وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
(100)
قولُهُ ـ جَلَّ وعَلا: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} بَيانٌ لِفَضائلِ أَشْرافِ المُسْلِمينَ، فبَعدَ أَنْ بَيَّنَ فَضِيلَةَ طائفةٍ مِنْهُم، يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ رِضَاهُ عَنِ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ المُهَاجِرِينَ، أَيْ: الذِينَ هَاجَرُوا قَبْلَ صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ، وَمِنَ الأَنْصَارِ، أَيْ: الذِينَ بَايَعُوا الرَّسُولَ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فِي بَيْعَتَي العَقَبَةِ وَالرِّضْوَانِ.
فقد أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ، وأَبو نُعَيْمٍ في المعرفةِ، عَنِ أَبي مُوسى الأَشْعَرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قولِهِ تعالى: "والسابقون الأَوَّلونَ" فقالَ: هُمُ الذينَ صَلّوا القِبْلَتَينِ جميعاً. وقدْ حُوِّلَتِ القِبْلَةُ قبلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ. ورُويَ ذَلكَ عَنْ سَعيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، ورُويَ مثلُه عَنِ الحَسَنِ، وعن محمَّدِ بْنِ سِيرينَ، وفيهِ زِيادةٌ: (وَهُمْ أَهْلُ بَدْرٍ). وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وأَبو الشَيْخِ، وأَبو نُعَيْمِ في المعرفة، عَنِ الشَعْبيِّ في قوله: "والسابقون الأولون" قال: مَنْ أَدْرَكَ بَيْعَةَ الرُضْوانِ، وأَوَّلُ مَنْ بايَعَ بَيْعَةَ الرُضْوانِ سِنانُ بْنُ وَهْبٍ الأَسَدِيُّ.
وزَكَّى النَبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمَ، أصحابَه، رضوانُ اللهِ عليهم، فقال: ((قُرَيْشٌ، والأَنْصارُ، وجُهَيْنَةَ، ومُزَيْنَةَ، وأَسْلَمَ، وغِفارٌ، مَوالي اللهِ ورَسُولِهِ، لا مَولى لهم غيرُهُ)) أَخْرَجَ البُخارِيُّ، ومُسْلِمٌ، وابْنُ أَبي شَيْبَةَ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
والمهاجرون: همُ الذينَ تركوا أهليهم وأموالهم في مكَّةَ وهاجروا مع رسولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، إلى المدينة المنوَّرةِ (يَثْرِبَ) فِراراً بدينهم، ونصرةً لله ورسولهِ. أَمَّا الأَنْصارُ: فَهُم مَّنْ آوَوْا رسولَ اللهِ ومن هاجرَ مَعَهُ ونَصْروهم، وقد سُمّاهم بهذا الاسْمِ الشَريفِ مَنْ رَفَعَ السمواتِ وبَسَطَ الأَرْضينَ. لما أَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنْ غَيْلانَ بْنِ جَريرٍ قال: قُلْتُ لأنَسِ بْنِ مالِكٍ ـ رضي اللهُ عنه، هذا الاسْمُ (الأنْصار) أَنْتُمْ سَمَّيْتُموهُ أَنْفُسَكُمْ أَوِ اللهُ تَعالى سَمَّاكُمْ مِنَ السَمَاءِ؟ قالَ: اللهُ تَعالى سَمَّانا مِنَ السَماءِ. ولذلك فقدْ رَفَعَ اللهُ ورسولُه منزلتهم وفرضَ حبَّهم وتجِلَّتَهم وتعظيمَ شأْنهم على المسلمين إلى قيامِ الساعةِ. جاءَ ذَلكَ في أَحاديث كَثيرةٍ عَنْ رَسولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ. مِنْ ذَلك ما أخرجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وأَحمَدٌ، والنَسائيُّ، عَنْ مُعاوِيَةَ بْنِ أَبي سُفْيانٍ ـ رضي اللهُ عنهما، قال: سمِعتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، يَقولُ: ((مَنْ أَحَبَّ الأَنْصارَ أَحَبَّهُ اللهُ، وَمَنْ أَبْغَضَ الأَنْصارَ أَبْغَضَهُ اللهُ)).
فقد علَّقَ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، في هذا الحديثِ، حُبَّ اللهِ سبحانَه، على حبِّ الأنصارِ، وبغضَهُ على بغضِهم. واعتبرَ في حديثٍ آخرَ حبَّهم علامةً من علاماتِ الإيمان، وبغضَهم علامةً من علامات النفاقِ فقال: ((آيَةُ الإِيمانِ حُبُّ الأَنْصارِ، وآيَةُ النِفاقِ بُغْضُ الأَنْصارِ)). أَخرَجَهُ أَحمَدُ، والبُخارِيُّ ومُسْلِمٌ منْ حديثِ أَنَسِ بْنِ مالكٍ ـ رضي اللهُ عنه.
وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، والبُخارِيُّ، ومُسلِمٌ، والتِرْمِذِيُّ، والنِسائيُّ، وابْنُ ماجَةَ، عَنِ البَراءِ بْنِ عازِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمَ: ((الأَنْصارُ لا يُحِبُّهم إلاَّ مُؤمِنٌ، ولا يُبْغِضُهُمْ إلاَّ مُنافِقٌ، ومَنْ أَحَبَّهم أَحَبَّهُ اللهُ، ومَنْ أَبْغَضَهم أَبْغَضَهُ اللهُ)).
ودعا ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ، لهم ولأولادِهم، وأَزْواجِهم، وذَراريهم، فقال: ((اللهُمَّ اغْفِرْ للأَنْصارِ، ولأَبْناءِ الأنْصارِ، ولأَزْواجِ الأَنْصارِ ولِذَراري الأَنْصارِ، الأَنْصارُ كِرْشي وعَيْبَتي، ولَوْ أَنَّ النَّاسَ أَخَذوا شِعْباً، وأَخَذَتِ الأَنْصارُ شُعْباً، لأَخَذْتُ شُعْبَ الأَنْصارِ، ولولا الهِجْرَةُ كُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصارِ)). أَخْرَجَه أَحمَدُ عَنْ أَنَسْ، رضيَ اللهُ عنه. وكرشُ الرجُلِ: بِطانَتُهُ ومَوْضِعُ أَمانَتِهِ. وعَيْبَتُه: خاصَّتُهُ ومَوْضِعُ سِرِّهِ. وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ ابْنِ عُبادَةَ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، دعا لهم مرَّةً فقال: ((اللهمَّ صَلِّ على الأَنْصارِ، وعلى ذُرِّيَّةِ الأَنْصارِ، وعلى ذُرِّيَّةِ ذُرِّيَّةِ الأَنْصارِ)). وأَخرجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ أيضاً، عَنْ أَبي سَعيدٍ الخِدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، قال: قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ، مخاطباً الأنصارَ: ((لو سَلَكَ النَّاسُ وادِياً وشِعْباً، وسَلَكْتُمْ وادِياً وشِعْباً، لَسَلَكْتُ وادِيَكم وشِعْبَكم. أَنْتُمْ شِعارٌ، والنّاسُ دِثارٌ، ولولا الهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصارِ، ثمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتى إنّي لأَرَى بَيَاضَ إبْطَيْهِ فَقال: اللهُمَّ اغْفِرْ للأَنْصارِ، ولأبْناءِ الأَنصارِ، ولأَبْناءِ أَبْناءِ الأَنْصارِ)). والشِعارُ: ما وَليَ الجَسَدَ دُونَ سِواهُ مِنَ الثِيابِ، والدِثارُ: الثَوْبُ يَكونُ فوقَ الشِعارِ، والمُرادُ أَنَّ الأَنْصارَ هُمُ الخاصَّةُ، والنَّاسُ العامَّةُ. هذا وقد اكتفينا بهذا القَدْرِ من الأحاديث الشريفةِ التي خصَّ رسولُ اللهِ ـ صلّى اللهُ عليه وسلَّم، وفاءً لهم وتَنْويهاً بِفَضْلِهم.
