وَعَدَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ
(68)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {وَعَدَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ} وَعَدَ: تهكُّماً بهِمْ، فهو مِنْ قَبيلِ قولِهِ في سورةِ آلِ عُمْرانَ: {فَبَشِّرْهُمْ بِعذابٍ أَليمٍ} الآية: 21. ويقالُ: وَعْدَهُ بالخَيرِ وَعْداً، ووَعَدَهُ بالشَرِّ وَعِيداً. قالوا: والأَصْلُ فيه أَنْ يُقالُ "أَوْعَدَ" إذا كانَ الوعْدُ بِعِقابٍ أَوْ عَذابٍٍ، إلاَّ إذا صُرِّحَ بِهِ فإنَّهُ يُقالُ "وَعَدَ". فقدْ وَعَدَ اللهُُ سبحانَهُ، المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالكُفَّارَ، سُوءَ المُنْقَلَبِ وأَشَدَّ العذابِ، على ما قدَّموا مِنْ كُفْرٍ ونِفاقٍ، وسِيِّءِ العَمَلِ الذي تَقَدَّمَ بيانُ تَفْصيلِهِ في الآياتِ المباركات السابقةِ. ورَوَى مَكْحولٌ عَنْ أَبي الدَرْداءِ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، عَنْ صِفَةِ المُنافِقِ: فقال: ((إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا اؤتُمِنَ خَانَ، وَإِذا وَعَدَ أَخلَفَ، وَإِذَ خَاصَمَ فَجَرَ، وَإِذَا عَاهَدَ نَقَضَ، لاَ يَأْتِي الصَّلاَةَ إِلاَّ دُبُراً وَلاَ يَذْكُرِ اللهَ إِلاَّ هَجْراً)).
وكان عددُ المنافقين والمنافقات في المدينةِ المنوَّرة في عهدِ رسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ، بِضْعَ مئاتٍ لما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: كانَ المُنافِقونَ بالمَدينَةِ مِنَ الرِجالِ ثَلاثمئةٍ، ومِنَ النِساءِ سَبْعينَ ومئة امْرأة.
قولُهُ: {نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} نَارَ جَهَنَّمَ، وَتَوَعَّدَهُمْ بِهَا عَلَى سُوْءِ صَنِيعِهِمْ الذِي ذَكَرَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فيما سَبَقَ مِنْ آياتٍ، وَسَيَمْكُثُونَ فِيهَا مُخَلَّدِينَ أَبَداً،
قولُهُ: {هِيَ حَسْبُهُمْ} أَيْ: لَهُمْ فِيهَا مِنَ الجَزَاءِ وَالعَذَابِ مَا يَكْفِيهِمْ، وهِيَ كَافِيَةٌ لَهُمْ عِقَاباً عَلَى كُفْرِهِمْ. والمعنى: أَنَّ تلِكَ العُقوبةَ كافيَةٌ لهم، ولا شَيْءَ أَبْلَغ مِنْها، ولا يُمْكِنُ الزِيادَةُ عليها.
قولُه: {وَلَعَنَهُمُ اللهُ} أَيْ: وأَلحَقَ بِتِلْكَ العُقوبَةِ الشديدِةِ المتقدِّمةِ، الإهانَةَ والذَمَّ واللَّعْنَ وهوَ الطَرْدُ مِنْ رَحمَةِ اللهِ تَعالى.
قولُه: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} وَلَهُمْ عَذَابُ دَائِمٌ غَيْرَ عَذَابِ جَهَنَّمَ: كَالسَّمُومِ يَلْفَحَ وَجوهَهُمْ، وَالحَمِيمِ يَصْهَرُ مَا فِي بُطُونِهِمْ.
وقيلَ: إنَّ العذابَ المُقيمَ هُوَ العَذابُ المُعَجَّلُ لهمْ في الدُنْيا وهوَ ما يُقاسُونَهُ مِنْ خَوْفِ اطِّلاعِ المُسْلِمينَ عَليهِمْ، وافتضاحِ أَمرِهم، وما هُمْ فيهِ مِنَ النِفاقِ، وكَشْفِ فَضائِحِهم وأَحوالهم، وما يتبع ذلك من عقوبة ومذلَّةٍ وهوان.
