فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ
(76)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ} فَلَمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ، وَأَعْطَاهُمْ مَا طَلَبُوا، مَنَعوا حَقَّ اللهِ تَعالى مِنْهُ، ولَمْ يُوفُوا بِالعَهْدِ، وَبَخِلُوا بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَأَمْسَكُوهُ فَلَمْ يَتَصَدَّقُوا مِنْهُ بِشَيءٍ. إذاً فإنَّ معنى قولِه تعالى: "آتاهم" أعطاهم، وللهِ تعالى عَطاءانِ، أوَّلهُما: عَطاءُ الأَسْبابِ: بأَنْ يَجِدَّ الإنْسان في أيِّ عَمَلٍ مِنَ الأَعْمال؛ فيُعْطيهِ اللهُ ثمَرَةَ عَمَلِهِ؛ مُؤْمِناً كانَ أَوْ كافِراً؛ طائعاً أَوْ عاصِياً. وثانيهما وعطاءُ الفَضلِ، كَأَنْ يَسيرَ في طَريقٍ فيَجِدَ كِنْزاً، أَوْ أَنْ يجدَ بركةً في ثمارِهِ ومحصولِهِ، فوقَ المعتادِ وأن يسلِّمها الله لَهُ من الآفات وأنْ يجدَ بركةً في بَيْعِ محْصولِهِ غير معهودةٍ، أو ارتفاعاً غير متوقّعٍ في سِعْرِ سُلْعَتِهِ، وأنْ يُبارِكَ الله له في رِزْقِهِ، فلا يَصْرِفُهُ فيما يُضِيِّعُ مالَهُ ويَذْهَبُ به. وقولُ الحقِّ تعالى "فَلَمَّا آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ" دَليلٌ على أَنَّ الرِزْقَ الذي جاءهم لم يَخْضَعْ للأسْبابِ وحدَها. بَلْ زَادَ عَمَّا تُعْطِيهِ الأَسبابُ بِفَضْلٍ مِنَ اللهِ.
قولُهُ: {وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} تَوَلَّوْا: أَعْرضوا عن طاعةِ اللهِ سبحانَه، وانْصرفوا عَنِ الاسْتِعَانَةِ بِما آتاهم عَلَى طَّاعَةِ اللهِ وَالصَّلاَحِ، وَإِصْلاَحِ حَالِهِمْ وَحَالِ أُمَّتِهِمْ، كَمَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ. "وَهُم مُّعْرِضُونَ". أيْ: وهم قومٌ عادتُهم الإعراضُ عَنِ الطاعاتِ، فلا يُنْكَرُ هذا منهم. وقد وصَفَهم تَعالى بِصِفاتٍ ثلاثةٍ هي: البُخلُ، وهو عبارةٌ عَنْ مَنْعِ الحَقِّ لمُستَحِقّيهِ. والتَوَلِّي: عَنِ العَهْدِ. والإعراضُ: عَنْ تَكاليفِ اللهِ وأَوامِرِهِ ونواهيه.
قولُه تعالى: {فلما آتاهُمُ} لمَّا: حَرْفُ وُجوبٍ لِوُجُوبٍ، وهذِهِ الجملةُ معطوفةٌ على جملةِ {لَئِنْ آتَانَا} فلا محلَّ لها من الإعراب.
وقولُه: {بخلوا به} هذه الجملةُ واقعةٌ جوابَ الشَرْطِ فلا محلَّ لها مِنَ الإعراب.
وقولُهُ: {تولَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} الواوُ: واوُ الحال، و "هم معرضون" جملةٌ حاليَّةٌ من الواو في "تَوَلَّوا"، والمُرادُ: تَوَلَّوْا بأَجسامِهم وأَجْرامِهِمْ، وهُم مُعْرِضون بِنفوسِهم وقلوبهم.