يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(73)
قولُهُ ـ تباركتْ أسماؤه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ ـ صلى الله عليه وسلّمَ، بِأَنْ يَبْذُلَ الْجَهْدَ فِي مُقَاوَمَةِ الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ، الذِينَ يَعِيشُونَ بَيْنَ ظَهْراني المُسْلِمِينَ، ومقاتلتهم، مِثْلَما تَبْذُلُهُ هَاتَانِ الطَّائِفَتَانِ فِي عَدَاوَةِ الرَّسُولِ وَالمُسْلِمِينَ، و "جاهد" مأْخُوذٌ مِنْ بُلوغِ الجُهْدِ والمقصودُ بها المكافحة والمخالفة، وَمُجَاهَدَةُ الْكُفَّارِ تَكُونُ بِِالسَّيْفِ، وَمُجَاهَدَةِ المُنَافِقِينَ تَكُونُ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وبإقامَةِ الحُدودِ عليهم؛ والتعنيفِ لهم، ما لم يَظْهَرْ عَليْهم ما يَدُلُّ على كُفْرِهم، فإنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فحُكْمُهُمْ كَحُكْمِ الزِنديقِ، فيُقْتَلُ عَلى المَشْهورِ، ومعلومٌ أَنَّه ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، قاتَلَ الكُفَّارَ، ولم يُعْلَمْ أَنَّهُ قاتَلَ المُنافِقينَ قِتالَهُ للكُفَّارِ. والحكمةُ في ذَلِكَ أَلاَّ يَشيعَ بَينَ الناسِ أَنَّ محمَّداً يَقتُلُ أَصْحابهُ فيُزَهِّدُهم ذَلِك في الإسْلامِ خَوفاً مِنْ أنْ يُقتَلوا، جاءَ ذلك فيما أَخْرجَه الشَيْخانِ وغيرُهما، أَنَّ عُمَرَ بنَ الخطاب ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ اسْتَأْذَنَ رَسولَ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْه وسَلَّمَ، في قَتْلِ رَأْسِ النِفاقِ عبدِ اللهِ ابْنِ أبيٍّ بنِ سلولٍ حين قال: {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنَّ الأعزُّ منا الأذلَّ} سورة المنافقون، الآية: 8. فقالَ لَهُ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم: ((دَعْهُ. لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ)). اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان: (1/812) وفي السرة النبوية أنَّ مثل ذلك حدث غيرَ مرَّةٍ. واللهُ أَعلم.
أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حميدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ قَتادَةَ ـ رضي اللهُ عنه، في الآيَةِ قال: أَمَرَ اللهُ تعالى نَبِيَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، أَنْ يُجاهِدَ الكُفَّارَ بالسَيْفِ، ويُغْلِظَ عَلى المُنافقينَ في الحُدودِ.
وأخرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وابْنُ مَرْدَويْهِ، والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عبّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما، في قولِهِ: "يا أَيُّها النَبيُّ جاهِدِ الكُفَّارَ" قالَ: بالسَيْفِ، و "المنافقين" قال: باللِّسانِ، "واغلظ عليهم" قال: أَذْهِبِ الرِفْقَ عَنْهُمْ.
وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ، وابْنُ مردوَيْهِ، وابْنُ أَبي الدُنيا في كِتابِ الأَمْرِ بالمَعْروفِ، عَنِ ابْنِ مَسْعودٍ ـ رضي اللهُ عنهُ، في قولِهِ تعالى: "جاهِدِ الكُفَّارَ والمُنافقين" قالَ: بِيَدِهِ، فإنْ لم يَسْتَطْعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لمْ يَسْتَطْعْ فَبِقَلْبِهِ، ولْيَلْقَهُ بِوَجْهٍ مُكْفَهِرٍّ.
وأَخْرَجَ البَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإِيمانِ عَنْ ابْنِ مَسْعودٍ ـ رضي اللهُ عنه، قالَ: لمّا نَزَلَتْ "يا أَيُّها النَبيُّ جاهِدِ الكُفَّارَ والمُنافقين" أُمِرَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أَنْ يُجاهِدَ بِيَدِهِ، فإنْ لم يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، فإنْ لم يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لمْ يَسْتَطْعْ فَبقلبِهِ بِوَجْهٍ مُكْفَهِرٍّ.
قولُهُ: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} كَمَا يَأْمُرُهُ بِمُعَامَلَتِهِمَا بِالشِّدَّةِ وَالغَلْظَةِ لِتَرْتَدِعَا، وَيَرْتَدِعَ مَنْ خَلْفَهُمَا. والغلظة ضد الرحمة والرأفة، وقد تكون بالقول والفعل وغير ذلك.
وأَخرَج أَبو الشَيْخِ عَنِ السُدِّيِّ في قولِهِ: "جاهد الكفار" قال: بالسَيْفِ، و "المنافقين" بالقَوْلِ بِالِّلسانِ و "اغْلُظْ عَليْهِمْ" قالَ: عَلى الفَريقَينِ جميعاً. ثمَّ نَسَخَها فأَنْزَلَ بَعْدَها {قاتلوا الذين يَلونَكم مِنَ الكُفَّارِ ولْيَجِدوا فِيكم غِلْظَةً} سورةُ التوبة الآية: 123.
قولُهُ: {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} تَذييلٌ تَقَدَّمَ نَظيرُهُ غير مرَّةٍ مراعاةً للفواصلِ، أَي: سَيَكُونُ مَصِيرُ الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَيَخْلُدُونَ فِيهَا أَبداً، وَبِذَلِكَ يَجْتَمِعُ لَهُمْ خِزْيُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. والمأوى ما يَأْوي إليْهِ المَرْءُ مِنَ المَكانِ، أَيْ: يَرْجِعُ إليْهِ. والمَصيرُ المَكانُ الذي يَصيرُ إليْهِ المرءُ، أَيْ: يَرْجِعُ، فالاخْتِلافُ بَيْنَهُ وبَينَ المَأْوَى بالاعْتِبارِ، والجمعُ بَيْنَهُما هُنا تَفَنُّنٌ في التعبير.
قولُهُ تُعالى: {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} حَسُنَتِ الواوُ هنا، مع أنَّ الفاءَ أَشْبَهُ بهذا المَوْضِعِ؟ لأنَّ الوَاوَ واوَ الحالِ والتقديرُ: افْعَلْ ذَلِكَ في حالِ اسْتِحْقاقِهم جَهَنَّمَ، وتِلْكَ الحالُ هي حالُ كُفْرِهِم ونِفاقِهم. أو لأَنَّها جيْءَ بها تَنْبيهاً على إرادةِ فِعْلٍ محذوفٍ تَقديرُهُ: واعْلَمْ أَنَّ مَأْواهم جهَنَّمُ. أو لأنَّ المَعنى: أَنَّه قَدِ اجْتَمَعَ لهم عَذابُ الدُنيا بالجِهادِ والغِلْظَةِ، وعَذابُ الآخِرَةَ بجَعْلِ جَهَنَّم مَأْواهم، فقد حُمِلَ الكلامُ على المعنى، فجملةُ "ومأواهم جهنم" معطوفة على "جاهد الكفار"، أو هيَ جملةٌ استئنافية، وجملة "وبئس المصير" مُسْتَأْنَفَةٌ، لا محل لها من الإعراب.