قولُهُ تَعالى: {نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} فيهِ حَذْفٌ، والتقدير: يَصْلونها خالدينَ فيها، و "خَالِدِينَ" حالٌ مِنَ المَفعولِ الأَوَّلِ للوَعْدِ وهيَ حالٌ مُقَدَّرَةٌ؛ لأنَّ هذه الحالَ لم تقارِنِ الوَعْدَ.
وقولُهُ: {هي حَسْبُهم} هذه الجملَةُ استئنافية لا محَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
(69)
قولُهُ ـ جَلَّ وعَلا: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً} يخاطبُ اللهُ تعالى المنافقين قائلاً: إِنَّ حَالَكُمْ أَيُّهَا المُنَافِقُونَ المُؤْذُونَ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، كَحَالِ المُنَافِقِينَ السَّالِفِينَ مِنْ أَقْوَامِ الأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ، فُتِنْتُمْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ، وَغَرَّتْكُمُ الدُّنْيا كَمَا فُتِنُوا وَاغْتَرُّوا بِهَا، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً، ومعنى أشدّ: أَقوى، والقُوَّةُ هُنا القُدْرَةُ على الأَعْمالِ الصَعْبَةِ.
أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ الطَبريُّ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشيخِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما، قَالَ: مَا أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالْبَارِحَةِ "كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا" فَهَؤُلاءِ بَنُو إِسْرَائِيلَ أشبهناهم، قَالَ ابْنُ جَرِيحٍ وَلا أَعْلَمُ إِلا أَنَّ فِيهِ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَتَّبِعُنَّهُمْ حَتَّى لَوْ دَخَلَ رَجُلٌ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ.
قولُهُ: {وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا} وَأَكَثْرَ مِنْكُمْ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً. وهُوَ تَفْسيرٌ لِشِبَهِهْم بهم وتمثيلٌ لِفِعْلِهِم. وكَثْرَةُ الأَمْوالِ لها أَسْبابٌ كَثيرةٌ: مِنْها خُصوبةُ الأَرْضِ للزَرْعِ والغَرْسِ ورَعْيِ الأَنْعامِ والنَحْلِ، ومِنْها وَفْرَةُ التِجارَةِ بِحُسْنِ الموقِعِ الجغرافيِّ، ومجاورةِ البِحارِ للسَفَرِ إلى الأَقْطارِ والصَيْدِ البحريِّ، ومنها اشْتِمالُ الأَرْضِ عَلى المَعادِنِ مِنْ ذَهَبٍ وفِضَّةٍ وحديدٍ وغيرِ ذلك، ومنها وفرةُ الموادِّ الصِناعِيَّةِ والغِذائيَّةِ. وكَثْرَةُ الأَوْلادِ تَأْتي مِنَ الأَمْنِ لبقاءِ الأَنْفُسِ، والخِصْبِ المُؤَثِّرِ في قُوَّةِ الأَبْدانِ ومنها السلامَةُ مِنَ المجاعات، ومنها طيبُ المناخِ ونقاءُ الهواءِ للسلامَةِ من الأَوْبِئَةِ.
قولُهُ: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ} الاسْتِمْتاعُ: التَمَتُّعُ، وهُوَ نَوالُ المتاعِ الذي بِهِ يَتَلذَّذُ الإنْسانِ، والسينُ والتاءُ فيهِ للمُبالَغَةِ في قُوَّةِ التَمَتُّعِ, والخَلاقُ: الحَظُّ مِنَ الخَيرِ، وَقَدْ كَانَ هَمَّ أُولئكَ المنافقين التَمَتُّعُ بِالحَيَاةِ، وَأَخْذُ نَصِيبِهِمْ مِنْ نَعِيمِهَا وَمَبَاهِجِهَا، فَأَطْغَتْهُمُ الدُّنْيا. وَغَرَّتُهْمْ لَذَّاتُهَا، وَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ غَايَاتٌ سَامِيَّةٌ كَالَّتِي يَقْصِدُهَا المُؤْمِنُونَ: كَالإِيمَانِ بِاللهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَإِعْلاَءِ كَلِمَةِ الحَقِّ، وَتَرْسِيخِ العَدْلِ، وَالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ، وَالنَّهِيِ عَنِ المُنْكَرِ .. وَقَدْ سَلَكْتُمْ أَيُّهَا المُنَافِقُونَ سَبِيلَهُمْ فِي الاسْتِمْتَاعِ بِنَصِيبِكُمْ مِنَ الحَيَاةِ، وَلَمْ تُفَضَّلُوا عَلَى مَنْ سَبَقَكُمْ بِشَيءٍ، مَعْ أَنَّكُمْ رَأَيْتُمْ مِنْ آيَاتِ اللهِ مَا رَأَيْتُمْ، وَجَائَكُمُ الهُدَى فَلَمْ تَهْتَدُوا، فَكُنْتُمْ أَحَقَّ بِالعِقَابِ مِنْهُمْ
قولُهُ: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} أَيْ: وخُضْتُم في الكُفْرِ والاسْتِهْزاءِ بآياتِ اللهِ ورَسُولِهِ كالخَوْضِ الذي خاضُوهُ في ذَلكَ، وخَلَطْتُمْ كما خَلَطوا، وقَدْ دَخَلْتُمْ فِي البَاطِلِ، وَخُضْتُمْ فِيهِ، كَمَا فَعَلَ مَنْ سَبَقُوكُمْ، مَعْ أَنَّ حَالَكُمْ تَقْتَضِي أَنْ تَكُونُوا أَهْدَى مِنْهُمْ سَبِيلاً، فأَنْتُم وهُم سَواءٌ، فيُوشِكُ أَنْ يَحيقَ بِكُمْ ما حاقَ بِهِمْ، وهُوَ مُسْتَعارٌ مِنَ الخوْضِ في الماءِ، ولا يُقالُ إلاَّ في الباطِلِ مِنَ الكَلامِ.
قولُهُ: {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} الحَبْطُ: الزَوالُ والبُطْلانُ، والمُرادُ ب "أَعمالهم" ما كانوا يَعْمَلونَهُ ويَكْدَحونَ فِيهِ: مِنْ مُعالَجَةِ الأَمْوالِ والعِيالِ، والانْكِبابِ عَلَيْهِما، ومعنى حَبْطِها في الدُنيا اسْتِئْصالُها وإتْلافُها بِحُلولِ مُخْتَلِفِ العَذابِ بأُولئكَ الأُمَمِ، وفي الآخِرَةِ بِعَدَمِ تَعْويضِها لَهُمْ، فهَؤُلاَءِ المُسْتَمْتِعُونَ بِخَلاَقِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَالخَائِضُونَ فِي البَاطِلِ، حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَبَطلَتْ، وما قدَّموا من أعمالٍ صالحةٍ في الظاهرِ فَلاَ انتفاعَ لَهُمْ بها فِي الدُّنْيَا، وَلا ثوابَ لهم عليها في الآخِرَةِ لأَنَّهَا فَاسِدَةٌ.
قولُهُ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} وَهَؤُلاَءِ هُمُ الخَاسِرُونَ لأَنَّهُمْ لاَ ثَوَابَ لَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ. وحَصرُ الخَسارَةُ في هؤلاءِ بالقَصرِ قَصْراً مَقْصوداً بِهِ المُبالَغَةُ.
وإعادَةُ اسْمِ الإشارَةِ للاهْتِمامِ بِتَمييزِ المُتَحَدَّثِ عَنْهم لِزِيادَةِ تَقريرِ أَحوالِهم في ذِهْنِ السامِعِ.
قولُهُ تَعالى: {كالذين مِن قَبْلِكُمْ} الكافَ في محلِّ رَفْعٍ تَقديرُهُ: إنَّهم "كالذين" فهي خَبرُ مُبْتَدأٍ محذوفٍ. كما هي في قولِ الشاعِرِ الصَحابيِّ الجَليلِ النَمِرِ بْنِ تَوْلَبٍ العُكْلِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ونُسِبَ هذا البيتُ أيضاً لأَوْسِ بْنِ حَجَرِ بْنِ مَالِكٍ:
حَتى إذَا الْكلاَّبُ قَالَ لَهَا .................... كاليوْمِ مَطْلوباً ولا طَلَبا
بإضْمَارِ: (لم أَرَ).
