وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ
(56)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} وهَؤُلاَءِ الْمُنَافِقُونَ يَتَظَاهِرُونَ بِأَنَّهُمْ مِنْكُمْ، وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ كَذِباً أَنَّهُمْ مِنْكُمْ فِي الدِّينِ وَالْمِلَّةِ لِيَأْمَنُوا بَأْسَكَمُ. فهم كما وصفَهم ربُّهم سُبْحانَهُ، بقولِه في سورةِ المنافقون: {إِذَا جَاءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله، واللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ، والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله، إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} الآيتان: 1 و2.
قولُهُ: {وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} وَهُمْ فِي الحَقِيقَةِ لَيْسُوا مِنْكم ولا مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ، بَلْ هُمْ أَهْلُ شَكٍّ وَنِفَاقٍ، لم يخالِطِ الإيمان بشاشةَ قلوبهم أبداً، بل هو الشكُّ والريبُ والنِفاقُ المُتَمَكِّنُ فيها. فالمنافقون يعيشون في تَناقُضٍ مع أنْفُسِهم، فهم كما قال أبي العلاءِ المعريِّ:
عَلَى الذَّمِّ بِتْناَ مُجْمِعينَ وحالُنَا ... مِنَ الرُعبِ حَالُ المجْمِعين عَلىَ الشُكْرِ
وهم شَرٌّ مِنَ الكفار؛ لأنَّ الكافِرَ يُعْلِنُ عِداءَهُ للدِّينِ، فهو عَدُوٌّ ظاهرٌ لَكَ فتََأْخُذُ حِذْرَكَ مِنْهُ. أَمَّا المنافق فهو يَتَظاهَرُ بالإيمانِ، فَتَأْمَنُ لَهُ ويكونُ إيذاؤهُ أَكبرَ، وقُدْرَتُه على الغَدْرِ أَشَدَّ. ولذلكَ قالَ الحقُّ سبحانَهُ وتعالى، في سورةِ النساء: { إِنَّ المنافقين فِي الدَرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النارِ} الآية: 145.
قولُهُ: {وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} اسْتِدْراكٌ للرَدِّ عَلَيْهِمْ فيما قالوهُ وأَقسَمُوا عَلَيْهِ كَذِباً وزُوراً. أَيْ: يخافونَ مِنْكم أَنْ تَفعَلوا بهم ما فَعَلْتُمْ بالمُشْرِكينَ، لِذلِكَ فَهُم يُظْهِرون الإسْلامَ تَقِيَّةً، ويُؤَيِّدونَ ذلك بالأَيمانِ الفاجِرَةِ، وَهُمْ إِنَّمَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، خَوْفاً مِنْكُمْ وَفَرَقاً. وهو كلامٌ مُوَجَّهٌ يصلُحُ لأنْ يكون معناهُ أَيْضاً وما هُمْ مِنْكم ولَكنَّهم قومٌ مُتَّصِفونَ بِصِفَةِ الجُبنِ، والمُؤمِنونَ مِنْ صِفَتِهمُ الشَجَاعَةُ والعِزَّةُ، فالذينَ يَفْرَقون لا يَكونونَ مِنَ المُؤْمنينَ، ومِنْ هَذا المعنى قولُهُ تَعالى في سورة هود: {قالَ يا نُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيرُ صالحٍ} الآيةُ: 46. ومن ذلك قولُ مِساوِرَ بْنِ هِنْدٍ بنِ قيسِ بْنِ زهيرٍ في ذَمِّ بَني أَسَدٍ:
زعمتم أن إخوتَكم قريش ................. لهم إِلْفٌ وليس لكم إِلاَفُ
أولئك أُومِنوا جُوعاً وخَوفاً ............. وقد جاعت بنو أسد وخافوا
فيكونُ توجيهاً بالثَناءِ على المؤمنين، والفَرَقُ: الفَزَعُ الشَديدُ مِنْ أَمْرٍ يُتَوَقَّعُ حُصولُهُ. وأَصْلُ الفَرَقِ انْزِعاجُ النَفْسِ بِتَوَقُّعِ الضَرَرِ، وقيل: هوَ مِنْ مُفارَقَةِ الأَمْنِ إلى حالِ الخَوْفِ. يُقالُ: فَرِقَ فَرَقاً، إذا اشْتَدَّ خَوْفُهُ وهَلَعُهُ.
قولُهُ تعالى: {إنَّهم لَمِنْكم} هذه الجملة جوابُ القَسَمِ، وجملةُ القَسَمِ وجَوابُهُ مقُولُ القولِ المُقَدَّرِ، وهوَ حالٌ مِنْ فاعلِ "يحلفون" والتقديرُ: قائلين إنهم لمنكم.
قولُهُ: {وما هم منكم} هذه الجملَةُ في محلِّ نَصْبِ حالٍ مِنِ اسْمِ "إنَّ".
قولُه: {ولكنهم قوم} هذه الجملةُ في محلِّ نَصْبٍ عطفاً على جملةِ: "وما هم منكم".
واختيارُ صيغَةِ المُضارِعِ في قولِهِ: "ويحلفون" وقولِهِ: "يفرقون" للدَلالةِ على التَجَدُّدِ وأَنَّ ذَلِكَ دَأْبُهم، وحُذِفَ مُتَعَلَّقُ "يفرقون" لِظُهورِهِ.