وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ
(92)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} أَيْ: وليس على الذينَ إذا ما أتوك لتحملهم مِنْ مُؤاخَذةٍ، فهوَ عطفٌ على ما تقدَّمَ في الآية السابقة. ويُطلَقُ الحَملُ على إعْطاءِ ما يُحْمَلُ عَلَيْهِ، أَي: إذا أَتوكَ لِتُعطيَهم الحَمُولَةَ، مِنْ إبِلٍ وغيرها، أَيْ: ما يَرْكَبونَهُ، ويحمِلونَ عَليهِ سِلاحَهُم ومَتاعَهُم ومُؤَنَهم.
قولُه: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} أَيْ: رَجَعوا باكينَ حُزْناً وأَسَفاً لأنهم لم يجدوا ما يُعينُهم على الجِهادِ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فمعنى التَوَلّي هنا الرُجوعُ. وقدْ تَقَدَّمَ شرح هذه المفردةِ عندَ قولِهِ تَعالى في سورة البقرة: {ما ولاهم عن قبلتهم} الآية: 142. وقولِهِ: {وإذا تولى سعى في الأَرْضِ} الآية: 205.
والفيضُ والفَيَضانُ: خُروجُ الماءِ ونحوِهِ مِنْ قرارِهِ ووِعائِهِ، ويُسْنَدُ إلى المائعِ حقيقةً. وكثيراً ما يُسْنَدُ إلى وِعاءِ المائعِ، فيُقالُ: فاضَ الوادي، وفاضَ الإناءُ. ومِنْهُ فاضَتْ العَينُ دَمْعاً وهُوَ أَبْلَغُ مِنْ فاضَ دَمْعُها، لأنَّ العينَ جُعِلَتْ كأَنَّها كلَّها دَمْعٌ فائضٌ، فقولُهُ: "تَفيضُ مِنَ الدَمْعِ" جرى على هذا الأُسلوبِ.
وفي قولِهِ: "وأعينهم تفيض من الدمع" ما يُسْتَدَلُّ بِهِ على قَرائنِ الأحوالِ. ثمَّ منها ما يُفيدُ العلمَ الضَرورِيَّ، ومنْها ما يَحْتَمِلُ التَرديدَ.
فالأوَّلُ كَمَنْ يَمُرُّ على دارٍ قَدْ عَلا فيها النَعْيُ، وخُمِشَتِ الخُدودُ، وحُلِقَ شعرُ الرُؤوسِ، وعلَتِ الأصواتُ بالتفجُّعِ والنَحيبِ، وشُقَّتِ الجُيوبُ ونادوا على صاحِبِ الدارِ بالثُبورِ، فيَعْلَمُ أَنَّهُ قدْ ماتَ.
وأَمَّا الثاني فَكَدُموعِ الأيتامِ على أَبوابِ الحُكَّامِ، قالَ اللهُ تعالى في سورة يوسُف مخْبراً عَنْ إخوةِ يُوسُفَ ـ عليهِ السلامُ: {وجاؤوا أَباهم عِشاءً يَبْكون} الآية: 16. وهُمُ الكاذبون، فقالَ تَعالى بعد ذلك مخبراً عَنْهم: {وجاؤوا على قميصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} الآية: 18. ومعَ هذا فإنَّها قرائنُ يُسْتَدَلُّ بها فتُبنى الشهادات فيها على ظَواهِرِ الأحوالِ وغالِبِها.
قال المتنبي:
إذا اشتبكت دموع في خدود ................ تبين من بكى ممن تباكى
وجمهورُ العلماءِ على أَنَّ الغزوَ غيرُ واجبٍ على مَنْ لا يجدُ ما يُنفِقُهُ في غَزْوِهِ. وقال علماءُ المالكيَّةِ: إذا كانت عادتُه المسألَةُ لَزِمَهُ كالحَجِّ، وخرجَ على العادةِ لأنَّ حالَهُ إذا لم تَتَغيَّرْ يِتَوَجَّه الفَرْضُ عَلَيْهِ كَتَوَجُّهِهِ على الواجِدِ. واللهُ أَعْلَمُ.
وقد نَزَلَتْ هذه الآيةُ في نَفَرٍ مِنَ الأَنْصارِ، قيل عددُهم سَبْعَةٌ، اخْتُلِفَ في أسمائهم، وقيلَ: فيهم مِنْ غَيرِ الأَنْصارِ، وقد لُقِّبوا بالبَكَّائينَ لأنّهم بَكَوْا حزناً على حِرْمانِهم مِنَ الجِهادِ لمّا لمْ يَجِدوا عَنْدَ رَسولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، ما يَحْمِلونَ عَلَيْهِ. وقيلَ: نَزَلَتْ في أَبي مُوسى الأَشعري ورَهْطٍ مِنَ الأَشْعَريّينَ أَتَوا رَسولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهِ عَليْهِ وسلَّمِ، في غَزْوَةِ تَبوكٍ يَسْتَحْمِلونَهُ فلم يَجِدْ لهمْ حَمُولةً، وصادَفوا ساعَةَ غَضَبٍ مِنَ النَبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمَ، فحَلَفَ أَنْ لا يَحْمِلَهم، ثمَّ جاءَهُ نَهْبُ إبِلٍ فدَعاهُم وحمَلَهم وقالوا: اسْتَغْفَلْنا رَسولَ اللهِ يَمِينَه لا نُفْلِحُ أَبَداً، فرَجَعوا وأَخبروهُ فقالَ: ((ما أَنَا حمَلْتُكم ولكنَّ اللهَ حمَلَكم، وإنّي واللهِ لا أَحْلِفُ على يمينٍ فأَرى غيرَها خَيراً مِنْها إلاَّ كَفَّرْتُ عَنْ يميني وفعلتُ الذي هُوَ خيرٌ)). وأخرجه الشيخانِ في الصحيح، والظاهرُ أَنَّ هَؤلاءِ غيرُ المَعْنِيّينَ في هذِهِ الآيةِ لأَنَّ الأَشْعَريّين قد حمَلَهُمُ النَبيُّ ـ صلى اللهُ عليه وسَلّمَ، وعَنْ مجاهد أنّهم بَنو مُقَرِّنٍ مِنْ مُزَيْنَةَ، وهُمُ الذينَ قيلَ: إنَّهُ نَزَلَ فيهم، ورُويَ أَنَّ الآيةَ نَزَلَتْ في العِرْباضِ بْنِ سارَيَةَ. وقيلَ: إنّها نَزَلَتْ في عائذِ بْنِ عَمْرٍو. وجمهورُ المُفَسِّرين على أنَّها نزلت في بني مقرِّنٍ وكانوا سَبْعَةً كلُّهم إِخْوَةٌ، بينهم النعمانُ ومَعْقِلٌ وعَقيلٌ، وليسَ في الصَحابَةِ سَبْعَةٌ إخوةٌ غيرُهُم، ولم يُشارِكْهُم في هذه المَكْرُمَةِ غيرُهم، فيما ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ. وقيلَ: إنَّهُم شهدوا الخندق كلهم.
وقال القُشَيرِيُّ هُمْ: مَعْقِلُ بْنُ يَسارٍ، وصَخْرُ بْنُ الخنَساءِ، وعَبْدُ اللهِ ابْنُ كَعْبٍ الأنْصارِيُّ، وسالمُ بْنُ عُميرٍ، وثَعْلَبَةُ بْنُ غَنَمَةَ، وعَبْدُ اللهِ ابْنُ مُغَفَّلٍ، وآخَرُ. قالوا: يا نبيَّ اللهِ، قَدْ نَدَبْتَنا للخُروجِ مَعَكَ، فاحمِلْنا على الخِفافِ المَرفوعَةِ والنِعالِ المَخْصوفَةِ نَغْزُ مَعَكَ. فقالَ: "لا أَجِدُ ما أحملكم عليه" فَتَوَلَّوْا وهُمْ يَبْكونَ.
