فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ
(83)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ} يخاطبُ مولانا ـ عَزَّ وجَلَّ، نبيَّهُ ورسولَهُ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ، فيقولُ: فَإِذَا رَدَّكَ اللهُ تَعَالَى مِنْ غَزْوَتِكَ هَذِهِ إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ المُنَافِقِينَ المُتَخَلِّفِينَ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً، فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ مَعَكَ إِلَى غَزْوَةٍ أُخْرَى، أَخْرَجَ ذلك ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ عَنْ قَتادَةَ ـ رضي اللهُ عنهُ، قال: ذُكِرَ لَنا أَنَّهم كانوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً مِنَ المُنافقين، وفيهم قِيلَ ما قِيلَ.
فقولُهُ: "إِنْ رَجَعَكَ اللهُ" يُبين أَنَّهُ ـ صلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، لا يَعْلَمُ بمُسْتَقْبَلاتِ أَمْرِهِ مِنْ أَجَلٍ وسِواهُ، وأَيْضاً فإنهم من المحتَمَلِ أَنْ يموتوا قبلَ رُجُوعِهِ، وقالَ: "ِإلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ" ولم يَقُلْ "إليْهم"، لأَّنَّ مِنْهم مَنْ تابَ مِنَ النِفاقِ ونَدِمَ على التَخَلُّفِ، ويحتَمَلُ أن المُرادَ رُؤوسُهُم والمَتْبوعونَ منهم. وهذه الطائفةُ قدْ خُتِمَ عليها بالوفاةِ على النِفاقِ، وقد عُيِّنُوا للنَبيِّ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، وأُمِر أَلاَّ يَصَلِّيَ على أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً كما سيأتي قولُهُ: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وماتوا وَهُمْ فاسِقون} سورة التوبة، للآية: 84. وروي أنَّ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، عَيَّنَهم لحُذيْفَةَ بْنِ اليَمانِ، فكانَ الصَحابةُ إذا رَأَوا حُذيفَةَ تَأَخَّرَ عَنِ الصلاةِ على جَنازَةِ رَجُلٍ تَأَخَّروا هُمْ عَنْها.
ورُوِيَ عَنْ حُذيفَةَ أَنَّهُ قالَ يوماً: بَقِيَ مِنَ المُنافقينَ كَذا وكَذا، فقالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنْشُدُكَ اللهَ أَنَا مِنْهم؟ فقال: لا، واللهِ لا أَمِنْتُ مِنْها أَحَداً بَعْدَكَ.
وأَخْرَجَ الطَبرانيُّ عنْ مَسْروقٍ، عَنْ أُمِّ المؤمنينَ، أُمِّ سَلَمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، يَقولُ: ((مِنْ أَصْحابي مَنْ لا يَراني بَعْدَ أَنْ أَموتَ أَبَداً)) فجاءَ عُمَرُ فدَخَلَ عليْها فقالَ: أَنْشُدُكِ اللهَ أَنَا مِنْهم؟ قالتْ: لا، ولا أُزَكِّي أَحَداً بَعْدَكَ أَبَداً. فبَكى ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه. المعجم الكَبيرُ: (23/317)
قولُهُ: {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} فَقُلْ إخراجاً لهم عنْ دِيوانِ الغُزاةِ، وإبعاداً لمحلِّهم عَنْ محفِلِ صُحْبَتِك: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً، وَذَلِكَ عُقُوبَةٌ لَهُمْ وَتَعْزِيزٌ وتوبيخٌ، وَلَنْ يَكُونَ لَكُمْ شَرَفُ صُحْبَتِي إِلَى الجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ أَبَداً، وهوَ إخبارٌ في معنى النَهْيِ للمُبالَغَةِ، وقدْ وَقَعَ.
قولُهُ: {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} لأَنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِخِزْيِ الْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ دُعِيتُمْ فِيهَا إِلَى الجِهَادِ، وَأَنْتُمْ لاَ عُذْرَ لَكُمْ يُبَرِّرُ هَذَا التَّخَلُّفَ، فَاقْعُدُوا مَعَ الذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ الجِهَادِ، مِنَ العَجَزَةِ وَالمَرْضَى وَالنِّسَاءِ وَالأَطْفَالِ. ويدلُ "رَضِيتُمْ" على أَنَّ ما ارْتَكبوهُ مِنَ القُعودِ عَمَلٌ مِنْ شأْنِهِ أَنْ يَأْباهُ الناسُ حتى أُطْلِقَ على ارْتِكابِهِ فعلُ رَضِيَ المُشْعِرُ بالمُحاوَلَةِ والمُراوَضَةِ. كالذي يُحاوِلُ حملَ نَفْسِهُ على عَمْلٍ وتَأْبى حَتى يُرْضِيَها.
والخالِفُ: المتخلِّفُ بَعْدَ القومِ. وقيلَ: الخالفُ: الفاسِدُ. مِنْ خَلَفَ، أَيْ: فَسَدَ، ومِنْهُ (خُلوفُ فَمِ الصائمِ). وتَفْسيرُ الخالِفِ بالمُتَخَلِّفِ هُوَ المأْثورُ عَنْ أَكْثَرِ السَلَفِ من المُفَسِّرين، رَضِيَ اللهُ عنهُم ورحمهمُ أَجمعين. فقد أَخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما، في قولِهِ: "فاقعدوا مع الخالفين" قال: هُمُ الرِجالُ الذينَ تَخَلَّفوا عَنِ النُفورِ.
قولُهُ تعالى: {فَإِن رَّجَعَكَ} الفاءُ لِتَفْريعِ الأَمْرِ الآتي على ما بَيَّنَ مِنْ أَمْرِهِمْ، والفعلُ: "رَجَعَ" هنا مِنْ الرَجْعِ المُتَعدِّي، وليسَ مِنَ الرُجُوعِ اللازِمِ، وهُوَ كَقَولِهِ تعالى في سُورةِ الطارِق: {والسَماءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} الآية: 11، ولا يَتَعَدَّى في نحوِ قولِهِ تعالى في سُورَةِ الأَنْبِياءِ: {وَإِلَيْنَا تُرْجِعُونَ} الآية: 35. في قراءةِ مَنْ بَناهُ للفاعِلِ، والمَصْدَرُ الرُجوعُ كالدُخولِ.
والإرْجاعُ هُنا مجازيٌّ على سَبيلِ الإيجازِ لأنَّ المقصودَ الإرْجاعُ إلى الحديثِ مَعَهم بِقرينَةِ قولِهِ: "فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ" ولما كانَ المَقصودَ بيانُ مُعامَلَتِهِ مَعَ طائفةٍ، اخْتُصِرَ الكلامُ، فقيلَ: :فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلَى طَائِفَةٍ"، وليسَ المرادَ الإرْجاعُ الحَقيقيُّ بَلِ المُراد هو الإرجاعُ المَجازِيُّ، أَيْ تَكَرُّرُ الخوضِ مَعَهم مَرَّةً أُخْرى، لأنَّ السُورةَ كُلَّها نَزَلَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكٍ، واللهُ أَعْلمُ.
وقولُهُ: {لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا} أَبَدًا: ظَرْفُ زَمانٍ مُتَعَلِّقٌ بالفِعْلِ "تخرجوا"، وجمَعَ بينَ النَفْيِ ب "لَنْ" وبين كلِمَةِ "أَبَدًا" تَأْكيداً لمعنى "لَنْ" لانْتِفاءِ خُروجِهم في المُسْتَقْبَلِ إلى الغَزْوِ معَ المُسلِمينَ.
وقولُهُ: {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} جملة مُسْتَأْنَفَةٌ للتَعدادِ عَليهم ولِتَوبيخِهم، أَيْ: أَنَّكم تحبّونَ القُعودَ وتَرضون بِهِ فقدْ زِدْتُكم منْهُ.
قولُهُ: {أَوَّلَ مَرَّةٍ} أوَّلَ: الظاهِرُ أَنَّها مَنْصُوبةٌ على المصدَرِ، وفي التَفْسيرِ: أَوَّلَ خَرْجَةٍ خَرَجَها رَسُولُ اللهِ، فالمَعنى: أَوَّلَ مَرَّةٍ مِنَ الخُروجِ، فإنْ قلتَ "مَرَّةٍ" نَكِرَةٌ وُضِعَتْ مَوْضِعَ المَرَّاتِ مِنَ التَفضيلِ، فلِمَ ذُكِرَ اسمُ التفضيلِ المضافُ إليها وهو دالٌّ على واحدةٍ مِنَ المَرَّاتِ؟ قلتُ: أَكْثَرُ اللغَتينِ: هِنْد أَكبرُ النِساءِ، وهي أَكْبرُهُنَّ، ثمَّ إنَّ قولَك: هي كبرى امْرَأَةٍ، لا تَكادُ تَعثُرُ عَلَيْه، ولكنْ هيَ أَكْبرُ امْرَأَةٍ وأَوَّلُ مَرَّةٍ وآخِرُ مَرَّةٍ.
وقيلَ: هي هُنا نَصْبٌ على الظَرْفِيَّةِ لأنَّ المَرَّةَ هُنا لما كانت في زَمَنٍ مَعْروفٍ لهمْ وهُو زَمَنُ الخُروجِ إلى تَبوكٍ ضُمِّنَتْ مَعنى الزَمانِ، وانْتِصابُ المَصدَرِ بالنِيابَةِ عَنِ اسْمِ الزَمانِ شائعٌ في كَلامِهم، بخِلافِ انْتِصابها في قولِهِ: {وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} سورةُ التوبة، الآية:13. وفي قولِهِ: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} سورة التوبة، الآية:80. كما تَقَدَّمَ.
قولُهُ: {فاقعدوا مَعَ الخالفين} فاقعدوا: الفاءُ لِتَفْريعِ الأَمْرِ بالقُعودِ بِطريقِ العُقوبةِ على ما صَدَرَ عَنْهم مِنَ الرِضا بالقُعودِ، والجمْلَةُ معطوفة على جملة "رضيتم"، ويجوز عطف الإنشاء على الخبر. والظرفُ "مع" يجوزُ أَنْ يَكونَ متعلقاً ب "اقعدوا"، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ لأنَّه حالٌ مِنْ فاعِلِ "اقْعُدوا".
قرَأَ الجُمهورُ: {مَعَ الخالفين} وقرَأَ عِكْرِمَةُ ومالِكُ بْنُ دينارٍ "مع الخَلِفين" مقصوراً مِنَ الخالِفين.
جملة "فاستأذنوك" معطوفة على "رجعك"، وجملةُ "فَقُلْ" جوابُ الشَرْطِ. وجملة "إنكم رضيتم" مستأنفة في حَيِّزِ القَوْلِ.