لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ
(57)
قولُهُ ـ تعالت أَسماؤهُ: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً} تَأْكيدٌ لِما كانَ عَلَيهِ أُولئكَ المُنافِقونَ مِنْ جُبنٍ، فإِنَّ هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ يَكْرَهُونَ القِتَالَ مَعَ المسلمين، وَيُبْغِضُونَ مُعَاشَرَتَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَخَافُونَ مِنْ أَنْ يُظْهِروا لَهمْ ذلك، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ الفِرَارَ مِنْهمْ، وَالعَيْشَ فِي مَكَانٍ يَعْتَصِمُونَ فِيهِ مِنِ الانْتِقَامِ مِنْهُمْ، فَلَوِ اسْتَطَاعُوا السُّكْنَى فِي الحُصُونِ وَالقِلاَعِ، أَوْ فِي كُهُوفِ الجِبَالِ وَمَغَارَاتِهَا، أَوْ فِي أَنْفَاقِ الأَرْضِ وسراديبِها لفعلوا.
والمَلْجَأُ: اسْمٌ للمَكانِ الذي يَلْجَأُ إِلَيْهِ الخائفُ لِيَحْتَمي بِهِ سَواءً أَكانَ حِصْناً أَوْ قَلْعَةً أَوْ غيرَهما، وقيلَ: المَهْرَبُ. وقيلَ: الحِرْزُ. وهو على وزنِ "مَفْعَل" مِنْ لجأ إليْهِ يَلْجَأُ، أَيْ: انحازَ، يُقالُ: أَلجأتُه إلى كذا، أي: اضْطَرَرْتُه إليْهِ فالْتَجَأَ. والملْجأُ يَصْلُحُ للمَصْدَرِ والزَمانِ والمَكانِ، والظاهرُ مِنْها هُنا المَكانُ.
والمَغاراتُ جمعُ مَغارَةٍ، وهي المكانُ المُنْخَفِضُ في الأَرْضِ أَوْ في الجَبَلِ. وهيَ بِزِنَةِ "مَفْعَلة" مِنْ غَارَ يَغورُ، فهي كالغارِ في المَعنى. وقيلَ: المَغارَةُ: السِّرْبُ في الأَرْضِ كَنَفَقِ اليربوعِ. والغارُ النَّقْبُ في الجَبَلِ. والغَوْرُ، بِفَتْحِ الغينِ، القَعْرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، يُقالُ: غارَ الرَجُلُ غَوْراً إذا أَتى الغَوْرَ وهوَ المُنْخَفَضُ مِنَ الأَرْضِ. وأَغارَ يَكونُ لازِماً، تَقولُ العرَبُ: أَغارَ بمعنى غارَ، أيْ: دَخَلَ. ويكونُ مُتَعَدِّياً، تقولُ: أَغَرْتُ زَيْداً، أَيْ: أَدْخَلْتُهُ في الغارِ، فعَلى هذا يَكونُ مِنْ أَغَارَ المُتَعَدِّي، والمَفْعولُ محذوفٌ، أَيْ: أَماكنُ يُغيرون فيها أَنْفُسَهم، أَيْ: يُغَيِّبونَها.
وقال الزَجَّاجُ: يَصِحُّ أَنْ تَكونَ المَغَاراتُ مِنْ قولِهم: حَبْلٌ مُغارٌ، أيْ: مُحْكَمُ الفَتْلِ، ثمَّ اسْتُعيرَ ذَلك في الأَمْرِ المُحْكَمِ المُبرَمِ فيَجيءُ التَأْويلُ على هذا: لو يَجِدونَ نُصْرَةً أَوْ أُموراً مُسَدَّدَةً مُرْتَبِطَةً تَعْصِمُهم مِنْكم. وجَعَلَ المُدَّخَلَ أَيْضاً قوماً يَدْخُلونَ في جملَتِهم.
والمُدَّخَلُ، بِتَشديدِ الدالِ: اسْمٌ للمَوْضِعِ الذي يَدْخُلونَ فيه، بِصُعوبَةٍ ومَشَقَّةٍ لِضيقِهِ، كالنَفَقِ في الأرَضِ. والمُدَّخَلُ: بوزنِ "مُفْتَعَلِ" مِنَ الدُخولِ، وهُو بِناءُ مُبالَغةٍ في هذا المعنى، والأَصْلُ "مُدْتَخل" فأُدْغِمَتِ الدَالُ في تاءِ الافْتِعالِ ك "ادَّانَ" مِنَ الدَّيْنِ.