قولُهُ: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} أَيْ: وَالتَّابِعِونَ للسابَقينَ الأَوَّلين اللاحقين بالفَريقين بِإِحْسَانٍ، والإحسانُ كُلُّ خَصْلَةٍ حَسَنَةٍ. أوْ الذين اتَّبَعوهم بالإيمانِ والطاعةِ إلى يَوْمِ القيامَةِ. وقالَ عامِرُ بْنُ شَراحيلَ الشَعْبيُّ: "السابقون الأوَّلون" مَنْ أَدْرَكَ بَيْعَةَ الرِضْوانِ، "والذينَ اتَّبَعوهم بإحْسانٍ" سائرُ الصَحابَةِ.
وقدْ كانَتْ بَيْعَةُ العَقَبَةِ الأُولى في السَنَةِ الحادِيَة عَشْرَةَ مِنَ البِعْثَةِ، وكانَ عددُ المُبايعين فيها سَبْعَةَ أَفْرادٍ. أَمَّا بَيْعَةُ العَقَبَةِ الثانِيَةِ فَكانَتْ في السَنَةِ الثانِيَةَ عَشْرَةَ مِنَ البِعْثَةِ، وكان عددُ المبايعين فيها سَبْعينَ رَجُلاً وامْرَأَتين.
ويَدْخُلُ في هذا اللفظِ التابعونَ وسائرُ الأَمَّةِ، لكنْ شَريطَةَ الإحسانِ، وقدْ لَزِمَ هذا الاسْمُ الطَبَقَةَ التي رَأَتْ مَنْ رَأَى النَبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ولو قالَ قائلٌ إنَّ السابقين الأَوَّلينَ هُمْ جميعُ مَنْ هاجَرَ إلى أَنِ انْقَطَعَتِ الهِجْرَةُ، لكانَ قولاً يقْتَضيهِ اللَّفْظُ وتكونُ "مِن" لِبَيانِ الجِنْسِ.
فقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ، عَنْ عبدِ الرَحمنِ ابْنِ أَبي لَيْلى ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: كانَ الناسُ على ثلاثِ مَنازِلَ: المهاجِرونَ الأَوَّلونَ، والذين اتَّبَعوهُم بإحْسانٍ، والذين جاؤوا مِنْ بَعْدِهم يَقولون: رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ولإِخْوانِنا الذين سَبَقونا بالإِيمانِ. فأَحْسَنُ ما يَكونَ أَنْ يَكونَ بهذِهِ المَنْزِلَةِ.
قوله: {رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} بيانٌ لِسُمُوِّ مَنْزِلَتِهم، وارْتِفاعِ مَكانَتِهم. فيُخْبِرُ تَعَالَى بِرِضَاهُ عَنْهُمْ بِمَا أَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعْمَةٍ فِي الدُّنْيَا، مِنْ عِزٍّ وَنَصْرٍ وَمَغْنَمٍ وَهُدًى، أيْ: رَضِي اللهُ عَنْهم في إيمانهم وإخلاصِهم، فتَقَبَّلَ أَعْمالَهم، ورَفَعَ دَرَجاتِهم وتَجاوَزَ عَنْ زَلاَّتِهم، ورَضُوا عَنْهُ، بما أَسْبَغَهُ عَليهم مِنْ نِعَمٍ جَليلةٍ، وبما نالَهُم مِنْهُ سُبْحانَهُ، مِنْ هِدايةٍ وثَوابٍ.
أَخرَجَ أَبو الشَيْخ، وابْنُ عَساكِر، عَنْ أَبي صَخْرٍ حميدٍ بْنِ زِيادٍ قال: قُلْتُ لمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القرَظِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَخْبِرْني عَنْ أَصْحابِ رَسُولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وإنَّما أُريدُ الفِتَنَ. فقالَ: إنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لِجَميعِ أَصْحابِ النَبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمَ، وَأَوْجَبَ لَهُمُ الجَنَّةَ في كِتابِهِ، مُحْسِنِهم ومُسيئِهم، قُلْتُ لَهُ: وفي أَيِّ مَوْضِعٍ أَوْجَبَ اللهُ لهمُ الجَنَّةَ في كِتابهِ؟ قالَ: أَلا تَقْرَأُ "والسابقون الأولون ..." الآية. أَوْجَبَ لِجَميعِ أَصْحابِ النَبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، الجَنَّةَ والرضْوانَ، وشَرَطَ على التَابعينَ شَرْطاً لم يَشْتَرِطْهُ فيهم. قُلْتُ: وما اشْتَرَطَ عَلَيْهِم؟ قال: اشْتَرَطَ عَلَيهم أَنْ يَتَّبعوهم بإحسانٍ. يَقولُ: يَقْتَدونَ بهم في أَعْمالهِمُ الحَسَنَةِ، ولا يَقْتَدونَ بهم في غَيرِ ذَلِكَ. قالَ أَبو صَخْرٍ: لَكَأنِّي لمْ أَقْرَأْها قَبلَ ذَلِكَ، وما عَرَفْتُ تَفْسيرَها حتى قَرَأَها عَليَّ محمَّدُ بْنُ كَعْبٍ. وأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ مِنْ طَريقِ الأُوزاعيِّ قال: حدَّثني يحيى بْنُ أَبي كُثيِّرٍ، والقاسِمُ، ومَكْحولٌ، وعَبْدَةُ بْنُ أَبي لُبابَةَ، وحسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ. أَنَّهم سَمِعوا جَماعَةً مِنْ أَصْحابِ النَبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ، يَقولونَ: لمّا أُنْزِلَتْ هَذْهِ الآيةُ: "والسابقون الأولون" إلى قولِهِ: "ورضوا عنه". قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((هَذا لأُمَّتي كُلِّهم، ولَيْسَ بَعْدَ الرِّضا سَخَطٌ)).
قولُهُ: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} وَقد أَعَدَّ لَهُمْ ربُّهم ـ سبحانَهُ وتعالى، فِي الدارِ الآخِرَةِ، جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَوَانِبِهَا، وَهُمْ مُخَلَّدُونَ فِيهَا لا يخرجونَ منها، ولا ينقضي نعيمهم فيها أَبَداً، وهم دائماً في جديدٍ من نِعَمِ اللهِ تعالى ونعيمهِ، جعلنا اللهُ منهم وأكرمنا معهم.
قولُه: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وَالفَوْزُ الذِي فَازَ بِهِ هَؤُلاَءِ الكِرامُ البَرَرَةُ هُوَ أَعْظَمُ الفَوْزِ، الذي يتمناه ويسعى إليه كلُّ عاقلٍ.
قولُهُ تُعالى: {السابقون} الأَظْهَرُ فيه أَنَّهُ رَفْعٌ عَلى الابْتِداءِ، وخبرُه الأَظهرُ فيه أَنَّهُ جملةُ الدعاءِ: "رَضِيَ اللهُ عَنْهم". أو "الأوَّلون" و يكونُ المَعنى: والسابقونَ بالهجرةِ هُمُ الأَوَّلونَ من أهلِ هذه المِلَّةِ، أَوْ السابقونَ إلى الجنَّةِ الأَوّلونَ مِنْ أَهْلِ الهِجْرِةِ. أوْ يكون قولُه: "مِنَ المهاجرين والأنصار" هو الخبرَ وعليه فالمعنى فيه: الإِعُلامُ بِأَنَّ السَّابقين مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ المُهاجرينَ والأَنْصارِ، وفي الوَجْهَينِ الأَخيريْن تَكَلُّفٌ. وقيل: "السابقون" عطفُ نَسَقٍ على قولِهِ في الآيةِ التي قبلَها: {مَنْ يُؤْمِنُ بالله} أَيْ: ومِنْهمُ السابِقونَ. وفيه بُعْدٌ.
قولُهُ: {بِإِحْسَانٍ} مُتَعَلِّقٌ بمَحْذوفٍ؛ لأنَّهُ حالٌ مِنْ فاعِلِ "اتَّبعوهم".
والجمهورُ على جَرِّ "الأنصارِ" نَسَقاً على المُهاجرين. يَعْني أَنَّ السابقين مِنْ هذيْنِ الجِنْسَين هم المقربون. وقَرَأَ جماعةٌ كَثيرةٌ أَجِلاَّءُ "والأنصارُ" بالرفعِ. وهُمْ: عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، وقَتادَةُ، والحَسَنُ، وسَلام، وسعيدُ بْنُ أَبي سَعيدٍ، وعِيسى الكُوفيُّ، وطَلْحةُ، ويَعْقوبٌ، وفي قراءتهم وجهانِ أَوَّلُهُما: أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، والخبرُ قولُهُ: "رَضِيَ اللهُ عنهم". وثانيهما: عَطْفٌ على "السابقون". وقدْ تَقَدَّمَ ما فيِهِ من إعرابٍ فيُعرَبُ كإعرابه.
وكان عمرُ بْنُ الخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَرى أَنَّ الواوَ مِنْ قولِهِ تعالى: "والذين اتَّبعوهم" ساقطةٌ، ويَقولُ: إنَّ الموْصولَ صفةٌ لِمَنْ قَبْلَهُ، حتى قالَ لَهُ زَيْدُ بْنُ ثابتٍ إنَّها بالواوِ فَقالَ: ائْتُوني بِأُبَيٍّ. فأتَوْهُ بِهِ، فقالَ لَهُ أُبيٌّ: تَصْدِيقُ ذَلِكَ في كتابِ اللهِ في أَوَّلِ سورةِ الجُمُعَةِ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} الآية: 3. وأَوْسَطِ سورةِ الحَشْرِ: {والذين جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} الآية: 10. وآخِرِ سُورةِ الأَنْفالِ: {والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ} الآية: 75. ورُوِيَ أَنَّهُ سمِعَ رَجُلاً يَقْرَؤُها بالواوِ فقالَ: مَنْ أَقْرَأَكَ؟ قالَ: أُبَيٌّ. فدَعاهُ فَقَالَ أبيٌّ: أَقْرَأنِيهُ رسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وإنَّك لَتبيعُ القَرَظَ بالبَقيعِ. قالَ: صَدَقْتَ وإنْ شِئْتَ قُلْ: شَهِدْنا وغِبْتُمْ، ونَصَرْنا وخَذَلْتم، وآوَيْنا وطَرَدْتمْ. ومِنْ ثَمَّ قالَ عُمَرُ: لقد كُنْتُ أَرانا رُفِعْنا رَفْعةً لا يَبْلُغُها أَحَدٌ بَعْدنا. روى ذلك عن عَمْرو بْنِ عامِرٍ الأَنْصارِيِّ كلٌّ من: أَبي عُبَيْدٍ، وسَنيدٌ، وابْنُ جَريرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ مِرْدُوُيْهِ، وأَخْرَجَهُ ابْنُ جَريرٍ، وأَبو الشَيْخِ، عَنْ محَمِّدِ بْنِ كَعْبٍ القرَظِيِّ. وأَخْرَجه أَبو الشَيْخِ عَنْ أَبي أُسامَةَ ومحمَّدِ بْنِ إبراهيمٍ التَميميِّ بمِثْلِهِ.
وقَرَأَ الجُمْهورُ: "تحتَها" بِدونِ "مِنْ"، ولم تُرْسَمْ في مصاحفهم. وقرَأَ ابْنُ كَثيرٍ: {تجْري مِنْ تحتِها} بِ "مِنْ" الجارَّة، وهي مَرْسومةٌ في مَصاحِفِ مَكَّةَ. وأَكْثَرُ ما جاءَ القُرآنُ الكريمُ مِوافِقاً لِقِراءَةِ ابْنِ كَثيرٍ هنا: "تجري مِنْ تحتِها" في غَيْرِ مَوْضِعٍ.