وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ
(85)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا} عطفٌ على النهي عن الصلاةِ عليهم فَلاَ يُثِرْ عَجَبَكَ مَا تَرَاهُمْ فِيهِ مِنْ وَفْرَةِ المَالِ، وَكَثْرَةِ الأَوْلاَدِ، فالخطابُ للنبيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ، والمقصودُ بالأَمرِ المسلمون، أي: ولا تعجبُكم. فقد أَعلَمَهم اللهُ تعالى أَنَّ تلكَ الأَموالَ والأولادَ وإنْ كانتْ في صورةِ النِعْمَةِ فهِيَ لهمْ نِقْمَةٌ وعذابٌ، وأَنَّ اللهَ عذَّبهم بها في الدنيا بِأَنْ سَلَبَهم طمَأْنينةَ البالِ عليْها لأنهم لمَّا اكْتَسَبوا عَداوةَ الرَسولِ والمُسلمين كانوا يَحْذَرونَ أَنْ يُغريَ اللهُ رَسُولَهُ بهم فَيَسْتَأْصِلَهم.
وتقديمُ الأَمْوالِ في هذه الآيةِ المباركة وأَمثالِها على الأولادِ مَعَ كونِهم أَعَزَّ مِنْها إمَّا لِعُمومِ مِساسِ الحاجةِ إِليها بحَسَبِ الذاتِ وبحَسبِ الأَفرادِ والأَوْقاتِ، فإنها ممَّا لا بُدَّ مِنْهُ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ الآباءِ والأُمَّهاتِ والأَوْلادِ في كُلِّ وَقْتٍ وحينٍ، حتى إنَّ مَنْ لَهُ أَوْلادٌ ولا مالَ لَهُ فهوَ وأَوْلادُهُ في ضيقٍ ونَكالٍ، وأَمَّا الأَوْلادُ فإنَّما يَرْغَبُ فيهم مَنْ بَلَغَ مَبْلَغَ الأُبُوَّةِ. وإمّا لأنَّ المالَ مَناطٌ لِبَقاءِ النَفْسِ، والأوْلادُ مناطٌ لِبَقاءِ الجِنْسِ، وإمَّا لأنها أَقدمُ في الوُجودِ مِنَ الأَوْلادِ.
وقد سَبَقَ ذِكْرُ هذِهِ الآيةِ الكريمةِ في هذهِ السورةِ المباركةِ مَعَ تَفاوُتٍ بَيْنَهُما في الأَلْفاظِ مِنْ أَرْبَعةِ وُجوهٍ هي:
أوَّلاً: قالَ في الآيةِ المتقدِّمَةِ: {فَلاَ تُعْجِبْكَ} بفاءِ التعقيبِ. والسببُ أَنَّها جاءَتِ بعدَ قولِهِ: {وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارهون} فوصَفَهم بكونهم كارهين للإنفاق، وإنما كَرِهوا الإنْفاقَ لكونهم مُعجَبين بِكَثْرَةِ تِلْكَ الأَمْوالِ. فلهذا المعنى نهاهُ اللهُ عَنْ ذَلِكَ الإعْجابِ بِفاءِ التَعْقيبِ، فقال: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وَلاَ أولادهم}. وأَمَّا ههنا فقالَ: "وَلاَ تُعْجِبْكَ" بواوِ العَطْفِ، لأنَّه لا تَعَلَّقَ لهذا الكلامِ بما قَبْلَهُ فَاقتضى عطفَه بالواوِ.
ثانياً: قال هناكَ: { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَموالهم وَلاَ أولادهم} والسبَبُ فيهِ أَنَّ مِثَلَ هذا التَرْتيبِ يُبْتَدَأُ بالأَدْنى ثمَِّ يَتَرَقّى إلى الأَرْفَعِ، فيُقالُ: لا يعجبني أَمْرُ الأمير ولا أمْرُ المَلِكِ، وهذا يَدُلُّ على أَنَّهُ كانَ إِعْجابُ أولئكَ الأَقوامِ بِأَوْلادِهم فوْقَ إِعْجابِهم بِأَمْوالِهم، أمَّا ههنا فقد حذفَ "لا" لِيَدُلَّ على عَدَمِ التَفاوُتِ بين الأَمْريْنِ عِنْدَهم.
ثالثاً: قالَ هُناكَ {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذّبَهُمْ} وحذف اللامَ ههنا وأَبْدَلها بِ "أَنْ" للتَنْبيهِ على أَنَّ التعليلَ في أَحْكامِ اللهِ تَعالى محالٌ، وأَنَّهُ أَيْنَما وَرَد َحرفُ التَعليلِ فمَعناهُ "أن" كما هو قولُهُ تَعالى في سُورَةِ البيِّنَةِ: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللهَ} الآية: 5. أَيْ وما أُمِروا إلاَّ بِأَنْ يَعْبُدوا اللهَ.
رابِعاً: قالَ هناكَ {في الحياةِ الدنيا} وحذَفَ لفظَ الحياةِ هَهُنا فقالَ: "فِي الدنيا" تَنْبيهاً على أَنَّ الحياةَ الدُنيا بَلَغَتْ في الخِسَّةِ أَنَّها لا تَسْتَحِقُّ أَنْ تُسمّى حياةً، بَلْ يجبُ الاقْتِصارُ عندَ ذِكْرِها على لَفْظِ الدُنيا تَنْبيهاً على كمالِ دَناءَتِها.
ومَنْ يَنْظُرْ إلى خُصوصِيَّاتِ الأَحْوالِ ومُقْتَضَياتِها يَعْلَمْ أَنَّ هَذا تَأْسيسٌ ولَيْسَ تَكْراراً، فقدْ تَحْمِلُ آيتانِ مَعنىً عامّاً واحداً، ولكنَّ كُلَّ آيةٍ تَمَسُّ خُصوصِيَّةً، فالآيَةُ الأُوْلى مُتَرَتِّبَةٌ على ما قَبْلَها، وهيَ قولُهُ تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} سُورَةُ التَوْبَةِ، الآيةُ: 54. فَكَأَنَّما هذِهِ حَيْثيَّاتُ كُفرِهم؛ فَهُم لا يُصلُّونَ إلاَّ نِفاقاً، ولا يُنْفِقون مالاً في سبيلِ اللهِ إلاَّ وَهُمْ كارهونَ ذَلِكَ. والمُتْعَةُ في المالِ أَنْ تُنْفِقَهُ فيما تُحِبُّ، فإذا أَحْبَبْتَ طَعاماً مَثَلاً اشْتَرَيْتَهُ، وإذا أَحْبَبْتَ ثوباً ابْتَعْتَهُ وهكذا. والمؤمنُ عِندَما يُنْفِقُ مالَهُ في صَدَقَةٍ أَوْ زَكاةٍ فإنّما يَفْعَلُ ذلك إيماناً مِنْهُ بِأَنَّ اللهَ ـ سُبْحانَهُ وتعالى، سيُخلِفُهُ له وسَيُعْطيه أَضْعافاً وأَضعافاً مِنَ البركةِ في الدنيا والأَجْرِ في الآخرةِ، فيكونُ فَرِحاً مسروراً لأنَّه عَمِلَ لِدُنياهُ ولآخِرَتِهِ.
أمَّا المُنافِقُ فإنَّه يُنْفِقُ وَهُوَ كارِهٌ. لأنَّه لا يُؤمِنُ بالآخِرَةِ ولا يَعْرِفُ البرَكَةَ في الرِزْقِ، وإذا أَنْفَقَ الإنْسانُ وهُوَ كارِهٌ، فالمالُ الموجودُ لَدَيْهِ هُوَ ذِلَّةٌ له وتَعَبٌ؛ فقد جَناهُ بعدَ عَمَلٍ دؤوبٍ ومَشَقَّةٍ، ثمَّ يُنْفِقُهُ وهُو لا يَنْتَظِرُ عليه أَجْراً ولا جَزاءً، وكَذلِكَ الأَمرُ عندهُ فإذا خَسِرَ في الحربِ ولَداً عَظُمَ المُصابُ عَلَيْهِ لأنَّه لا أَمَلَ لَهُ في لِقائِهِ ثانِيَةً، بِعَكْسِ المؤمِنِ الذي يَسْتَبْشِرُ بِدُخولِ وَلَدِهِ الجنَّةَ إذا قُتِلَ مجاهداً في سبيلِ اللهِ، وبأَنَّهُ سَوْفَ يجْتَمِعُ بِهِ فيها، كما فَعَلَتْ الخَنْساءُ حينَ حَمِدَتِ اللهَ على اسْتِشْهادِ أَوْلادِها الأَرْبَعَةِ، في حينَ مَلأَتِ الدُنيا جَزَعاً وتَفَجُّعاً حينَ فَقَدَتْ أَخاها صَخْراً في الجاهليَّةِ.
ومِنْ هُنا فإيَّاكَ أَيُّها المُؤمِنُ أَنْ تُعْجِبَكَ أَمْوالُهم؛ لأنَّها ذِلَّةٌ لهم في الدُنيا؛ فهُمْ يَبْذُلونَها نِفاقاً؛ فإذا امْتَنَعوا عنِ الإنفاقِ وعَنِ الجِهادِ وهُمْ يَتَظاهرون بالإسْلامِ؛ فكأَنهم قَدْ أَعْلنوا أَنَّهم مُنافقون، وهَكذا نَجْدُ إنْفاقَهم كُرْهاً هُوَ إذْلالٌ لَهُمْ، وإنْ لم يُنْفِقوا افْتُضِح أَمْرُهم، فكانتِ الأَموالُ والأَولادُ عَذاباً لهم ووبالاً عَلَيْهِم، وهذا أَمْرٌ يَقْتَضي الإشفاقَ عَلَيْهِم لا الإعجابَ بما لديهم، فإنَّهُ عِقابٌ لهم وفَضيحَةٌ وذُلٌّ، {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ} لأنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ مالٌ يَعْتَزُّ بِهِ، ومنهم مَنْ لَهُ أَوْلادٌ كثيرون هُمْ عُزْوتُه، ومِنْهم مَنْ لَهُ المالُ والوَلَدُ. فهم مختلفون في أحوالهم؛ لِذلكَ جاءَ قولُهُ تعالى: {أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ} لِيُؤدِّيَ المعانيَ كلَّها. ولِيَشْمَلَ مَنْ عِنْدَهُ مالٌ فَقَطْ، وَمَنْ عِندَهُ أَوْلادٌ فَقَطْ، وَمَنْ عِنْدَهُ المالُ والوَلَدُ.
فالمال يَجْمَعُهُ المُنافقُ مِنْ حَلالٍ ومِنْ حَرامٍ، ثمَّ بعدَ ذلك إمَّا أَنْ يُفارِقَهُ بِكارِثةٍ تُصيبُهُ، أو بالموْتِ، أو بأنْ يَعيشَ مَعَ خَشْيَةِ زَوالِهِ، وكذلك الأولادُ يُربِّيهم ويَتْعَبُ في تَهيئة أسبابِ سعادتهم، ثمَّ يُفارقُوهُ بالموْتِ، أَوْ يكونوا فاسِدين عاقّينَ له؛ فيَكونُوا مَصْدَرَ عَذابِهِ. فكأنَّ قولَ الحقِّ سُبْحانَه: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} هُوَ للمُؤمنين؛ لأنَّ هؤلاءِ المنافقين قد يُعطيهم اللهُ الأموالَ والأولادَ؛ ولكنَّها ليستْ خَيراً لهم، بل هِيَ عَذابٌ لهم؛ لأنَّهم بإبْطائهم الكُفْرَ وتَظاهُرِهِمْ بالإيمان؛ يَفْرِضونَ على أَنْفُسِهم تَكاليفَ تَأْخُذُ جُزْءً مِنْ أَمْوالهم وأَولادهم، وحينئذٍ تَكونُ عذاباً لهم لأنهم خَسِروا كلَّ شَيْءٍ، فليسَ لهم أَجْرٌ على مِوْتِ أَبْنائهم إنْ قُتِلوا، ولا أَجْرَ لهم على الزَكاةِ والصَدَقَةِ فيما يُنْفِقونَهُ رياءً ونِفاقاً. أمَّا قولُه في الآيةِ الثانيةُ: "وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ" فهي حُكْمٌ عامٌّ على مَنْ يُعْطيهِمُ اللهُ نِعْمَةَ الدُنيا ويَكْفُرونَ بِهِ، فتكونَ هذِهِ النِعْمَةُ عليهم عَذاباً، فهم في خوفٍ مِن ْضَياعِ المالِ أَوْ فَقْدِ الوَلَدِ؛ لذلك يُعانونَ مِنَ العذابِ. وهُمْ معذَّبون بخوفِهِمُ الموتَ وتَرْكَ النِعْمَة، فهم لا يريدون أنْ يموتوا لأنهم لا يُؤمنونَ في الآخِرَةِ، فيَكون المالُ والوَلَدُ حَسْرَةً عليهم.
قولُهُ: {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} ثُمَّ يُمِيتُهُم اللهُ عَلَى الكُفْرِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَشَدَّ نَكَالاً لَهُمْ، وَعَذَاباً فِي الدَّارِ الآخِرَةِ فَتَكُونَ الأَمْوَالُ وَالأَوْلاَدُ اسْتِدْرَاجاً لَهُمْ مِنَ اللهِ.
قولُهُ تعالى: {وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ} ولا: الواوُ لعَطْفِ نهيٍ على نهيٍ قبلَهُ في قولِهِ: "ولا تُصَلِّ، ولا تَقُمْ، ولا تُعْجبك".
قولُهُ: {إنّما يريدُ اللهُ أَنْ يُعذِّبَهم بها} مَفْعولُ الإِرادةِ محذوفٌ، أيْ: إنَّما يُريدُ اللهُ اخْتِبارَهم بالأَمْوالِ والأَوْلادِ، وأَتى بِ "أَن" لأنَّ مَصَبَّ الإِرادة التَعذيبُ، ويحتَمَلُ أَنْ تَكونَ "أَنْ" على حذفِ لامِ عِلَّةٍ.
وقولُهُ: {إنما يريد الله} حملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ. وجملةُ: {وهم كافرون} حاليَّةٌ مِنَ الهاءِ في "أَنْفُسُهُم".