فيض العليم ... سورة التوبة، الآية: 97
الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى
رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
(97)
قولُهُ ـ تبارت أسماؤه: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ فِي الأَعْرَابِ، كُفّاراً وَمُنَافِقِينَ، وَأَنَّ الكُفْرَ وَالنِّفَاقَ فِيهِمْ أَشَدُّ وَأَغْلَظُ مِمَّا عِنْدَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الحواضِرِ والمُدُنِ، نَظَراً لِتوحُّشهم وجَفَاءِ طِبَاعِهِمْ، وَغِلْطَةِ قُلُوبِهِمْ وقساوتها، وَلِبُعْدِهِمْ عَنِ الحِكْمَةِ، ولِعَدَمِ مخالَطَتِهم لأَهْلِ العِلْمِ، ولقلَّةِ اسْتِماعِهم للِكتابِ والسُنَّةِ، فهم أَشْبَهُ بالبَهائم. وفي الحديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، عَنِ النَبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، قالَ: ((مَنْ سَكَنَ البادِيَةَ جَفا، ومَنِ اتَّبَعَ الصَيْدَ غَفِلَ، ومَنْ أَتى السُلْطانَ افْتُتنَ)). أخرجه أحمدُ، وأخرجهُ أَبو داودَ، والنَسائيُّ في الصحيحِ، والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ، مِنْ طُرُقٍ، عنهُ وعَن سُفيان الثَوْرِيِّ، بِهِ. وأخرجهُ والتِرْمِذِيُّ، وقالَ حَسَنٌ صحيحٌ غريبٌ. وفي روايةٍ أُخرى: مِنْ حَديثِ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رضي اللهُ عنه: ((ومَنْ لَزِمَ السُلْطانَ افْتُتنَ، وما ازْدادَ عَبْدٌ مِنَ السُلْطانِ دُنُوّاً إِلاَّ ازْداَد مِنَ اللهِ بُعْداً)). جامعُ الأُصولِ في أَحاديثِ الرسولِ لابنِ الأثير: (11/788). وجاءَ في الحديثِ الشَريفِ: ((ثلاثةٌ مِنَ الكَبائِرَ)) وعَدَّ مِنْها ((التَعَرُّبُ بَعْدَ الهِجْرَةِ)) وهُو أَنْ يَعودَ إلى الباديَةِ ويُقيمَ مَعَ الأَعْرابِ بَعدَ أَنْ كانَ مُهاجِراً، وكانَ مَنْ رَجَعَ بعدَ الهِجْرَةِ إلى مَوْضِعِهِ مِنْ غَيرِ عُذْرٍ يَعُدُّونَهُ كالمُرْتَدِّ، وكانَ ذلكَ لِغَلَبَةِ الشَرِّ في أَهْلِ البادِيَةِ، والطَبْعُ سَرَّاقٌ، أَوْ للبُعْدِ عَنْ مَجالِسِ العِلْمِ وأَهْلِ الخَيرِ وإنَّهُ لَيُفْضي إلى شَرٍّ كثيرٍ، فقد أخرجَ ابنُ أبي حاتمٍ والبيهقيُّ في السُنَنِ الكُبرى له وهذا نَصُّه، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ ابْنُ مَسعودٍ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ: آكِلُ الرِّبَا، وَمُؤْكِلُهُ، وَشَاهِدَاهُ، إِذَا عَلِمَاهُ، وَالْوَاشِمَةُ، وَالْمُؤْتَشِمَةُ، وَلاَوِي الصَّدَقَةِ، وَالْمُرْتَدُّ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ، مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسلَّم. وَرَوَاهُ الثَّوْرِىُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ نُمَيْرٍ عَنهُ كذلك. ولذلك قالُ أميرُ المؤمنين عُثْمانُ بْنُ عَفَّان لأبي ذَرٍّ ـ رضي اللهُ عنهما، لما عَزَمَ أبو ذرٍّ على سٌكْنى الربْذةِ: تَعَهَّدِ المَدينَةَ كَيْلا تَرْتَدَّ أَعْرابِيّاً. وممَّا يَدُلُّ على جَفاءِ طَبْعِ هَؤلاءِ الأَعْرابِ وجَهْلِهم، أَنَّ ذَا الخُوَيْصِرَةَِ التَميمِيِّ، وكانَ يَدَّعي الإسلامَ، لمَّا رَأَى النَبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أَعْطَى الأقْرَعَ بْنَ حابِسٍ، ومَنْ مَعَهُ مِنْ صَناديدِ العَرَبِ مِنْ ذَهَبٍ قَسَمَهُ، قالَ ذُو الخُوَيْصِرَةِ مُواجِهاً النَبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، (اعْدِلْ) مَعَ ما ينطوي عليه ذلك من سوء أَدَبٍ، فقالَ لَهْ النَبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((ويحَكَ ومَنْ يَعْدِلُ إنْ لمْ أَعْدِلْ)). وقد تقدَّمَ، كما تقدمَ قريباً مناداتهم لَهُ مِنْ وراءِ حُجْرَتِهِ الشَريفَةِ لِيَخْرُجَ إليهم وقتَ قَيْلُولَتِهِ ـ صلى اللهُ عليه وسَلَّمَ. وهذا مِنْ بابِ وَصْفِ الجِنْسِ بِوَصْفِ بَعْضِ أَفْرادِهِ، كما في قَوْلِهِ تَعالى في سورة الإسراء: {وَكَانَ الإنسان كَفُورًا} الآية: 67. إذْ لَيْسَ كُلُّهُمْ كَما ذُكِرَ. فقد أَخْرَجَ أَبو الشَيْخِ عَنِ ابْنِ سِيرينَ ـ رضي اللهُ عنه، قال: إذا تَلا أَحَدُكُم هَذِهِ الآية: "الأعراب أشد كفراً ونفاقاً" فَلْيَتْلُ الآيَةَ الأُخْرى ولا يَسْكُتْ: {وَمِنَ الأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ} الآية: 99 من هذه السورة.
قولُهُ: {وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ} لِذَلِكَ فَحَرِيٌّ بِهِمْ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ، وَلاَ أَحْكَامَ الإِسْلاَمِ، لأَنَّهُمْ لاَ يَجِدُونَ مَنْ يُعَلِّمُهُمْ إِيَّاهَا، و "حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ" أَيْ: فَرائضُ الشَرْعِ. وقِيلَ: حُجَجُ اللهِ في الرُبوبِيَّةِ، وبِعْثةِ الرُسُلِ، والحُدودُ: المقاديرُ والفَوَاصِلُ بَيْنَ الأَشْياءِ.
قولُهُ: {وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وَاللهُ عَلِيمٌ يَعْلَمُ كُلَّ واحِدٍ مِنْ أَهْلِ الوَبَرِ والمَدَرِ سكانِ الباديةِ والحَضَرِ، ويعلمُ بِمَا يُصْلِحُ النَّاسَ، حَكِيمٌ فِي تَدْبِيرِهِ أُمورَهم وشؤونَهم، يختارُ بِحِكْمَتِهِ البالِغَةِ لِكُلِّ واحِدٍ ما يَليقُ بِهِ. و "حَكِيمٌ" فيِما يُصيبُ بِهِ مُسيئَهُم ومُحْسِنَهم مِنَ العِقابِ والثَوابِ.
إذاً فقد دَلَّتْ هذه الآيةُ المباركةُ على نَقْصِ الأعرابِ وانحَطاطِهم عَنْ المَرْتَبَةِ الكامِلَةِ لِسِواهُمْ، فتَرَتَّبَ على ذَلِكَ ثلاثةُ أَحْكامٍ هيَ:
أولاً: لا حَقَّ لهم في الفَيْءِ والغَنيمَةِ؛ فقد رَوَى بُرَيْدَةُ عَنْ أَبيهِ ـ رضَيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّ النَبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، كانَ إِذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ أَوْ جَيْشٍ أَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا وَقَالَ: ((اغْزُوا بِسْمِ اللهِ وفي سَبيلِ اللهِ، وقاتِلوا مَنْ كَفَرَ باللهِ، اغْزُوا لا تَغُلُّوا ولا تَغْدِرُوا ولا تمَثِّلُوا ولا تَقْتُلُوا وَلِيدًا وإذا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشْرِكينَ فَادْعُهُمْ إلى ثلاثِ خِصالِ، فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عنهم، ثمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسْلامِ فإنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُم، وكُفَّ عَنْهم، ثمَّ ادْعُهُمْ إلى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إلى دارِ المُهاجرين، وأَخْبِرْهُم إنْ فَعَلوا ذلكَ فَلَهم مَا للمُهاجِرينَ وعَلَيْهم ما عَلى المُهاجِرينَ، فإنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْها، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يجري عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللهِ الذي يَجْرِي عَلى المُؤْمِنينَ ولا يَكونُ لهم في الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شيْءٌ، إلاَّ أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ المُسْلِمين، فإنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فإنْ هٌمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وكُفَّ عَنْهم، فإنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَقَاتِلْهُمْ، وإذا حاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ، وأَرادوكَ أنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، فلا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ ولا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ، ولكنْ اجْعَلْ لهم ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ، فإنَّكم إنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ، وإذا حاصَرْتَ أَهْلَ الحِصْنِ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ، فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِى أَتُصِيبُ حُكْمَ اللهِ فِيهِمْ أَمْ لاَ)) أخرجه: أحمد، ومُسلم، وأبو داود، والتِرْمِذِيُّ، والنَسائي، وابْنُ ماجَه.