والنمرُ بْنُ تَوْلَب هو شاعرُ تميمٍ في الجاهِلِيَّةِ، أَوْ هو مِن كبارِ شُعرائها. وقد وَفَدَ على النَبيِّ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فأَنْشَدَهُ:
يا قوم إني رجل عندي خَبرْ ................... لله من آياته هذا القَمَرْ
والشمسُ والشعرى آياتٌ أُخَرْ ......... من يتسامَ بالهدى فالخبثُ شَرّ
إنا أتيناك وقد طال السفَرْ ................ نَقودُ خَيلا رُجُعا فيها عَسَرْ
نُطْعِمُها الشَحْمَ إذا عَزَّ الشَجَرْ ....... والخيلُ في إطعامِها الشَّحْمَ ضَرَرْ
يَقْصِدُ بالشَحْمِ هُنا: اللَّبَنَ. وقدْ حَسُنَ إسْلامُهُ ـ رضي اللهُ عنهُ، وطالَ عُمُرُهُ، وكانَ جَواداً واسِعَ القِرى كَثيرَ الأَضْيافِ وهَّاباً لمالِهِ، ومِنْ طَريفِ شِعْرِهِ قولُهُ:
أهيمُ بِدَعْدٍ ما حَيِيتُ فإِنْ أَمُتْ ........ أُوَكِّلْ بِدَعْدٍ مَنْ يَهيمُ بها بَعْدِي
ويجوزُ أَنْ تَكونَ كافُ "كالذين" في محلِّ نَصْبٍ. والمعنى: وَعَدَ كَما وَعْدَ الذين مِنْ قبلكم، أَوْ فَعَلْتُمْ مِثلَ فِعْلِ الذينَ مِنْ قبلِكم فهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِ "وَعَدَ". وقيلَ يَجوزُ أنْ يَتَعلَّقَ بِ "يَسْتهزئون" وهُوَ بَعيدٌ. وقيلَ الكافُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ نَعْتاً لمَصْدَرٍ محذوفٍ، وفي الكلامُ حذفُ مُضافٍ تقديرُه: وعْداً كَوَعْدِ الذينَ مِنْ قبلِكم.
قولُهُ: {أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً} قوة: نصبٌ على التمييزِ، وكذا "أموالاً".
قولُهُ: {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ} الكافُ في "كما" نائب مفعول مطلق في محلِّ نَصْبٍ نَعْتاً لِمَصْدَرٍ محذوفٍ، و "ما" مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: اسْتِمتاعاً كاسْتِمْتاعِ الذينَ .. .
قولُهُ: {كالذي خاضوا} الكافُ كالَّتي قبلَها. و "الذي" المعنى: وخُضْتُم خَوْضاً كَخَوْضِ الذينَ خاضوا، فحُذفت نونُ "الذين" تخفيفاً، على لُغَةِ هُذَيْلٍ وتَميمٍ كَما قالَ الأَشْهبُ بْنُ رُمَيْلَةَ النَهْشَلِيُّ:
وإنَّ الذي حانَتْ بِفَلْجٍ دِماؤُهُمْ ....... هُمُ القَوْمُ كُلُّ القَوْمِ يا أُمَّ خالِدِ
وكقولِ عُدَيلِ بْنِ الفَرْخِ العِجْلِيِّ:
فَبِتُّ أُساقي القَوْمَ إخوتي الذي ........... غِوايَتُهم غَيٌّ ورُشْدُهُمْ رُشْدُ
أَوْ وَقَعَ المُفرَدُ مَوْقِعَ الجمع. فحُذِفَ المصدرُ الموصوفُ والمضافُ إلى الموصولِ، وعائدُ الموصولِ تقديرُهُ: خاضوهُ، والأصلُ: خاضوا فيه؛ لأنَّهُ يَتَعَدَّى ب "في" فاتُّسِعَ فيهِ، فَحُذِفَ الجارُّ فاتَّصَلَ الضَميرُ بالفَعْلِ فسَاغَ حَذْفُهُ، ولولا هذا التدريجُ لَمَا ساغَ الحَذْفُ؛ لِما عَرَفْتَ مِنَ أَنَّهُ متى جُرَّ العائدُ بحرفٍ اشتُرِطَ في جَوازِ حَذْفِهِ جَرُّ المَوصولِ بمثلِ ذلكَ الحرفِ، وأَنْ يَتَّحِدَ المُتَعلَّقُ، مَعَ شُروطٍ أُخَرَ. أَوْ أَنَّ "الذي" صِفَةٌ لِمُفْرَدٍ مُفْهِمٍ للجَمْعِ، أَيْ: وخُضْتُمْ خَوْضاً كَخَوْضِ الفَريقِ الذي خاضوا. والكلامُ في العائدِ كَما سَبَقَ قَبْلُ. أَوْ أَنَّ "الذي" مِنْ صِفَةِ المَصْدَرِ، والتَقْديرُ: وخُضْتُم خَوضاً كالخَوْضِ الذي خاضُوهُ. وعليه فالعائدُ مَنْصوبٌ مِنْ غيرِ وِساطَةِ حَرْفِ جَرٍّ. وهذا الوَجْهُ يَنْبَغي أَنْ يَكونَ هُوَ الرّاجِحُ إذْ لا مَحْذُورَ فيه. أو أَنَّ "الذي" تَقَعُ مَصْدَرِيَّةً، والتَقديرُ: وخُضْتُمْ خَوْضاً كَخَوْضِهَمْ ومِثْلُهُ قولُ الصحابيِّ الجليلِ عبدِ اللهِ ابْنِ رواحةَ ـ رضي اللهُ عنه، يمدحُ النبيَّ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:
فَثَبَّتَ اللهُ ما آتاك مِنْ حَسَنٍ ........ في المُرْسلين ونَصْراً كالذي نُصِروا
أَيْ: كَنَصْرِهِمْ. وكقولِ جريرٍ:
يا أُمَّ عَمْروٍ جَزاكِ اللهُ مَغْفِرَةً ........... رُدِّي عليَّ فؤادي كالذي كانا
أَيْ: كَكَونِهِ. وقدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هذا مَذْهَبُ الفَرَّاءِ ويُونُس، وتَقَدَّمَ تَأْويلُ البَصْرِيّينَ لِذَلِكَ. قالَ الزَمَخْشَرِيُّ: فإنْ قُلْتَ: أَيُّ فائدَةٍ في قولِهِ تعالى: "فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ كَمَا"، وقولُهُ: "كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ" مُغْنٍ عَنْهُ كما أَغْنى "كالذي خاضوا" عَنْ أَنْ يُقالَ: وخاضُوا فَخُضْتُمْ كالذي خاضُوا؟ قلتُ: فائدتُهُ أَنْ يَذُمَّ الأَوَّلين بالاسْتِمْتاعِ بما أُوتُوا ورِضاهم بها عَنِ النَظَرِ في العاقِبَةِ، وطَلَبِ الفَلاحِ في الآخِرَةِ، وأَنْ يُخَسِّسَ أَمْرَ الاسْتِمْتاعَ، ويُهَجِّنَ أَمرَ الراضي بِهِ، ثمَّ يُشَبِّهُ حالَ المُخاطَبينَ بحالِهم. وأَمَّا "وخُضْتُمْ كالذي خاضوا" فمَعْطوفٌ على ما قبلِهِ، ومُسْنَدٌ إليهِ مُسْتَغْنٍ بإسْنادِهِ إليْهِ عَنْ تِلكَ المقدّمَةِ، يَعْني أَنَّهُ اسْتَغْنى عَنْ أَنْ يَكونَ التَرْكيبُ: وخاضوا فخُضْتُمْ كالذي خاضُوا.
وفي قولِهِ: {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ} إيْقاعٌ للظاهِرِ مَوْقِعَ المُضْمَرِ لِنُكْتَةٍ: وهُوَ أَنْ كانَ الأَصْلُ: فاسْتَمْتَعْتُمْ فخَلاقُكم كَما اسْتَمْتَعوا بخلاقِهم، فأَبْرَزَهم بِصورةِ الظاهِرِ تَحْقيراً لهم كما قالَ تَعالى في سورةِ مريم: {لاَ تَعْبُدِ الشيطان إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً} الآية: 44. وكَقولِهِ قبلَ ذلكَ في الآية التي قبلَها: {المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} ثمَّ قالَ: {إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ}. وهذا كما يَدُلُّ بإيقاعِ الظاهِرِ مَوْقعَ المُضْمَرِ على التَفْخيمِ والتَعظيمِ يَدُلُّ بِهِ على عَكْسِهِ وهوَ التِحْقيرُ.
وقولُهُ: {أُولئكَ حَبِطَتْ} جملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
وقولُهُ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} هم: ضَميرُ فَصْلٍ لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعْرابِ.