اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِه إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
(9)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِه} اعْتاضُوا عَنِ اتِّبَاعِ آيَاتِ اللهِ بِمَا التَهَوا بِهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيا الخَسِيسَةِ، فَمَنَعُوا أَنْفُسَهُمْ عَنِ الإِيمَانِ بِاللهِ، وَعَنِ اتِّبَاعِ الحَقِّ، "ثَمَناً قَلِيلاً" أيْ شيئاً حَقيراً مِنْ حُطامِ الدُنيا وهو أَهْواؤُهم وشَهَواتُهم التي اتَّبَعوها، أَوْ ما أَنْفَقَهُ أَبو سُفيانَ مِنَ الطعامِ وصَرَفهُ إلى الأعراب الذين جمعهم وأطعمهم. فقد أَخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأبو الشَيْخِ عنْ مجاهدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في قولِهِ: "اشْتَروا بآياتِ اللهِ ثمناً قَليلاً" قال: أَبو سُفْيانَ بْنُ حَرْبٍ، أطْعَمَ حُلَفاءَهُ، وتَرَكَ حُلَفاءَ محمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. فَصَدوا أنفسهم عن الإسلامِ بهذا الثمن الخسيسِ وَمَنَعُوا النَّاسَ مِنَ الدُّخُولِ فِي الإِسْلاَمِ. "فَصَدُّواْ" أيْ عَدَلوا ونَكبوا، مِنْ صَدَّ صُدُوداً، أوْ أنّهم صَرَفوا غيرَهم، مِنْ صَدَّ صَدَّاً، والفاءُ هنا للِدَلالَةِ على سَبَبِيَّةِ الاشْتِراءِ. وإِنّما يَحْدُثُ الصَدُّ حينَ تكونُ هناكَ دَعْوَةٌ مَعروضَةٌ بِأَدِلَّتِها فَتَمْنَعُ الناسَ مِنْ أَنْ يَسْتَمِعوا إلَيْها، لأنَّكَ تَعْرِفُ أَنَّهم لو سَمِعوها لا اقْتَنَعوا بها واعْتَنَقوها، ولِذلكَ فإنَّ الكُفَّارَ حينَ نَزَلَ القُرآنُ عَرَفوا أَنَّه لو سمِعَ الناسُ القُرآنَ لأَحَسُّوا بإعْجازِهِ وبلاغَتِهِ وحلاوتِهِ ولآمَنوا بِه لأنَّ العربَ أُمَّةُ بلاغةٍ وبيانٍ، ولِذلك يَقُولُ ـ سبْحانَهُ وتَعالى، عَلى أَلْسِنَتِهم في الآية: 26. مِنْ سُورَةِ فُصِّلَتْ: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُون}. واللَّغْوُ نوعٌ مِنَ الصَدِّ عَنْ سَبيلِ اللهِ، وكانَ هُناكَ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الصَدِّ عَنْ سَبيلِ اللهِ. لأنهم كانوا يمنعون الناسَ مِنَ الاسْتِماعِ إلى دَعْوَةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، وكانوا يَقولونَ للحَجيجَ: لا تُصَدِّقوا الرَجُلَ الذي يَقولُ إنَّهُ نَبيٌّ. و "عَن سَبِيلِهِ" أيْ عَنْ دينِهِ الحَقِّ، والإضافَةُ إلى ذاته العليَّةِ هُنَا للتَشْرِيفِ، أَوْ أَنَّ المرادَ أَنَّهم كانوا يَصُدّونَ الناسَ عَنْ سَبيلِ بَيْتِهِ الحَرامِ، حيْثُ كانوا يَصُدُّونَ الحُجَّاجَ مِنَ المُسْلِمينَ والعُمَّارَ عَنْهُ ويمنعوهم من زيارتِهِ وإقامةِ شعائرهم فيه، وقد تقدَّم.
قولُهُ: {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فَبِئْسَ العَمَل عَمَلُهُمْ، وَسَاءَ مَا عَمِلُوا مِنِ اشْتِرَاءِ الكُفْرِ بِالإِيمَانِ، وَالضَّلاَلَةِ بِالهُدَى. وصَدِّ الناسِ عَنْ دِينِ اللهِ وعَنْ بَيْتِهِ الحَرامِ، ونَكْثِ العُهودِ والمواثيقِ التي أَخَذوها على أَنْفُسِهم، وأَقْسَمُوا على الالْتِزامِ بها.
قولُه تعالى: {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يَجوزُ أَنْ تَكونَ "ساء" على بابِها مِنَ التَصَرُّفِ والتَعَدِّي، ومفعولُها محذوفٌ، أَيْ: ساءَهُمُ الذي كانوا يَعْملونَهُ، أَوْ ساءَ عَمَلُهم، ويجوزُ أَنْ تَكونَ الجارِيَةَ مَجْرَى بِئْسَ، فتُحَوَّلُ إلى فَعُلَ بالضَمِّ، ويَمْتَنِعُ تَصَرُّفُها، وتَصيرُ للذَمِّ، ويَكونُ المخصوصُ بالذمِّ محذوفاً كَما تَقرَّرَ ذلك غيرَ مَرَّةٍ. و "ما" اسْمٌ مَوْصولٌ، فاعلُ ساءَ، وجملة "إنهم ساءَ" مُسْتَأْنَفَةٌ.