ثانياً: إِسْقاطُ شَهادَةِ أَهْلِ البادِيَةِ عَنِ الحاضِرَةِ؛ لما في ذَلِكَ مِنْ تحقُّقِ التُهْمَةِ. وأَجازَها أَبو حَنِيفَةَ، قالَ: لأنَّها لا تُراعي كُلَّ تُهْمَةٍ، والمُسْلِمونَ كُلُّهم عِنْدَهُ على العَدالَةِ. وأَجازَها الشافعِيُّ إذا كانَ عَدْلاً مَرْضِيّاً.
ثالثاً: أَنَّ إمامَتَهمْ بِأَهْلِ الحاضِرَةِ ممْنوعَةٌ لجَهْلِهم بالسُنَّةِ وتَرْكِهِمُ الجُمْعَةَ. وقالَ مالِك: لا يَؤُمُّ وإنْ كانَ أَقْرَأَهم. وقالَ سُفيانُ الثَوْرِيُّ والشافِعِيُّ وإسْحاقَ وأَصْحابُ الرَأْيِ: الصَلاةُ خَلْفَ الأَعْرابيِّ جائزَةٌ. واخْتَارَهُ ابْنُ المُنْذِرِ إذا أَقامَ حُدودَ الصَلاةِ.
وأَخْرَجَ أَبو الشَيْخِ عَنِ الكَلْبيِّ ـ رضي اللهُ عنه، وفي سَبَبِ نزولِ هذِهِ الآية المباركةِ: أَنَّها نَزَلَتْ في بني أَسَدٍ وغَطَفانٍ. لكنَّ العِبْرَةَ بِعُمومِ اللَّفْظِ لا بخُصوصِ السَبَبِ.
قولُهُ تَعالى: {الأعرابُ} قالَ سِيبَوَيْهِ: هي صِيغَةُ جمْعٍ، ولكنْ لَيْسَتْ جمْعاً لِ "عَرَبٍ". وذلِكَ لِئَلاَّ يَلْزَمَ أَنْ يَكونَ الجَمْعُ أَخَصَّ مِنَ الوَاحِدِ، فإنَّ العَرَبَ هذا الجيلُ الخاصُّ سَواءً سَكَنَ البَوادِيَ أَمْ سَكَنَ القُرى، وأَمَّا الأَعْرابُ فلا يُطْلَقُ إلى على مَنْ يَسْكُنُ البَواديَ فَقَط. ويُقالُ: رَجُلٌ أَعْرابيٌّ، إذا كَانَ بَدوياً. سواءً كان عربيّاً أم لا، وقَدْ تقدَّمَ في ذلك تفصيلٌ عِنْدَ قولِهِ تَعالى في أَوَّلِ سورةِ الفاتِحَةِ: {رَبِّ العالمين} ولهذا الفرقِ نُسِبَ إلى الأَعْرابِ على لَفْظِهِ فَقِيلَ: أَعْرابيٌّ. ويُجْمَعَ عَلى أَعاريبَ. وتَعَرَّبَ أَيْ: تَشَبَّهَ بالعَرَبِ. وتَعَرَّبَ بَعْدَ هِجْرَتِهِ: أي: صارَ أَعْرابيّاً. والعَرَبُ المُسْتَعْرِبَةُ هُمُ الذينَ لَيْسُوا بِخُلَّصٍ، وكذلِكَ المُتَعَرِّبَةُ. وقيلَ إنَّ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ العَرَبِيَّةَ هو يَعْرُبُ بْنُ قَحْطان، وهُوَ أَبو اليَمَنِ كُلَّهم. والعَرَبُ والعُرْبُ واحِدٌ؛ مثلُ العَجَمِ والعُجْمِ. والعُرَيْبُ تَصْغيرُ العَرَبِ؛ قال أَبو الهِنْديِّ واسمُهُ عَبْدُ المُؤْمِنِ ابْنِ عَبْدِ القُدُّوسِ: ومَكْنُ الضِّبابِ طَعامُ العُرَيْبِ ............... ولا تشْتَهِيه نفُوسُ العَجَمْ
وإنَّما صَغَّرَهُمْ تَعْظيماً؛ ومَكْنُ الضِّبابِ: بَيْضُ الضَّبَّةِ والجَرادَةِ ونحوِها الذي تُخفيهِ في بُطونِها.
وقوْلُهُ: {أَجْدَرُ} أَيْ: أحقُّ وأَوْلى. يُقالُ: هُوَ جَديرٌ وأَجْدَرُ، وحَقيقٌ وأَحَقُّ، وقَمينٌ، وأَوْلى، وخَليقٌ بكذا، كلُّهُ بمعنى واحِدٍ.
قالَ اللَّيثُ بْنُ سَعْدٍ: جَدَر يَجْدُرُ جَدارةً فَهُوَ جَديرٌ، ويؤنَّث ويثنَّى ويُجمعُ قالَ الشاعِرُ زُهيرُ ابنُ أبي سُلمى:
بِخَيْلٍ عليها جِنَّةٌ عَبْقَرِيَّةٌ ............ جديرون يوماً أن يَنَالوا وَيَسْتَعْلوا
وقد نَبَّهَ الراغِبُ الأصفهانيُّ على أَصلِ اشْتِقاقِ هذِه المادةِ، وأنها من الجِدار أيْ الحائط، فقال: والجَديرُ: المُنْتَهَى لانتهاءِ الأَمْرِ إلَيْهِ انْتِهاءَ الشيءِ إلى الجِدار. والذي يَظْهَرُ أَنَّ اشْتِقاقَه مِنَ الجَدْرِ وهُوَ أَصْلُ الشَجَرَةِ، فكأَنَّه ثابتٌ كَثُبوتِ الجَدْرْ في قولِكَ: جَديرٌ بِكَذا.
وقولُه: {كُفْرًا وَنِفَاقًا} مَنْصوبانِ على التَمْيِيزِ لِبيَانِ الإبهامِ الذي في وَصْفِ "أَشَدُّ". فقد سَلَكَ مَسْلَكَ الإجمالِ ثمَّ التَفْصيلِ، لِيَتَمَكَّنَ المَعنى أَكْمَلَ تَمَكُّنٍ.
قولُهُ: {أَلاَّ يَعْلَمُواْ} أَيْ: جَديرون بِأَنْ لا يَعْلموا، فحَذَفَ حَرْفَ الجَرِّ، فجَرى الخِلافُ المَشْهورُ بَيْنَ الخَليلِ بْنِ أحمدٍ الفراهيدِيِّ والكِسائيِّ مَعَ سِيبَوَيْهِ والفَرَّاءِ. فَ "أَلاَّ يَعْلَمُوا" أن: في مَوْضِعِ نَصْبٍ بنزعِ الخافضِ، أي: حذْفِ الباءِ؛ تَقُولُ: أَنْتَ جَديرٌ بِأَنْ تَفْعَلَ وأَنْ تَفْعَلَ؛ فإذا حَذَفْتَ الباءَ لمْ يَصْلُحْ إلاَّ بـ "أن"، وإنْ أَتَيْتَ بالباءِ صَلُحَ بـ "أن" وبغَيرِهِا؛ فتَقولُ: أَنْتَ جَديرٌ أَنْ تَقومَ، وجَديرٌ بالقيامِ. ولو قلتَ: أَنْتَ جَديرُ القِيامِ لم يصِحَّ. وإنَّما صَلُحَ مَعَ "أن" لأنَّ "أَنْ" تَدُلُّ على الاسْتِقْبالِ، فَكأنَّها عِوَضٌ مِنَ المحذوفِ.