـ سبحانَهُ وتعالى: {التَّائِبُونَ ...} في هذِهِ الآيةِ تِسْعَةُ أَوْصافٍ للمُؤمنين، السِتَّةُ الأُولى منها، تَتَعَلَّق بمعاملة الخالق، والوصفان السابع والثامن يتعلقان بمعاملة المخلوق، والوصف التاسع يَعُمُّ الفريقين. فقد ذكر اللهُ تَعَالَى صِفَاتِ المُؤْمِنِينَ الذِينَ اشْتَرَى مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِالجَنَّةِ، فجاءَتْ صفةُ "التَّائِبُونَ" أَيْ: مِنْ الذُّنُوبِ كُلِّها، التَّارِكُونَ لِلْفَوَاحِشِ، في مقدمة هذه الصفات.
والتوبةُ: لَفْظٌ يَعُمُّ الرُجوعَ مِنَ الشَرِّ إلى الخَيرِ، سواءً كان ذَلك رجوعاً مِنَ كُفْرٍ أَوْ عن خطأٍ ومعصيةٍ، والرُجوعُ مِنْ حَالَةٍ إلى أخرى أَحْسَنَ منها، وإنْ لم تَكُنِ الأُولى شَرّاً بَلْ خَيراً. وهكَذا تَوْبَةُ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، واسْتِغْفارُهُ سَبْعينَ مَرَةً في اليومِ كما جاء في فيما أخرج البخاريُّ وغيرُهُ من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه، أنَّ رسول الله ـ صلى اللهُ عليه وسلمَ، قال: ((والله إِني لأستغفرُ الله وأَتوبُ إليه في اليومِ سَبعينَ مَرة)). وفي رواية : ((أَكْثرَ مِنْ سَبْعين مرةٍ)) جامع الأصول في أحاديث الرسول (4/ 387).
والتائبُ هُوَ المُقْلِعُ عَنِ الذَنْبِ، النادِمُ على ما سَلَفَ مِنْهُ، العازمُ على الثَباتِ على تَوْبَتِهِ، ويُسَمَّى تائباً وإنِ اقْتَرَفَ ذنباً آخرَ غيرَهُ. والتوبةُ ونَقْضُها وإنْ تكرَّرَ ذلكَ مِنْهُ خَيرٌ مِنَ الإقامَةِ عَلى الذَنْبِ والإصْرارِ عَلَيْهِ.
وقد يكونُ "التَّائِبُونَ" غيرَ مُقْتَرَفينَ ذَنْباً يَقْتَضي التَوْبَةَ كما هُمْ في قولِهِ تَعالى في الآية: 117. من هذه السورةِ: {لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ}. وقدْ يكونونَ مقْتَرِفِين لَهُ كما هم في قولِهِ تعالى: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ} بعد قولِهِ: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ} سورةُ التَوْبَةِ، الآيَة :74. المُتَقَدِّمَةِ آنِفاً. وأَوَّلُ التَوْبَةِ الإيمانُ لأنَّهُ إِقلاعٌ عَنِ الشِرْكِ، ثمَّ يَدْخُلُ في هَذا المسَمَّى. مَنْ كانَ لَهُ ذَنْبٌ مِنْهم مَعَ الإيمانِ، فتابَ مِنْهُ.
قولُهُ: {الْعَابِدُونَ} هُمُ القَائِمُونَ بِعِبَادَةِ رَبِّهِمْ، المُحَافِظُونَ عَلَيهَا، وهو لَفْظٌ يَعُمُّ القيامَ بِعِبادَةِ اللهِ تَعالى، والتِزامَ شَرْعِهِ، ومُلازَمَةَ ذلك والمثابرةَ عَلَيِهِ، والاستمرارَ والدَوامَ على ذلك. والعابِدُ هُوَ المُحْسِنُ كما فَسَّرَ رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، في حديثِ: ((هذا جبريلُ آتاكم يعلمكم دينكم)) حين سألهُ جبريلُ عن الإحسانِ فقال: ((أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كأنَّكَ تَراهُ)) وقد تقدَّمَ الحديثُ غيرَ مَرَّةٍ. ويطلقُ هذا الاسمُ على المُسلِمِ بأَدْنى عِبادَةٍ يُؤدِّيها، فيكونُ في أدنى رُتَبِ هذا المقام، وعلى قَدْرِ زِيادَتِهِ في العبادَةِ يزدادُ في هذا الوَصْفِ كمالاً. و "العابدون" همُ المُتَوَجِّهونَ إلى اللهِ وَحْدَهُ بالعِبادَةِ وبالعُبودِيَّةِ, إقراراً منه له سبحانَه بالربوبية. وهذه صفةٌ ثابتةٌ في نُفوسِهِمْ تُتُرْجمها الشَعائرُ, كما يُتَرْجمها التَوَجُّهُ إلى اللهِ وحدَهُ بِكُلِّ عَمَلٍ، وبِكُلِّ قَوْلٍ. فهي إقْرارٌ بِالأُلوهِيَّةِ لله تعالى والربوبيَّةِ له سبحانَه، بصُورَةٍ عمليةٍ واقِعِيَّةٍ.
قولُهُ: {الْحَامِدُونَ} هُمْ أَهْلُ حمْدِهِ سُبحانهُ، لأنَّهُ أَهلٌ لِذلِكَ، فإنَّ الحمدَ هو الثناءُ على اللهِ بما هو أهلٌ لَهُ، مِنْ عِباراتِ التَعْظيمِ، والتَقْديسِ، والإجْلالِ، وقدْ تَقَدَّمَ مَعْنى هَذِهِ الكَلِمَةِ ومقاماتِ هذه المنزلةِ مُفَصَّلاً في سُورَةِ الفاتحَةِ. ف "الحامدون" للهِ عَلَى نِعَمِهِ وَأَفْضَالِهِ، الذاكِرونَ لَهُ بِأَسمائهِ الحُسْنى وأَوْصافِهِ المُثْلى، و "الحامدون" لَهُ سبحانَه على كُلِّ حالٍ مِنْ سَرَّاءَ أوْ ضَرَّاءَ، وبِهذا فالحمدُ أَعَمُّ مِنَ الشُكْرِ، إذِ الشُكْرُ إنَّما يَكونُ عَلى النِعَمِ خاصَّةً.
و :الحامِدون" هُمْ أَهْلُ كَرامَةِ اللهِ تَعالى في الدُنيا، وهُمُ أهلُ الرُتَبُ والمقاماتُ العُلى في الآخِرَةِ. فقد أخرجَ أَبو الشَيْخِ، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ، في شُعَبِ الإِيمانِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إلى الجَنَّةِ الحَمّادونَ، الذينَ يَحْمَدونَ اللهَ عَلى السَّرَّاءِ والضَرَّاءُ)). وأَخْرَجَ ابْنُ المُبارَكِ، عَنْ سَعيدِ بْنِ جُبَيرٍ ـ رضي اللهُ عنهما، مثل ذلك. وأَخْرَجَ البَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ عَنْ أمِّ المؤمنينَ السيدةِ عائشَةَ ـ رضي اللهُ عنها، قالتْ: (كانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، إذا أَتاهُ الأَمْرُ يَسُرُّهُ قالَ: الحَمْدُ للهِ الذي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصالحاتُ، وإذا أَتاهُ الأَمْرُ يَكْرَهُهُ قالَ: الحَمْدُ للهِ عَلى كُلِّ حالٍ).