وأَخرجَ ابْنُ جَريرٍ، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، الناسَ أَنْ يَنْبَعِثوا غازين، فجاءتْ عِصابَةٌ مِنْ أَصْحابِهِ فيهم عَبْدُ اللهِ ابْنُ مَعْقِلٍ المُزَنيُّ، فقالوا: يا رَسُولَ اللهِ احْمِلْنا؟ فقال: ((واللهِ ما أَجِدُ ما أَحْمِلُكم عَلَيْه)), فتَوَلَّوْا ولهم بُكاءٌ، وعَزَّ عليهم أَنْ يُحْبَسُوا عَنِ الجِهادِ، ولا يَجِدونَ نَفَقَةً ولا مَحْمَلاً. فأَنْزَلَ اللهُ عُذْرَهم: "ولا على الذين إذا ما أتوك ..." الآية.
وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ محمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قالَ: جاءَ ناسٌ مِنْ أَصحابِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، يَسْتَحْمِلونَهُ فقال: "لا أَجِدُ ما أَحمِلُكُمْ عَلَيْهِ"، فأَنْزَلَ اللهُ: "ولا على الذين إذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهم ..." الآية. قال: وهُمْ سَبْعَةُ نَفَرٍ مِنْ بَني عمرَ بْنِ عَوْفِ: سالمُ بْنُ عُمَيرٍ، ومِنْ بَني واقفٍ: هَرَمِيُّ بِنْ عَمْرٍو، ومِنْ بَني مازِنِ ابْنِ النَجَّارِ: عبدُ الرَحمنِ ابْنُ كَعْبٍ ويُكنّى: أَبا لَيْلى، ومِنْ بَني المُعَلَّى: سلمانُ بْنُ صَخْرٍ، ومِنْ بَني حارِثَةَ: عبدُ الرَحمنِ ابْنُ زَيْدٍ، ومِنْ بَني سَلَمَةَ: عَمْرُو بْنُ غَنَمَةَ، وعبدُ اللهِ بْنُ عَمرٍو المُزَنيُّ.
وأَخْرَجَ ابْنُ إسحقٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وأَبو الشَيْخِ، عَنِ الزُهْرِيِّ، ويَزيدِ بْنِ يَسارٍ، وعبدِ اللهِ بْنِ أَبي بَكْرٍ، وعاصِمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ قَتادَةَ وغيرِهِم، أنَّ رِجالاً مِنَ المُسلِمين أَتَوْا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وهُمُ البَكاؤونَ، وهُمْ سَبْعَةُ نَفَرٍ مِنَ الأَنْصارِ وغيرِهم. مِنْ بَني عَمْرِو بْنِ عَوفٍ: سالمُ بْنُ عُميرٍ، ومِنْ بَني حارثَةَ: عُتْبَةُ بْنُ زَيْدٍ، ومِنْ بَني مازِنِ بْنِ النَجّارِ: أَبو لَيلى عبدُ الرَحمنِ بْنُ كَعْبٍ، ومِنْ بَني سَلَمَةَ: عَمْرُو بْنُ عَمْرِو بْنِ جَهامِ بْنِ الجَموحِ، ومِنْ بَني واقفٍ: هَرَمِيُّ بْنُ عَمْرٍو، ومِنْ بِني مُزَيْنَةَ: عبدُ اللهِ بْنُ مَعْقِلٍ، ومِنْ بَني فِزارَةَ: عِرباضُ بْنُ سارِيَةَ، فاسْتَحْمَلوا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وكانوا أَهْلَ حاجةٍ. فقال: "لا أَجِدُ ما أَحمْلُكم عليه".
وأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، وابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ: "وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ" "هُمْ بَنُو مُقَرِّنٍ مِنْ مُزَيْنَةَ". وهُمْ سَبْعَةٌ.
قولُهُ تَعالى: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ}: معطوفٌ على "الضعفاء"، أي: لَيْسَ على الضُعُفاءِ ولا عَلى الذين إذا ما أَتَوْك، فيكونون داخلين في خبرِ ليسَ، مُخبراً بمتعَلَّقِهم عَنِ اسمِها وهو "حَرَجٌ". كما تقدَّم بيانُهُ عند إعراب الآيةِ السابقةِ. ويجوزُ أَنْ يَكونَ مَعْطوفاً على "المحسنين" فيكونون داخلين فيما أَخْبرَهُ بِهِ عَنْ قولِهِ "من سبيل"، فإنَّ "مِنْ سبيل" يحتمل أنْ يكونَ مُبْتَدأً، وأَنْ يَكونَ اسْمَ "ما" الحجازية، و "مِنْ" مزيدةٌ في الوجهين، وقد تقدَّمَ ذلك كلُّهُ. ويجوزُ أَنْ يَكونَ "وَلاَ عَلَى الَّذِينَ" خبراً لمبتدأٍ محذوفٍ تقديرُهُ: ولا على الذين إذا ما أَتَوْكَ ـ إلى آخِرِ الصِلَةِ، حرجٌ أَوْ سَبيلٌ، وحُذِفَ لدلالةِ الكلامِ عَلَيْهِ، ولا حاجةَ إليه لأنه تقديرٌ مُسْتغنىً عنه، إذْ قَدْ قُدِّرَ شيئاً يَقومُ مُقامَهُ هذا المَوْجودُ في اللفْظِ والمَعْنى. وهذا الموصولُ يحتَمِلُ أَن يَكونَ مُنْدَرِجاً في قوله" "وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ" وذُكِروا على سَبيلِ نَفْيِ الحَرَجِ عَنْهم وأَنْ يَكونوا مُنْدَرِجينَ، بِأَنْ يَكونَ هَؤلاءِ، وَجَدُوا ما يُنْفِقونَ، إلاَّ أَنَّهم لم يَجِدوا مَرْكوباً. و "ما" في "إذا ما" زائدةٌ، وجملةُ الشَرْطِ صِلَةُ الموصولِ الاسمِيِّ، لا محَلَّ لها من الإعرابِ، وجملةُ: "قلتَ" حاليَّةٌ مِنَ الكافِ في "أتوك" في محلِّ نَصْبٍ؛ أَيْ: إذا أَتَوْكَ، وأَنْتَ قائلٌ، وجملةُ "تولَّوا" جَوابُ الشَرْطِ. وجملةُ: "وأعينهم تفيض" حاليَّةٌ مِنَ الواوِ في "تولَّوا"، و "حزناً" مَفعولٌ لأجلِهِ، والمصدرُ المُنْسَبِكُ مِنْ "ألاَّ يَجِدوا" مَنْصوبٌ على نَزْعِ الخافِضِ الذي هو اللامُ، أَيْ: لِعَدَمِ وُجودِ ما يُنْفِقون. و "من" لبيانِ ما مِنْهُ الفَيضُ. والمجرورُ بها في معنى التمييزِ. وقالَ الجُرْجانيُّ: التقديرُ: ولا على الذين إذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهم وقلتَ لا أَجِدُ. فهو مُبْتَدَأٌ معطوفٌ على ما قبلِهِ بِغيرِ واوٍ، والجوابُ "تولوا".
قرأَ العامَّةُ: {لِتَحْمِلَهم} وقرأَ مَعْقِلُ بْنُ هارونَ: "لنَحْمِلَهم" بِنُونِ العَظَمَةِ. وفيها إشكالٌ، إذْ كانَ مُقْتَضى التَرْكيبِ: قُلْتَ لا أَجِدُ ما يَحْمِلُكم عَلَيْهِ اللهُ.
تمَّ بحمدِ الله ونعمتِهِ الجزءُ العاشرُ مِنْ هذِه المَوسوعَةِ (فيضُ العليمِ مِنْ مَعاني الذِكْرِ الحَكيمِ) أَشْكرُكَ اللهمُّ على فيض جودك وفضلك ووافر نِعمَتِكَ وعظيم مِنَّتِكَ، وأَسْأَلُك أَنْ تَفْسَحَ لي في أَجلي، وتبارك لي في عملي، وتتمَّ نِعمَتَكَ عليَّ لأُتمَّ هذِهِ المَوسُوعَةَ، بحقِّ كِتابِكَ الأَكْرَمِ وبجاهِ نبيِّكَ الأَعْظم، صلى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلَّم.