وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
(105)
قولُه ـ تعالى جَدُّهُ: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ} ما شئتم مِنْ خَيرٍ أَوْ شَرٍّ، " فإنَّ اللهَ تعالى لا يخفَى عَلَيْهِ شيءٌ مِنْ عملِكم؛ خيراً كان أَوْ شَرًّاً وفي هَذَا وَعدٌ من اللهِ تعالى لمن أطاعه، ووعِيدٌ لِمَنْ خَالَف أَوَامِرَهُ، وَتَحْذِيرٌ لَهُمْ بِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ سَتُعْرَضُ عَلَيهِ، وَعَلَى رَسُولِهِ، وَعَلَى المُؤْمِنِينَ، يَوْمَ القِيَامَةِ، والظاهرُ أَنَّ المُرادَ بها الذين اعْتَذَروا ولم يتوبوا مِنَ المُتَخَلِّفين، فهُمُ الذينَ في ضَمير {أَلَمْ يَعْلَمُواْ} مِنَ الآيَةِ السّابِقَةِ، وهُمُ المُتَوَعَّدون.
وهذا كلامٌ جامع للتَّرغيب والتَّرهيب؛ لأنَّ المعبودَ إذا كان لا يعلمُ أَفْعالَ العِبادِ لمْ يَنْتَفِعِ العبدُ بِفْعْلِهِ أَبَداً، ولهذا قال إبْراهيمُ ـ عليه السلامُ، لأَبيهِ: { يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} سورة مَريم، الآية: 42.
وقد جاءَ في السُنَّةِ المطهَّرةِ قولُهُ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((اعْمَلوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ لَهُ، بادِرُوا بالأَعْمالِ فِتَناً كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ، الكَيِّسُ مَنْ دانَ نَفْسَهُ وعَمِلَ لما بَعْدَ المَوْتِ، يا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ اعْمَلْ لا أُغْني عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً، يا فاطِمَةُ بِنْتَ محمَّدٍ اعْمَلي لا أُغْني عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئاً)) إلى غير ذلك. وإذا نَظَرَ العَبْدُ إلى هذِه النُصوصِ لا يَسَعُهُ إلاَّ أَنْ يَرُدَّ أَعمالَ العِبادِ الاخْتِيارِيَّةِ إليْهِم مُعْتَقِداً أَنَّهم يَسْتَحِقّونَ ثَوابها إنْ أَحْسَنُوا، وعِقابها إنْ أَساؤوا، ويُظاهِرُ هذِه الأَدِلَّةَ النَقْلِيَّةَ أَدِلَّةٌ عَقْلِيَّةٌ شاهِدةٌ بِعدالَةِ اللهِ وحِكْمَتِهِ، لأنَّ العبدَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُوجِداً لما اخْتَارَ مِنْ أَعْمالِهِ لَما كانَ ثَمَّةَ وَجْهٌ لاسْتِحْقاقِهِ المَثُوبَةَ، أَوِ العُقوبَةَ، وكَيْفَ يُثابُ أَوْ يُعاقَبُ عَلى ما لَيْسَ لَهُ ولمْ يَصْدُرْ مِنْهُ. قالَ محمَّدُ بْنُ أَشْرَفِ القَيروانيُّ:
غيري جَنى وأَنَا المُعاقَبُ فِيكُمُ .................... فكأنَّني سَبّابَةُ المُتَنَدِّمِ
والرُؤيَةُ المُسْنَدَةُ إلى الله تَعالى رُؤيَةٌ مجازِيَّةٌ. وهيَ تَعَلُّقُ العِلْمِ بالواقِعاتِ سواءً كانَتْ ذَواتَ مُبْصَراتٍ أَمْ كانَتْ أَحْداثاً مَسْموعاتٍ ومعانيَ مُدْرَكاتٍ، تَدُلُّ على كَوْنِهِ تَعالى رائياً للمَرْئِيَّاتِ، لأنَّ الرُؤْيَةَ التي تتعدَّى إلى مَفْعولٍ واحدٍ، هِي الإبْصارُ، والتي تتعدَّى إلى مَفْعولَينِ هِيَ العِلْم، كما تَقولُ رَأَيْتُ زَيْداً فَقِيهاً، وهَهُنا الرُؤْيَةُ مُعَدَّاةٌ إلى مَفْعولٍ واحِدٍ فَتَكونُ بمَعْنى الإبْصارِ، وذَلِكَ يَدُلُّ على كَونِهِ مُبْصِراً للأَشْياءِ. وممَّا يُقَوّي أَنَّ الرُؤْيَةَ لا يُمْكِنُ حمْلُها هَهُنا على العِلْمِ، أَنَّهُ تَعالى وَصَفَ نفسَهُ بالعِلْمِ بَعْدَ ذلك في هذِهِ الآيةِ فقالَ: "وَسَتُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة" ولو كانَتْ هذِهِ الرُؤيَةُ هِيَ العِلْمُ للَزِمَ حُصُولُ التَكْريرِ الخالي عَنِ الفائدَةِ، وهو باطِلٌ. ثمَّ إنَّه تَعالى عَدَّى هَذِهِ الرُؤيَةَ إلى عَمَلِهم، والعَمَلُ يَنْقَسِمُ إلى أَعْمالِ القُلوبِ، كالإراداتِ، والكَراهاتِ، والأَفْكارِ. وإلى أَعْمالِ الجَوارِحِ، كالحركاتِ، والسَكَنَاتِ. فوَجَبَ كَوْنُهُ تَعالى رائياً للكُلِّ وذلكَ يَدُلُّ على أَنَّ هَذْهِ الأَشْياءَ، كلَّها مَرْئِيَّةٌ للهِ تَعالى. ورُؤيَةُ اللهِ تَعالى حاصِلَةٌ في الحالِ والاستقبالِ. والمعْنى الذي يَدُلُّ عَلَيْهِ "فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ" أَمْرٌ غَيرُ حاصِلٍ في الحالِ، لأنَّ السِينَ تَخْتَصُّ بالاسْتِقْبالِ وحسبُ. وهذا مَنَ المستحيلِ لأنَّ علمَ اللهِ غيرُ مقيَّدٍ بزمنٍ، فَثَبَتَ أَنَّ المُرادَ مِنْهُ الجَزاءُ عَلى الأَعْمالِ، وهذا إنَّما يكونُ في المستقبل.
وإذا حمَلْنا قولَهُ تَعالى: "فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ" على الرُؤْيَةِ، فحينئذٍ يَظْهَرُ أَنَّ مَعناهُ مُغايِرٌ لمَعنى قولِهِ: "وَسَتُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة" وإذا حمَلْنا تِلْك الرُؤْيَةِ على العِلْمِ، أَوْ على إيصالِ الثَوابِ جَعَلْنا قولَهُ: "وَسَتُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة" جارياً مُجْرى التَفْسيرِ لِقَوْلِهِ: "فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ" أيْ: بإظْهارِ المَدْحِ والثَنَاءِ والإعزازِ في الدنيا، أَوْ بإظْهارِ أَضْدادِها. وقولُهُ: "وَسَتُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة" معناهُ: ما يَنْظُرُهُ في القِيامَةِ مِنْ حالِ الثَوابِ والعِقابِ.
قولُه: {وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} كذلِكَ فإنَّ الرُؤْيَةَ المُسْنَدَةَ إلى الرَّسولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، والمؤمِنينَ هي المَعْنى المَجْزِيَّ لِقَوْلِهِ تعالى: "عَمَلَكُمْ". فالمعنى وُصولُ خَبرِ ذلكَ العَمَلِ إلى الكُلِّ. قالَ ـ صلى اللهُ عليه وسلّمَ: ((لَوْ أَنَّ رَجُلاً عَمِلَ عَمَلاً في صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لا بابَ لها ولا كُوَّةَ لَخَرَجَ عَمَلُهُ إلى النّاسِ كائناً ما كانَ)) أَخْرَجَهُ: أحمدُ، وأَبو يَعْلى، وابْنُ حِبَّان، والحاكمُ، والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمان، وابْنُ أَبي الدُنيا في الإِخْلاصِ، والضِياءُ المَقْدِسِيُّ في المُخْتارَةِ، عَنْ أَبي سَعيدٍ الخدريِّ ـ رضي اللهُ عنه، ورُؤيةُ الرَسُولُ والمؤمنين لأَعْمالِ هَؤلاءِ لِوجهين: الأوَّلُ: أَنَّ أَجْدَرَ ما يَدْعو المرْءَ إلى العَمَلِ الصالحِ ما يَحْصُلُ لَهُ مِنَ المَدْحِ والتَعْظيمِ والعِزِّ الذي يَلْحَقُهُ عِنَدَ ذَلِكَ، فإذا عَلِمَ أَنَّهُ إذا فَعَلَ كَذا وكذا عَظَّمَهُ الرَّسولُ والمؤمنون، عَظُمَ فرَحُهُ بِذلِكَ، وقَوِيَتْ رَغْبَتُهُ فيهِ، وممّا يُنَبِّهُ عَلى هَذِهِ الدَقيقَةِ أَنَّهُ ذِكْرُ رُؤْيَةِ اللهِ تَعالى أَوَّلاً، ثمَّ ذَكَرَ بعَدَها رُؤْيَةَ الرَّسُولِ ـ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، والمؤمِنينَ، فَكَأَنَّهُ قيلَ: إنْ كُنْتَ مِنَ المُحِقِّينَ المُحَقَّقينَ في عُبُودِيَّةِ الحَقِّ سبحانَه، فاعْمَلِ الأَعْمالَ الصالحةَ للهِ تَعالى، وإنْ كُنْتَ مِنَ الضُعَفاءِ المَشْغولينَ بِثَناءِ الخَلْقِ فاعْمَلِ الأَعْمالَ الصالحةَ لِتَفوزَ بِثَناءِ الرَسولِ والمُؤمِنين. والثاني: أَنَّ المُؤمنين هُمْ شُهَداءُ اللهِ تعالى يَوْمَ القيامَةِ، قال في سورةِ البَقَرَةِ أَيْضاً: {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا لتكونوا شهداءَ على الناسِ ويكونَ الرسولُ عليكم شهيداً} الآية: 143، والرَسُول شَهيدٌ على الأُمَّةِ، كما قالَ في سورةِ النساءِ أيضاً: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاء شَهِيداً} الآية: 41. وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ مُرَّ بِجِنَازَةٍ فَأُثْنَيَ عَلَيْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَجَبَتْ))، ثُمَّ مُرَّ بِجِنَازَةِ أُخْرَى، فَأَثْنى عَلَيْهَا بَعْضُ النَّاسِ الثَّنَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَجَبَتْ))، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مُرَّ بِجِنَازَةِ الأُولَى، فَقُلْتَ: وَجَبَتْ، ثُمَّ مَرَّ بِالآخِرَةِ فَقُلْتَ: وَجَبَتْ، فَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ الْمَلائِكَةَ شُهَدَاءٌ فِي السَّمَاءِ، وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الأَرْضِ، فَمَا شَهَدْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ وَجَبَ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ: "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ".
فَثَبَتَ أَنَّ الرَسُولَ والمؤمِنين شُهَداءُ اللهِ على الناسِ يومَ القِيامَةِ، ولا تَصحُّ الشهادةُ إلاَّ بَعْدَ الرُؤْيَةِ، فلذك ذَكَرَ اللهُ في هذه الآيةِ أَنَّ الرَسُولَ والمؤمنين يَرَوْنَ أَعْمالهم، والإشارة إلى أَنَّهم يَشْهَدونَ يَومَ القِيامَةِ عِنْدَ حُضُورِ الأَوَّلينَ والآخِرينَ، ذلك لأَنَّهم أَهْلُ الصِدْقِ والسَدادِ والعَفافِ والرَشادِ.
وثمَّ فائدةٌ أُخْرى من رؤيَةِ الرسولِ والمؤمنينَ لأعمالِ هؤلاءِ، وهو ما يترتَّبُ على هذه الرؤيةِ من أحكامٍ شرعيَّةٍ في الدنيا، فإذا كانتْ أَعْمالُهُم أعمالَ المؤمنينَ، عوملوا كمؤمنين لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وإنْ كانت غيرَ ذلكَ، عوملوا في الدنيا معاملة غير المؤمنين. خاصةً ما يتعلَّق بأحكامِ النكاحِ الإرْثِ والغنيمةِ والفيءِ والدفْنِ في مَقابِرِ المُسْلِمين، وغير ذلك من أحكامٍ مبيَّنَةٍ في مكانها.
قوله: {وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} وعدٌ ووَعيد بأَنَّهُمْ سَيُرَدُّونَ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَى اللهِ، الذِي يَعْلَمُ الغَيْبَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَهُوَ الشَاهِدُ عَلَى خَلْقِهِ جَمِيعاً، فَيُخْبِرُهُمْ بِكُلِّ عَمَلٍ عَمِلُوهُ. ويجازي كلاً بما قَدَّمَ مِنْ عَمَلٍ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: ("الغَيْبُ" ما يُسِرّونَهُ، و "الشهادةُ" ما يُظْهِرونَهُ). ولا يَبْعُدُ أَنْ يَكونَ "الغَيْبُ" ما حَصَلَ في قُلوبهم مِنَ الدواعِي والصَوارِفِ، و "الشهادة" الأَعمالُ التي تَظْهَرُ على جَوارِحِهم. ومَذْهَبُ حُكْماءِ الإسْلامِ أَنَّ المَوْجوداتِ الغائبةِ عَنِ الحَواسِّ عِلَلٌ أَوْ كالعِلَلِ للمَوْجوداتِ المحسوساتِ، والعِلْمُ بالعِلَّةِ عِلَّةٌ للعِلْمِ بالمَعْلولِ. فوَجَبَ كَوْنُ العِلْمِ بالغَيْبِ سابِقاً على العِلْمِ بالشَهَادَةِ، فلِهذا السَبَبِ أَيْنَما جاءِ هَذا الكلامُ في القُرآنِ الكريمِ رأيتَ الغَيْبُ مُقَدَّماً عَلى الشَهَادَةِ.
قولُه: {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} المعنى يُعَرِّفُكم أَحْوالَ أَعْمالِكم ثمّ يُجازيكم عَلَيْها، لأَنَّ المُجازاةِ مِنَ اللهِ تَعالى لا تَحْصُلُ في الآخِرَةِ إلاَّ بعدَ التَعريف. لِيَعْرِفَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الذي وَصَلَ إِلَيْهِ عَدْلٌ لا ظُلْمٌ، فإنْ كانَ مِنْ أَهْلِ الثَوابِ كانَ فَرَحُهُ وسَعادَتُهُ أَتَمَََّ، وإنْ كانَ مِنْ أَهْلِ العِقابِ كانَ غَمُّهُ وخُسْرانُهُ أَعَمَّ.
وقالوا: المرادُ مِنْ قولِهِ تَعالى: "فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ" الإشارةُ إلى الثوابِ الرُوحانيِّ، وذَلِكَ لأنَّ العَبْدَ إذا تَحَمَّلَ أَنْواعاً مِنَ المَشاقِّ في الأُمورِ التي أَمَرَهُ بها مَوْلاهُ، وعَلِمَ أَنَ مَولاهُ يَرى تحَمُّلَهُ لِتَلْكَ المَشاقِّ، عَظُمَ فَرَحُهُ وتَمَّ سرورُهُ، وكانَ ذَلِكَ عِنْدَهُ أَلَذَّ مِنَ الخُلَعِ النَفِيسَةِ والأَمْوالِ الكثيرة. والمُرادُ من قولِه: "وَسَتُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة" تعريفُ عِقابِ الخِزْيِ والفَضيحَةِ. ومِثالُهُ أَنَّ العبدَ الذي خَصَّهُ السُلْطانُ بوجوهٍ كثيرةٍ مِنَ الإحسانِ وأَتى بأَنْواع كَثيرةٍ مِنَ المعاصي، فإنَّه إذا حَضَرَ عندَ السُلْطانِ وعدَّدَ عَلَيْهِ أَنْواعَ قبائِحِهِ وفضائحِهِ، اشتدَّ حُزْنُهُ، وعَظُمَ غَمَّهُ وتمَّتْ فَضيحَتُه، وهذا نَوعٌ مِنَ العذابِ الرُوحانيِّ، ورُبّما وَجَدَ العاقِلُ أَشَدِّ أَنْواعِ العَذابِ الجِسْمانيِّ أسهلَ مِنْهُ. والمقَصودُ مِنْ هَذِهِ الآيةِ تَعريفُ هذا النَوْع من العقابِ.
قولُهُ تَعالى: {فَسَيرى اللهُ} جملةٌ مَعْطوفَةٌ على جملَةِ "اعملوا" في محَلِّ نَصْبٍ، وجملَةُ "ستردُّون" مَعْطُوفَةٌ على جملةِ "فسيرى الله".