إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
(111)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّه: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} يُرَغِّبُ اللهُ تَعَالَى المؤمنين فِي الجِهَادِ بِبيانِ فضْلِهِ بعد أنْ بيَّنَ حالَ المُتخلفين عنه، وَيُخْبِرُهُمْ بِأَنَّهُ سَيُعَوِّضُ المُؤْمِنِينَ بِالجَنَّةِ عَنْ بَذْلِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، لِتَكُونَ كَلِمَةَ اللهِ هِيَ العُلْيَا، وِلإِحْقَاقِ الحَقِّ، وَإِقَامَةِ العَدْلِ فِي الأَرْضِ، والآيةُ عامَّةٌ في كُلِّ مَنْ جاهَدَ في سَبيلِ اللهِ مِنْ أُمَّةِ محمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، إلى يَوْمِ القيامَةِ، فما مِنْ مُسْلِمٍ إلاَّ وهو مشمولٌ بهذِهِ المُبايَعةِ، فقد رَوى الحَسَنُ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إنَّ فَوْقَ كُلِّ بِرٍّ بِرٌّ حَتّى يَبْذُلَ العَبْدُ دَمَهُ، فإذا فَعَلَ ذَلِكَ فَلا بِرَّ فَوْقَ ذَلك)). ذَكَرَهُ ابْنُ عطيَّةَ والقُرطبيُّ والثعالبيُّ. وأَخْرَجَ أَبو الشيخِ عَنْ سُلَيْمانَ بْنِ مُوسى ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: وَجَبَتْ نُصْرَةُ المُسْلِمين عَلى كُلِّ مُسْلِمٍ لِدُخولِهِ في البَيْعَةِ التي اشْتَرى اللهُ بها مِنَ المؤمنين أَنْفُسَهم.
وقد اسْتَدَلَّ أَصْحابُ أَبي حَنيفَةَ ومالِكٍ ـ رضي اللهُ عنهما، بهذِهِ الآيةِ على نَفْيِ خِيارِ المجْلِسِ, فإنَّ اللهَ تَعالى قَدْ أَباحَ كلَّ ما اشْتُرِيَ بَعْدَ وُقوعِ التِجارَةِ عَنْ تَراضٍ, وما يَقَعُ مِنْ ذَلِكَ بإيجابِ الخِيارِ, خارجٌ عَنْ ظاهِرِ الآيَةِ، مُخَصِّصٌ لها بِغيرِ دَلالَةٍ, ونَظيرُ ذلكَ اسْتِدلالُهمْ بِقَوْلِهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بالعُقُودِ}. فأَلْزَمَ كُلَّ عاقدٍ الوفاءَ بما عَقَدَ على نَفْسِهِ, وذَلِكَ عَقْدٌ قَدْ عَقَدَهُ كُلُّ واحدٍ مِنْهُما على نَفْسِه, فأَلزَمَهُ الوفاءَ بِهِ, وفي إثباتِ الخيارِ نَفْيٌ لِلزُومِ الوَفاءِ بِهِ, وذلكَ خِلافُ مُقْتَضى الآيةِ.
وفيها مُبالَغَةٌ على وجْهٍ لا مَزَيدَ عَلَيْهِ أَبَداً، حَيْثُ عَبَّرَ عَنْ قَبولِهِ تَعالى أنفسَهم مِنْهم وأَمْوالَهمُ التي بَذَلوها في سَبيلِهِ، وإثابتِهم عليها الجنَّةَ بالشِراءِ على طَريقِ الاسْتِعارةِ التَبَعِيَّةِ، ثمَّ جُعِلَ المَبيعُ الذي هُوَ العُمْدةُ والمَقْصِدُ في العَقْدِ أَنْفُسَ المؤمنينَ وأَمْوالَهم، والثَمَنُ الذي هُوَ الوَسيلةُ في الصَفْقَةِ الجَنَّةُ، ولم يُجْعَلِ الأَمْرُ على العَكْسِ بِأَنْ يُقالَ: إنَّ اللهَ باعَ المؤمنينَ الجَنَّةَ بِأَنْفُسِهم وأَمْوالِهم، لِيَدُلَّ على أَنَّ المَقْصِدَ في العَقْدِ هُوَ الجَنَّةُ، وما بَذَلَهُ المُؤمِنونَ في مقابِلِها وَسيلةٌ إليْها تبياناً لِكَمالِ العنايةِ بهم وبأموالِهم، وقال: "بِأَنَّ لَهُمُ الجنة" مُبالَغةً في تقريرِ وُصُولِ الثَمَنِ إلَيْهم واخْتِصاصِهِ بهم، كأنَّما قيلَ: بالجَنَّةِ الثابِتَةِ لهم المُخْتَصَّةِ بهم. ولو قيلَ: بالجَنَّةِ لاحْتَمَلَ أَنْ يكونَ الشِراءُ حَقيقةً لأنها صالحةٌ للعِوضِ.
قولُهُ: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} فَهُمْ حِينَ يُجَاهِدُونَ يَقْتُلُونَ أَعْدَاءَهُمْ، وَيُقْتَلُونَ هُمْ، وَهُمْ فِي كِلاَ الحَالَيْنِ مُثَابُونَ عَلَى ذَلِكَ. وهذا الاسْتِئْنافُ لبيانِ البَيْعِ الذي يَسْتَدْعيهِ الاشْتِراءُ المذكورُ كأَنَّه قِيلَ: كَيْفَ يَبيعونَ أَنْفُسَهم وأَمْوالَهم بالجَنَّةِ؟ فقالَ: يُقاتِلونَ في سَبيلِ اللهِ، وهو بَدَلٌ مِنْهم لأَنْفُسِهم وأَمْوالهم إلى اللهِ تعالى، وتعريضٌ لهُما للهَلاكِ. و "فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ" بَيانٌ لكونِ القِتالِ في سَبيلِ اللهِ بَذْلاً للنَفْسِ، وأَنَّ المُقاتِلَ باذلٌ لها وإن كانت سالمةً غانمةً، وإنَّما يَتَحَقَّقُ الجهادُ بمجرَّدِ العَزمِ عليه، والنَفيرِ من أجلِه، وتكثيرِ السَوادِ. وفي تَقديمُ "فَيَقْتُلونَ" على "يُقْتَلونَ" إشارةٌ لعدمِ الفَرْقِ بَيْنَهُما في كونِهِما مِصْداقاً لِكَوْنِ القِتالِ بَذْلاً للنَفْسِ. وقُرِئَ بالعكسِ تَنْبيهاً على كَوْنِ الشَهادَةِ مَطْلَباً أَصيلاً للمُجاهِدينَ، وإظْهاراً لِعَدَمِ مُبالاتِهم بالموْتِ في سَبيلِ اللهِ.
بَلْ رُبَّما كانَ أَحَبَّ إلَيْهم مِنَ السَلامَةِ، كَما قالَ فِيهِمُ الشاعرُ كَعْبُ ابْنُ زُهَيرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
لا يفرحون إذا نالتْ رِماحُهُمُ ......... قوماً ولَيْسوا مَجازيعاً إذا نِيلوا
لا يَقَعُ الطَعْنُ إلاَّ في نُحورِهِمُ ......... وما لهم عَنْ حِياضِ الموتِ تهليلُ
قولُهُ: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ} وَقَدْ وَعَدَ اللهُ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بِهَذَا الجَزَاءِ الحَقِّ، وَجَعَلَهُ حَقّاً عَلَيهِ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآنِ. قالَ المُفَسِّرون: يَظْهَرُ مِنْ قولِهِ: "في التوراة والإنجيل والقرآن"، أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ أُمِرَتْ بالجِهادِ وَوُعِدَتْ عَلَيْه.
قولُهُ: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} يَدْعُو اللهُ تَعَالَى مَنِ التَزَمَ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِعَهْدِهِ للهِ إِلَى الاسْتِبْشَارِ بِذَلِكَ الفَوْزِ العَظِيمِ، وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ، لأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَفَاءً بِالْعَهْدِ، وَلاَ أَكْثََرَ مِنْهُ التِزَاماً بِالوَعْدِ الذِي يَقْطَعُهُ عَلَى نَفْسِهِ الكَرِيمَةِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ رِبْحٌ أَكْبَرُ مِنَ الرّبِحِ الذِي يُحَقّقُهُ المُؤْمِنُونَ فِي هَذِهِ الصَّفْقَةِ.
أَخرج أبو الشيخ عنِ السُدِّيِّ ـ رَضيَ اللهُ عنه، في قوله: "إن الله اشترى ..." الآية. قال: نَسَخَها قولُه: {ليس على الضعفاء} التوبة: 91 الآية.
وقد نَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ المباركةُ في بَيعَةِ العَقَبَةِ الكُبرى، وقد أَنافَ فيها رِجالُ الأَنْصارِ عَلى السَبْعينَ، وكانَ أَصْغَرُهم سِنّاً عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو، حين اجْتَمَعوا مَعَ رَسولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمَ، عِنْدَ العَقَبَةِ ـ فيما أَخْرجَ ابْنُ جريرٍ عنْ محمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرُظِيِّ وغيرِه قالوا: قالَ عبدُ اللهِ بْنُ رَواحَةَ ـ رضِيَ اللهُ عنه، لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يومَ بيعة العقبة: اشْتَرِطْ لِرَبِّكَ ولِنَفْسِك ما شِئْتَ. ((قال: أشْتَرِطُ لِرَبي أَنْ تَعْبُدوهُ ولا تُشْرِكوا بِهِ شَيْئاً، وأَشْتَرِطُ لِنَفْسِيَ أَنْ تَمْنَعوني ممّا تَمنَعونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وأَمْوالَكُمْ)). قالوا: فإذا فَعَلْنا ذَلِكَ فَما لَنا؟ قال: ((الجَنَّةَ)). قال: رَبِحَ البَيْعُ لا نَقيلُ ولا نَسْتَقيلُ. فنَزَلَتْ.
وأخرجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيِّ ـ رضي اللهُ عنه، قَالَ: "نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ: "إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ" إِلَى آخِرِ الآيَةِ، فَكَبَّرَ النَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ ثَانِيًا طَرَفَيْ رِدَائِهِ عَلَى أَحَدِ عَاتِقَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ؟ فَقَالَ: ((نَعَمْ))، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: بَيْعٌ رَبِيحٌ، لا نَقِيلُ وَلا نَسْتَقِيلُ".
وأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، والطبرانيُّ في الأوسطِ، عَنْ عُبادَةَ بْنِ الصامِتِ أَنَّ أَسعدَ بْنَ زُرارةَ ـ رضي اللهُ عنهما، أَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّم، لَيْلَةَ العَقَبَةِ فَقال: يا أَيُّها النَّاسُ: هَلْ تَدْرونَ عَلامَ تُبايِعونَ محمَّداً؟ إنَّكم تُبايِعونَهُ على أَنْ تُحارِبوا العَرَبَ والعَجَمَ والجِنَّ والإِنْسَ كافَّةً. فقالوا: نحنُ حَرْبٌ لِمَنْ حارَبَ، وسِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَ. فقال أَسْعَدُ بْنُ زُرارَةَ: يا رَسُولَ اللهِ اشْتَرِطْ عَلَيَّ، فقالَ: ((تُبايِعوني عَلى أَنْ تَشْهَدوا أَنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وأَنّي رَسُولُ اللهِ، وتُقِيموا الصَلاةَ، وتُؤتُوا الزَكاةَ، والسَمْعِ والطاعةِ، ولا تُنازِعوا الأَمْرَ أَهْلَهُ، وتَمْنَعوني ممَّا تَمْنَعونَ مِنْهُ أَنْفُسَكم وأَهْليكم)). قالوا: نعم. قالَ قائلُ الأَنْصارِ: نَعَمْ هذا لَكَ يا رَسُولَ اللهِ فَما لَنا؟ قالَ: ((الجَنَّةُ والنَصْرُ)).
وأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنِ الشَعْبيِّ قال: انْطَلَقَ النَبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بالعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وكانَ ذا رَأْيٍ، إلى السَبْعين مِنَ الأَنْصارِ عِنْدَ العَقَبَةِ، فقالَ العبَّاسُ: لِيَتَكَلَّمْ مُتَكَلِّمُكُمْ ولا يُطِلِ الخُطْبَةَ، فإنَّ عَليكم للمُشْرِكين عَيْناً، وإنْ يَعْلَمُوا بِكمْ يَفْضَحوكم. فقالَ قائلُهم، وهوَ أَبو أُمامَةَ أَسْعَدُ: يا محمَّدُ، سَلْ لِرَبِّكَ ما شِئْتَ، ثمَّ سَلْ لِنَفْسِكَ وأَصْحابِكَ ما شِئْتَ، ثمَّ أَخْبرْنا ما لَنا مِنَ الثََوابِ عَلى اللهِ وعَليكم إذا فَعَلْنا ذَلِك. فقال: ((أَسْأَلُكم لِرَبّي أَنْ تَعْبدوهُ ولا تُشْرِكوا بِهِ شَيْئاً، وأَسْأَلُكم لِنَفْسي وأَصْحابي أَنْ تُؤوُونا وتَنْصُرونا، وتمنعونا مما تمنعونَ مِنْهُ أَنْفُسَكم)). قال: فَما لَنا إذا فَعَلْنا ذَلِكَ؟ قالَ: ((الجَنَّةُ)).
فكانَ الشَعْبيُّ إذا حَدَّثَ هذا الحَديثَ قال: ما سَمِعَ الشِيبُ والشُبَّانُ بِخُطْبَةٍ أَقْصَرَ ولا أَبْلَغَ مِنْها.
قولُهُ تَعالى: {بِأَنَّ لَهُمُ} متعلقٌ ب "اشترى"، ودَخَلَتِ الباءُ هُنا على المَتْروكِ على بابها، للمُقابَلَةِ أو العِوَضِ، كما يسمُّونَها.
قولُهُ: {يُقاتِلُون} يَجوزُ أَنْ يَكونَ اسْتَئنَافاً لِبَيانِ ما لأَجْلِهِ الشِّراءُ، ويجوزُ أَنْ يَكونَ حالاً لبيانِ الشراءِ. وقيلَ: فيهِ مَعنى الأمْرِ، كقولِهِ تَعالى في سورةِ الصَفِّ: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ}
الآية: 11. فيتعيَّنُ على هذا الاستئنافُ، لأنَّ الطَلَبَ لا يَقَعُ حالاً.
قولُهُ: {وَعْداً} مَنْصوبٌ على المَصْدَرِ لما دَلَّ عَلَيْهِ الشِراءُ، مُؤَكِّدٌ لمَضْمونِ الجُمْلَةِ فإنَّهُ في مَعْنى الوَعْدِ لأَنَّ المُرادَ ب "اشْتَرَى"، أنَّه سبحانَهُ وعَدَهم وَعْداً حَقّاً لا خُلْفَ فيهِ، فهُوَ نَظيرُ "هذا ابْني حقّاً. ويَجوزُ أَنْ يَكونَ مَصْدَراً في مَوْضِعِ الحالِ، وفيهِ ضَعْفٌ. و "حقاً" نعتٌ لَهٌ، و "عليه" حالٌ مِنْ "حقّاً" لأنَّه في الأَصْلِ صِفَةٌ لَوْ تَأَخَّرَ.
قولهُ: {فِي التوراة} مُتَعَلِّقٌ بِ "اشترى" وعلى هذا فَتَكونُ كُلُّ أُمَّةٍ قَدْ أُمِرَتْ بالجِهادِ وَوُعِدَتْ عَلَيْهِ الجَنَّةَ. ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمَحذوفٍ لأنَّهُ صِفَةٌ للوَعْدِ، أَيْ: وَعْداً مَذْكُوراً وكائناً في التَوْراةِ، وعلى هذا فيَكونُ الوَعْدُ بالجَنَّةِ لهذِهِ الأُمَّةِ مَذْكوراً في كُتُبِ اللهِ المُنَزَّلَةِ.
قولُهُ: {وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ} اسْتِفْهامٌ عَلى جِهَةِ التَقْريرِ، أَيْ: لا أَحَدٌ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ تعالى.
وقولُهُ: {فاستبشروا} فيهِ التِفاتٌ مَنَ الغَيْبَةِ إلى الخِطابِ لأَنَّ في خَطابَهم بَذلَكَ تَشْريفاً لهم، وصيغةُ "اسْتَفْعَلَ" هُنا لَيْسَ للطَلَبِ، بَلْ بمَعْنى :أَفْعَلَ: ك "استوقد" و "أَوْقَدَ".
وقولُهُ: {الذي بَايَعْتُمْ بِهِ} تَوْكيدٌ كَقَوْلِهِ في الآيةِ التي قبلَها: {الذي بَنَوْا} لِيَنُصَّ لَهمْ عَلى هذا البَيْعِ بِعَيْنِهِ.
قرأَ العامّةُ: (ابْنُ كَثير، ونَافِع، وعاصمٌ، وابْنُ عامِر، وأَبو عَمْرو، والحَسَنُ، وقَتادة، وأَبو رَجاء، وغيرُهم): {فيَقتُلون} على البناءِ للفاعِلِ "ويُقْتَلونَ" على البِناءِ للمَفعول.
وقرأَ الأَخوانِ (حمزةُ والكِسائيُّ)، والنُخَعِيُّ، وابْنُ وَثَّابٍ، وطَلْحَةُ، والأَعْمَشُ بِعَكْسِ ذَلِكَ.
وقرأَ العامَّةُ: {بِأَنَّ لهمُ الجنَّة}، وقَرأَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ ـ رضي اللهُ عنْهُ: "بالجنَّة"، وبها قَرَأَ الأَعْمَشُ، ونُسِبَتْ كَذلكَ لِعَبْدِ اللهِ ابْنِ مَسْعودٍ ـ رضي اللهُ عنه، وقد تقدَّمَ بيانُ ما فيهما، والقراءةُ الأُولى أَبْلَغُ. واللهُ أعلمُ.