قولُهُ: {السَّائِحُونَ} هم الذين يَسيرونَ فِي الأَرْضِ، لِلاعْتِبَارَِ وَالاسْتِبْصَارِ بِمَا خَلَقَ اللهُ فيها مِنَ العِبَرِ وَالآيَاتِ. وَقِيلَ أَيْضاً إِنَّ مَعْنَى "السَّائِحونَ" هُنَا: الصَّائِمُونَ وَالمُصَلُّونَ. والسِيَاحَةُ: مِنَ السَيْحِ، وهُو الماءُ الجاري على الأَرْضِ إلى غَيرِ غَايَةٍ. وقالَ بَعْضُهم: "السائحون" هُمُ الجائلون بِأَفْكارِهم في قُدْرَةِ اللهِ ومَلَكُوتِهِ، وهذا حسنٌ من القول، أثنى سبحانَهُ على أهلِ هذه المنزلةِ في مُحْكَمِ كِتابِهِ العَزيزِ فقالَ في سُورَةِ آلِ عُمْرانَ: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} الآية: 191. وهي مِنْ أَفْضَلِ العِباداتِ، فقدْ قال مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ للأسودِ بْن هلالٍ الْمُحَارِبِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: اجْلِسْ بِنا نُؤْمِنْ ساعَةً، قالهُ البخاريُّ في صحيحه: (1/10). وتهذيب سُنَنِ أَبي داوودَ وإيضاح مشكلاتِه: (2/340). وفي روايةٍ (اقعد). وأخرجه ابْنُ أَبي شَيْبَةَ في مصنّفه (11/ 25) عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ هِلالٍ الْمُحَارِبِيِّ، قَالَ: (قَالَ لِي مُعَاذٌ: اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنُ سَاعَةً، يَعْنِي نَذْكُرُ اللهَ). والأَسْوَدُ بنُ هِلاَلٍ هو: أَبُو سَلاَّمٍ المُحَارِبِيُّ الكُوْفِيُّ، مِنْ كِبارِ التَّابِعِيْنَ.
وأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِر عَنْ أَبي الدَرْداءِ، قالَ: كانَ عَبْدُ اللهِ ابْنُ رواحَةَ ـ رضي اللهُ عنهما، يَأْخُذُ بِيَدي فيَقولُ: تَعَالَ نُؤْمِنْ ساعَةً، إنَّ القَلْبَ أَسْرَعُ تَقَلُّباً مِنَ القِدْرِ إذا اسْتَجْمَعَتْ غَلَيانُهُ) ابْنُ عَساكِرَ: (28/111)، وفي كَنْزِ العُمَّالِ بِرَقَمٍ: 1700، وجامِعِ الأَحاديثِ: (35/420). وشُعُبِ الإيمانِ للبَيْهَقِيِّ: (1/ 75). وفي روايةٍ لابْنِ أبي شيبةَ عنِ ابْنِ سَابِطٍ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رواحَةَ ـ رضي اللهُ عنه، يَأْخُذُ بِيَدِ النَّفَرِ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيَقُولُ: (تَعَالَوْا نُؤْمِنُ سَاعَةً تَعَالَوْا فَلْنَذْكُرَ اللهَ وَنَزْدَدْ إيمَانًا، تَعَالَوْا نَذْكُرُهُ بِطَاعَتِهِ لَعَلَّهُ يَذْكُرُنَا بِمَغْفِرَتِهِ). مصنَّفُ ابْنُ أَبي شَيْبَة: (11/ 43). كما جاءَ عَنْ أَميرِ المُؤمِنينَ عُمَرَ بْنِ الخطّابِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ لِبَعْضِ أَصْحابِهِ: (اجْلِسْ بِنا نُؤْمِنْ ساعَةً)، شَرْحُ الأَرْبَعينَ النَوَوِيَّةِ: (61/3).
يُرْوى أَنَّ بَعْضَ العُبَّادِ أَخَذَ القَدَحَ لِيَتَوَضَّأَ لِصَلاةِ اللَّيْلِ، فأَدْخَلَ أُصْبَعَهُ في أُذُنِ القَدَحِ، وجَعَلَ يُفَكِّرُ حَتى طَلَعَ الفَجْرُ، فَقيلَ لَهُ في ذَلِكَ فقالَ: أَدْخَلْتُ أُصْبعي في أُذُنِ القَدَحِ، فَتَذَكَّرْتُ قولَ اللهِ تَعالى: {إذِ الأَغْلالُ في أَعْناقِهمْ والسَّلاسِلُ} سورة غافر، الآية: 71. وفَكَّرْتُ كَيْفَ أَتَوقَّى الغِلَّ، وبَقيتُ في ذَلِكَ لَيْلي أَجمَعَ.
وقد فَسَّرَ بعضُهُمُ السِياحَةَ بالصِيامِ لأَحاديثَ مِنْها: أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ الطَبَرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: سُئِلَ النَبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، عَنِ السائحينَ، قال: ((هُمُ الصّائمونَ)). وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قالَ: (كُلُّ ما ذَكَرَ اللهُ في القُرآنِ السِياحَةَ هُمُ الصائمون). وأَخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ سُفْيانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، قالَ: إنَّما سمِّيَ الصائِمُ السائحَ لأنَّه تارِكٌ للذَّاتِ الدُنْيا كُلِّها مِنَ المَطْعَمِ والمَشْرَبِ والمَنْكَحِ، فهُو تارِكٌ للدُنْيا بمَنْزِلَةِ السائحِ. وأَخْرَجَ ابْنُ أبي حاتمٍ، عَنْ أَبي فاخِتَةَ مَولى جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ. أَنَّ عُثْمانَ بْنَ مَظْعونٍ أَرادَ أَنْ يَنْظُرَ أَيَسْتَطيعُ السِياحَةَ؟ قال: كانوا يَعُدّونَ السِياحَةَ قيامَ اللّيْلِ وصَيامَ النَهارِ.
وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ، والطَبرانيُّ، والحاكِمُ وصحَّحهُ، والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإِيمانِ، عَنْ أَبي أُمامَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلاً اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، في السِياحَةِ فقال: ((إنَّ سِياحَةَ أُمَّتي الجِهادُ في سَبيلِ اللهِ)).
وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ في قَوْلِهِ: "السائحون" قال: (هُمُ المُهاجرون، لَيْسَ في أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سِياحَةٌ إلاَّ الهِجْرَةَ، وكانَتْ سِياحَتُهُم الهِجْرَةَ حين هاجروا إلى المدينةِ، لَيسَ في أُمَّةِ محمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، تَرَهُّبٌ. وأَخْرَجَ ابْنُ أبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ، عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنه، في قولِهِ: "السائحون" قال: طَلَبَةُ العِلْمِ.
والأَقْرَبُ إلى الصَوابِ أَنَّ المُرادَ ب "السائحون" هُنا: السائرونَ في الأَرْضِ لِمَقْصِدٍ شَريفٍ، وغَرَضٍ كَريمٍ. كَتَحْصيلِ العِلْمِ، والجِهادِ في سبيلِ اللهِ، والتَدَبُّرِ في مَلَكوتِهِ سُبْحانَه، والتَفَكُّرُ في سُنَّتِهِ في كونِهِ، والاعْتِبارِ بما اشْتَمَلَ عَليه هذا الكونُ الفسيحُ مِنْ عَجائبَ. والآياتِ القُرآنِيَّةِ التي تحَضَّ على السَيرِ في الأَرْضِ، للتَفَكُّرِ في خَلْقِ اللهِ كثيرةٌ، مِنْها قولُهُ تَعالى في سورةِ الأَنْعامِ: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض ثُمَّ انظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} الآية: 11. وقولُهُ في سُورةِ الحجِّ: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصارُ ولكن تَعْمَى القُلوبُ التي فِي الصُدورِ} الآية: 46. وللسِيَاحَةِ أَثَرٌ عَظيمٌ في تَكْميلِ النَفْسِ لأنَّ الإِنسانَ يَلْقى الأَكابِرَ مِنَ الناسِ الذين يُفْتَخَرُ بمقابَلَتِهم، وقد يَصِلُ إلى مُراداتٍ كَثيرةٍ يَنْتَفعُ بها. ولَعَلَّ ما يُؤيِّدُ ذلك أَنَّ معنى "السائحون": السائرونَ، لأنَّهُ مَأخوذٌ مِنَ السَّيْحِ، وهوَ الجَرْيُ على وَجْهِ الأَرْضِ، والذَهابُ فيها. يقالُ: ساحَ الماءُ يَسيحُ سَيْحاً، وسَيْحاناً، بِوَزْنِ (فَعلان) مِنَ السَّيْحِ، والجمع السُّيوح، وثوبٌ مُسَيَّحٌ: مخطَّط. وهَذِهِ المادَّةُ تُشْعِرُ بالانْتِشارِ، يُقالُ: ساحَ الماءُ، إذا جَرَى وانْتَشَرَ، فمِنَ الأَوْلى حمْلُ اللَّفْظِ على ظاهِرِهِ، ما دامَ لمْ يَمْنَعْ مانِعٌ مِنْ ذَلِكَ، خاصَّةً وأَنَّ الرِواياتِ المُتَقَدِّمَةَ تَعَدَّدَتْ حَتى شملَتْ كُلَّ هَذِهِ المَعاني، فقد تَنَاوَلَ كُلٌّ مِنْها مَعْنىً مِنْ هذْهِ المَعاني.
قولُهُ: {الرَّاكِعُونَ الساجدون} عَبَّرَ عَنْ كَثْرَةِ صَلاتهم وخُشوعِهم فيها، للإشارةِ إلى أَنَّ الصَلاةَ كأَنَّها صِفَةٌ ثابِتَةٌ مِنْ صِفاتِهم، وكأَنَّ الرُكوعَ والسُجُودَ طابعٌ مُمَيِّزٌ لهم بَيْنَ النَّاسِ. أخرجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِ اللهِ: "الرَّاكِعُونَ" يَعْنِي فِي الصَّلَوَاتِ. وأخرجَ عنِ الْحَسَنِ: "السَّاجِدُونَ" فِي الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ". وأَخْرَجَ عَنْ قَتَادَةَ، "السَّاجِدُونَ" قَالَ: "ذُكِرَ لَنَا أَنَّ أَقْرَبَ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ إِلَى رَبِّهِ فِي سُجُودِهِ".
قولُهُ: {الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} وَهُمْ مَعْ ذَلِكَ كُلِّهِ يَسْعَوْنَ فِي نَفْعِ خَلْقِ اللهِ، وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى طَاعَتِهِ سبحانَهُ، للفوزِ بِرِضاهُ وثوابِه، بِأَمْرِهِمْ بِالمَعْرُوفِ، وَنَهِيهِمْ عَنِ المُنْكَرِ تجنُّباً لغضبه وشديدِ عقابه. وإنَّما عَطَفَ النَهْيَ عَنِ المُنْكَرِ عَلى الأَمْرِ بالمَعروفِ إِيذاناً بأنَّهُما فريضَةٌ واحدَةٌ لِتَلازُمِهِما في الغالِبِ، أَوْ لما بَيْنَهُما مِنْ تَبايُنٍ إذِ الأَمْرُ بالمَعروفِ طَلَبُ فِعْلٍ، والنَهْيُ عَنِ المُنْكَرِ طَلَبُ تَرْكٍ أَوْ كَفٍّ. وهو حَيْثِيَّةٌ تَخُصُّ هذه الأُمَّةَ المحمَّدِيَّةَ وبه كانتْ خيرَ أُمَّةٍ أُخْرجَتْ للنَّاسِ، كما قالَ سبحانَهُ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر ...} سورةُ آلِ عُمْرانَ، الآيةُ: 110. فإذا أَمَرْتَ بالمَعْروفِ ونَهَيْتَ عَنِ المُنْكَرِ، فلا بُدَّ أَنْ تَكونَ بِمَنْأَى عَنْ هَذا المُنْكَرِ. وهذا أَمْرٌ فَرَضَهُ اللهُ على الأُمَّةِ جملةً ثمَّ يَفْتَرِقُ الناسُ فيهِ مَعَ التَعْيينِ، فأَمَّا وُلاةِ الأَمْرِ والرُؤساءُ، فهُوَ فَرْضُ عينٍ عَلَيْهم في كُلِّ حالٍ، لأنَّهم مُوكَلونَ بمَصالحِ الناسِ، مَعْنيُّونَ بالحِفاظِ على حُقوقِهم، وكَراماتهم ودِمائهم. والأَمرُ بالمعروفِ والنهيُ عَنِ المُنْكَرِ هُوَ السَبيلُ لِتَحقيقِ ذلك. وأَمَّا سائرُ الناسِ فهُو فَرْضٌ عَليهم بِشُروطٍ: مِنْها أَنْ لا تَلْحَقَهُ مَضَرَّةٌ، وأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ قولَهُ يُسْمَعُ ويُعْمَلُ بِهِ، ونحو هذا مما فصلناهُ من قبلُ بحسَبِ ما بيَّنَه العلماءُ. وأَمَّا الواوُ التي في قولِهِ: "والناهون" فقيلَ هي للربْطِ بين هاتين ِالصفتين إذْ هما مُخْتَلِفَتانِ عن الصِفاتِ السابقات.
قولُهُ: {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ} هذه الصِفَةُ جامِعَةٌ للعَمَلِ بالتَكَالِيفِ الشَرْعِيَّةِ عِنْدَ تَوَجُّهُها. والحفاظُ على حُدودِ الله إنَّما يتمُّ بالعِلْمِ بِمَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ، وَما يَجِبُ تَرْكَهُ طَاعَةً للهِ، أَيْ إنّهم هُمُ المُرَاقِبُونَ لأَوَامِرِ اللهِ وَنَوَاهِيهِ. وحَقيقَةُ الحِفْظِ تَوَخِّي بَقاءِ الشَيْءِ في المَكانِ الذي يُرادُ كَوْنُه فيهِ بحسَبِ رَغْبَةِ صاحِبِهِ لعدَمِ ضياعِهِ. ويُطْلَقُ مجازاًً على مُلازَمَةِ العَمَلِ بما يُؤْمَرُ بِهِ على نحْوِ ما أَمَرَ بِهِ، وهُوَ المُرادُ هُنا، أَيْ والحافِظونَ لما عَيَّنَ اللهُ لهم، غيرَ مُضَيِّعين لِشَيْءٍ منهُ. وتَشْمَلُ الحدودُ العِباداتِ والمُعامَلاتِ لما تَقَدَّمَ في سورة البقرة: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا} الآية: 229.
أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، قَوْلُهُ: "وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ" يَعْنِي: الْحَافِظِينَ لِشَرْطِ اللهِ فِي الْجِهَادِ فَمَنْ وَفَّى بِهَذَا الشَّرْطِ، وَفَّى اللهُ لَهُ بِالْجَنَّةِ". وأَخْرَجَ أبو الشَيْخِ عَنِ السُدِّيِّ في قولِهِ: "والحافظون لحدود الله" قال: لِفَرائضِ اللهِ التي افْتَرَضَ، نَزَلَتْ هذِهِ الآيةُ في المؤمنين الذين لم يَغْزوا، والآيةُ التي قَبْلَها في مَنْ غَزا "وبَشِّرِ المؤمِنينَ" قال: الغازين.
قولُهُ: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} يُبَشِّرُ اللهُ المُؤْمِنِينَ المُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الكَرِيمَةِ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. وقيلَ هُوَ لَفْظٌ عامٌّ أُمِرَ النَبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أَنْ يُبَشِّرَ أُمَّتَهُ جميعاً بالخيرِ مِنَ اللهِ، وقيلَ بَلْ هَذِهِ الأَلْفاظُ خاصَّةً لَمَنْ لمْ يَغْزُ، أَيْ: لمَّا تَقَدَّمَ في الآيَةِ وَعْدُ المجاهِدينَ وفَضْلُهم، أُمِرَ أَنْ يُبَشِّرَ سائرَ الناسِ ممّن لمْ يَغْزُ بِأَنَّ الإيمانَ مخَلَّصٌ مِنَ النارِ، والحمدُ للهِ رَبِّ العالمين.
أَخْرَجَ ابْن ُأبي شَيْبَةَ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما، قالَ: مَنْ ماتَ على هذِهِ التِسْعِ فهُو في سَبيلِ اللهِ "التائبون العابدون" إلى آخِرِ الآيَة.
وأَخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وأَبو الشَيْخِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قالَ: الشَهيدُ مَنْ كانَ فيهِ التِسْعُ خِصالٍ "التائبون العابدون" إلى قوله: "وبشر المؤمنين".
قولُهُ تَعالى: {التائبون} مبتدأٌ، خَبرُهُ "العابدون"، وما بعدَهُ أَوْصافٌ أوْ أَخبارٌ مُتَعَدِّدَةٌ عند مَنْ يقول بتعدُّدِ الخَبرِ. أو أنَّ الخبرَ قولُهُ: "الآمرون". أو أنَّه محذوف، والتقدير: التائبونَ المَوْصوفونَ بِهَذِهِ الأَوْصافِ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، ويُؤيِّدُ هذا الوَجْهَ قولُهُ: "وبَشِّر المؤمنين"، عندَ مَنْ يَقولُ بأَنَّ هذِه الآيَةَ مُنْقَطِعةٌ ممَّا قَبْلها، ولَيْسَتْ شَرْطاً في المجاهَدَةِ، وأَمَّا مَنْ قال بأَنَّها شَرْطٌ في المجاهَدَةِ كالضَحَّاكِ وغيرُهُ فيكون إِعرابُ التائبين خبرُ مُبْتَدَأٍ محذوفٍ، أيْ: هُمُ التائبون، وهذا مِنْ بابِ قَطْعِ النُعوتِ، وذلك أَنَّ هذِه الأوْصافَ عِنْدَ هم مِنْ صِفاتِ المؤمنين من قولِهِ تعالى في الآيةِ التي قبلها: {اشْتَرى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ}. ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِراءَةُ أُبَيٍّ وابْنِ مَسعودٍ والأعْمَشِ "التائبين" بالياءِ على النصبِ. ويجوزُ أنَ تكونَ هذه القراءةُ على القطع أيضاً، فيَكونَ مَنصوباً بفعلٍ مُقدر. ويجوزُ أَنْ نَعْرِبَ "التائبون" بَدَلاً مِنَ الضَميرِ المُتَّصِلِ في "يقاتلون" ولم يُذْكَرْ لهذِهِ الأَوْصافِ مُتُعَلَّقاً، فلَمْ يَقُلْ: التائبونَ مِنْ كَذا، ولا العابدون للهِ لفَهْمِ ذَلِكَ إلاَّ صِيغَتَيِ الأَمْرِ والنَهْيِ مُبالَغَةً في ذِلِكَ، ولم يَأْتِ بِعاطِفٍ بينَ هَذِهِ الأَوْصافِ لِمُناسَبَتِها لِبَعْضِها إلاَّ في صِيغَتَيِ الأَمْرِ والنَهْيِ لِتَبايُنِ ما بَيْنَهُما، فإنَّ الأَمْرَ طَلَبُ فِعْلٍ والنَهْيَ طَلَبُ تَرْكٍ أَوْ كَفٍّ، وكذا "الحافظون" معَطوفٌ ومذكورٌ مُتَعَلَّقُهُ.
وقد أَتى بِتَرْتيبِ هذِهِ الصِفاتِ في الذِّكْرِ عَلى أَحْسَنِ نَظْمٍ وهُوَ ظاهرٌ بالتأَمُّل، فإنَّه قَدَّم التَوْبَةَ أَوّلاً، ثم ثَنَّى بالعِبادَةِ إلى آخرِ ذلك.
وقيلَ: إنَّما دَخَلَتِ الواوُ لأَنَّها واوُ الثَمَانِيَةِ، كقولِهِ تعالى في سورة الكهف: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} الآية: 22. وكقولِهِ في سورة الزُمَرِ: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} الآية: 71. لَمَّا كانَ للجَنَّةِ ثمانِيَةُ أَبوابٍ، أَتى مَعَها بالواوِ. وإنَّما دَخَلَتِ الواوُ في الصفةِ الثامِنةِ إيذاناً بأَنَّ السَبْعَةَ عِنْدَهُم عَدَدٌ تامٌّ، ولذلكَ قالوا: سَبْعٌ في ثمانِيَةٍ، أَيْ: سَبْعُ أَذْرُعٍ في ثمانيةِ أَشْبارٍ، وقد دَلَّتِ الواوُ على ذَلِكَ لأنَّها مؤْذنةٌ بأَنَّ ما بَعْدَها غيرُ ما قَبْلَها، ولذلك دَخَلَت في بابِ عَطْفِ النَّسَقِ، وهذا قولٌ واهٍ لا تحقيقَ لَهُ.
ونُلاحِظُ أَنَّ الواوَ ذُكِرَتْ مَعَ الصِفَةِ الأَخيرَةِ، وهيَ الأَشَدُ على النَفْسِ والآخرين، وباقي الصِفاتِ الأُوَلِ كُلِّها مُتَقارِبَةٌ لكنَّ النَهْيَ عَنِ المُنْكَرِ يَكونُ أَشَدَّ على الإنسانِ وقدَ يُؤدِّي إلى الإهانَةِ والقَتْلِ أَحْياناً.
وقولُهُ { الحافظون لحدودِ اللهِ} اللامُ فيها زائدةٌ للتَقْوِيَةِ؛ كَوْنَ العامِلِ "الحافظون" فَاعلاً، و "حدود" مَفعولَهُ.