وقد ذَكَرَ أَوَّلاً الأَمْرَ الأَعَمَّ وهُو المَلْجَأَ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ كانَ، ثمَّ ذَكَرَ "الغِيْرانَ" التي يُخْتَفى فيها في أَعْلَى الأَماكِنِ، وفي الجِبالِ، ثمَّ الأَماكِنَ التي يُخْتَفى فيها في الأَماكِنِ المنخفضة وهيَ السُّروبُ التي عبَّرَ عَنْها بالمُدَّخَلِ.
قولُهُ: {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أي لاندفعوا نحوهَا مُسْرِعِينَ أَشَدَّ الإِسْراعِ، كَالْفَرَسِ الجَمُوحِ لاَ يَرُدُّهُ شَيْءٌ، وهوَ أَنْ يَغْلِبَ الفَرَسُ صاحبَهُ في سَيرِهِ وجَرْيِهِ. يُقالُ: جمحَ الفَرَسُ بِراكِبِهِ جُموحاً، إذا اسْتَعْصى عَلَيْهِ حتى غلَبَه. والمعنى: أَنَّ هؤلاءِ المُنافِقينَ لو يَجِدونَ حِصْنًا يَلْتَجِئونَ إِلَيْهِ، أَوْ مَغاراتٍ يَسْتَخْفونَ فيها، أَوْ سراديبَ في الأرضِ يختبئون فيها، لهُرِعوا نحوَها مُسْرِعينَ أَشَدَّ الإِسْراعِ دونَ أَنْ يحجزهم أحدٌ عن مرادهم أو يَرَدَّهم شيءٌ، كالفَرَسِ الجَموحِ الذي عَجَزَ صاحِبُهُ عَنْ مَنْعِهِ مِنَ النُفورِ والعَدْوِ. فالآيَةُ الكريمةُ تَصْويرٌ بديعٌ مُعْجِزٌ لِما كانَ عَلَيْهِ حالُ أُولئكَ المنافقين مِنْ هلَعٍ مقلقٍ وخوفٍ شَديدٍ مِنَ المُؤمنين، وما يُكِنُّونَ مِنْ بُغْضٍ مَقيتٍ للمُسلمين وحقدٍ عليهم دَفينٍ، حتى إنهم لو وجدوا شيئاً مِنْ هذِهِ الأَمْكِنَةِ المذكورةِ آنفاً، والتي هي في الواقعِ مُنَفِّرَةٌ للنَفْسِ، لأَسْرَعُوا نحوَها إسراعاً شَديداً ولما ثَناهم عن ذلك شيءٌ أبداً.
والجُّموحُ: النُّفورُ مع الإسْراعٍ, ومِنْه فَرَسٌ جَموحٌ إذا لم يَرُدَّهُ لِجامٌ، قالَ امْرُؤُ القَيْسِ:
جَمُوحاً مَرُوحاً وإحضارُها ................... كمَعْمَعَةِ السَّعَفِ المُوقَدِ
وقال زهيرُ بنُ أبي سُلمى:
إذا جَمَحَتْ نساؤكُمُ إليْهِ ...................... أَشَظَّ كأَنَّهُ مَسَدٌ مُغَارُ
وقالَ المُهَلْهِلُ:
وقد جَمَحْتُ جِماحاً في دمائِهمُ .... حتى رَأَيْتُ ذَوي أَحْسَابِهِمْ جَهَزوا
قولُهُ تَعالى: {إِلَيْهِ} عادَ الضَميرُ إلى المَلْجَأِ أَوْ عَلى المُدَّخَلِ؛ لأَنَّ العَطْفَ بِ أَوْ، ويجوزُ أَنْ يَعودَ على "المَغَارات" لِتَأْويلِها بِمُذَكَّرٍ. وجملة الشرط نعتٌ ثانٍ ل {قَوْمٌ} السابقة، وجملة "وهم يَجْمحون" حاليَّةٌ مِنْ فاعِلِ "ولَّوا"، في محَلِّ نَصْبٍ.
وقرأ الجمهورُ: {مَغارات} بفَتْحِ المِيمِ، وقرأَ سعيدُ بْنُ عبدِ الرَحمنِ
بْنُ عَوْفٍ "مُغارات" بضَمِّها.
وقرأَ الجمهورُ: {مُدْخَلاً} بالتَخْفيفِ، وقرَأَ قَتادَةُ، وعيسى بْنُ عُمَرٍ، والأَعْمَشُ "مُدَّخَّلاً" بِتَشْديدِ الدالِ والخاءِ مَعَاً. وتَوجيهُها أَنَّ الأَصْلَ: مُتَدَخَّلاً مِنْ تَدَخَّلَ بالتَضْعيفِ، فلَمّا أُدْغِمَتِ التاءُ في الدالِ صارَ اللَّفْظُ "مُدَّخَّلاً"، نحو "مُدَّيِّن" مِنْ "تَدَيَّن". وقرأَ الحَسَنُ أَيْضاً، ومَسْلَمَةُ بْنُ مُحارِبٍ، وابْنُ أَبي إسْحاقَ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، وابْنُ كَثيرٍ في رِوايَةٍ "مَدْخَلاً" بِفَتْحِ الميمِ وسُكونِ الدالِ، وفَتْحِ الخاءِ خَفيفَةً مِنْ "دَخَلَ". وقرأَ الحَسَنُ في رِوايَةِ محبوبٍ كذلكَ، إلاَّ أَنَّهُ ضَمَّ الميمَ فجَعلَه مِنْ "أَدْخَلَ". وقرَأَ أُبَيٌّ "مُنْدَخَلاً" بالنُونِ بَعْدَ الميمِ مِنْ انْدَخَلَ، ومنه قولُ الكُمَيْتِ الأَسَدِيِّ:
لا خُطْوَتي تَتَعاطى غيرَ مَوْضِعِها .... ولا يَدي في حَمِيتِ السَّمْنِ تَنْدَخِلُ
الحَميتُ: هُو زِقُّ السَمْنِ أَوِ العَسَلِ. يقولُ الشاعرُ واصفاً نَفْسَهُ: بأنَّه لا يخْطو إلى رِيبَةٍ، ولا يَتَدَخَّلُ فيما لا يَعنيهِ، ولا يحاوِلُ الاطِّلاعَ على أَسْرارِ الناسِ.
وأَنْكر أَبو حاتمٍ السَجَسْتانيُّ هذِهِ القِراءَةَ عنْه، وقال: (إنَّما هي بالتاءِ). وهوَ مَعْذورٌ لأنَّ "انْفَعَلَ" قاصرٌ لا يَتَعَدَّى فَكَيْفَ بُنيَ مِنْهُ اسْمُ مَفعولٍ؟
وقرأَ العامَّةُ: {لَوَلَّوْا}، وقرأ الأَشْهَبُ العَقيليُّ: "لَوَاْلَوا"، أَيْ: بايَعُوا وأَسْرَعُوا، وكذلك رواها ابْنُ أَبي عُبَيْدَةَ بْنُ مُعاوِيَةَ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ أَبيهِ عَنْ جَدِّهِ وكانتْ لُهُ صُحْبَةٌ "لَوَالَوْا" مِنَ المُوالاةِ، بمعنى للجَؤوا. وهذا ممَّا جاءَ فيهِ "فَعَّل" و "فاعَل" بمعنىً، نحوَ: "ضَعَّفْتُه" و "ضاعَفْتُه". قالَ سَعيدُ بْنُ مَسْلِمٍ أَظُنُّها "لَوَأَلُوا" بهمزةٍ مفتوحَةٍ بعدَ الواوِ مِنْ وَأَلَ، أيْ: التَجَأَ، ونقلَ الزَمَخْشَرِيُّ هذِهِ القِراءةَ وفَسَّرَها بما تَقدَّمَ مِنَ الالْتِجاءِ.
وقرأ العامَّةُ: {يجمحون}، وقرَأَ أَنَسُ بْنُ مالِكٍ والأَعْمَشُ "يَجْمِزُون"، قالَ ابْنُ عَطِيَّة: يُهَرْوِلُون في مَشْيهِم. وقيلَ: يَجْمِزُون. وفي الحديثِ: (فلما أَذْلَقَتْهُ الحِجارَةُ جَمَزَ)، أَخْرَجَهُ مُسلمٌ، عَنْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيَّ قَالَ كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى بِالْمَدِينَةِ فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ جَمَزَ حَتَّى أَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ فَرَجَمْنَاهُ حَتَّى مَاتَ. ورَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ. ومن الشعر ما جاءَ عن رُؤْبَةَ بْنِ العَجَّاجِ:
إمَّا تَرَيْني اليومَ أُمَّ حَمْزِ .................... قارَبْتُ بَينَ عَنَقِي وجَمْزي
والعَنَقُ والجَمْزُ مِنْ أَحْوالِ السَيرِ السَريعِ، وهذا أَصْلُهُ في اللُّغةِ، فَ "يَجْمَحُونَ" يُسْرِعُونَ فِي الدُّخُولِ إِلَيهِ.