انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(41)
قولُه ـ تعالى شأنُه: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً} تجريدٌ للأمْرِ بالنَفْرِ بَعْدَ أن كان وبَّخَ المتَقاعِسينَ عَنْهُ، فأَمَرَ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِالنَّفِيرِ الْعَامِّ، وَالْخُرُوجِ جَمِيعاً مَعَ الرَّسُولِ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلم، إِذَا دَعَاهُمْ إِلَى الجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَلْزَمَهُمْ بِأنْ يخرُجِوا عَلَى كُلِّ حَالٍ: فِي المَنْشَطِ وَالمَكْرَهِ، وَالْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، فَقَالَ انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً، أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ، رُكْبَاناً وَمُشَاةً، أَقْوِيَاءَ وَضُعَفَاءَ، نُشَطاءَ وكُسالى. خِفافاً لمن قَلَّ عِيالُهُ، وثقالاً لمن كُثًروا، خفافاً بلا سِلاحٍ، وثِقالاً بِهِ، خفافاً شَباباً، وثقالاً شُيوخاً، خفافاً أَصِحَّاءَ، وثقالاً مرضى. حتى أنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتومٍ ـ رضي اللهُ عنه، وكانَ أَعْمى قال لِرَسُولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أَعَليَّ الغَزْوُ يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: ((نَعَم)). فقال يوم أُحُدٍ أنَا رَجُلٌ أَعْمى، فَسَلِّموا لي اللواءَ، فإنَّه إذا انهزَمَ حاملُ اللواءِ انهزَمَ الجيشُ، وأَنَا ما أَدْري مَنْ يَقْصِدُني بِسَيْفِهِ فما أَبْرَحُ، فأَخَذَ اللواءَ يَوْمَئِذٍ مُصْعَبُ ابْنُ عُمَيرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنه. وحتى قال أَبو طَلْحَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وقد طَعَنَ في السنِّ ويريد الجهادَ لمن حاولَ ثَنْيَهُ عَنْ ذلك: ما أَسْمَعُ اللهَ عَذَرَ أَحَداً، ثمَّ خَرَجَ إلى الشامِ فجاهَدَ حَتى ماتَ. أَخْرَجَ ذلك ابْنُ سَعْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وابْنُ حِبَّان، وابْنُ مَردَويْهِ، وابْنُ أَبي عُمَرَ العَدَني في مُسْنَدِهِ، وعبدُ اللهِ ابْنُ أَحمدَ بْنِ حنبل في زَوائِدِ الزُهْدِ، وأَبو الشيخِ، وأَبو يَعْلى، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مالِكٍ. أَنَّ أَبا طَلْحَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَرأَ سُورَةَ (بَراءة)، فأَتى على هذِهِ الآيَةِ: "انْفِروا خِفافاً وثِقالاً" فقال: أَرَى رَبَّنا يَسْتَنْفِرُنا شُيوخاً وشَباباً. وفي لَفْظٍ، فقال: ما أَسمَعُ اللهَ عَذَرَ أَحَداً، جَهِّزوني. قالَ بَنُوهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ تَعالى قَدْ غَزَوْتَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، حتى ماتَ، وغَزَوْتَ مَعَ أَبي بَكْرٍ ـ رضي اللهُ عنه، حَتى ماتَ، وغَزَوْتَ مَعَ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، حتى ماتَ، فنَحْنُ نَغْزو عَنْكَ. فأَبى ورَكِبَ البَحْرَ فَماتَ، فما وجَدوا لَهُ جَزيرَةً ليَدْفنوهُ فيها إلاَّ بَعْدَ تِسْعَةِ أَيامٍ، فلَمْ يَتَغَيَّرْ فَدَفَنوهُ فيها.
وقالَ أَبو أَيوبٍ الأنصاريُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ما أَجِدُني أَبَداً إلاَّ ثَقيلاً أَوْ خَفيفاً. جاءَ ذَلِكَ فيما أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، والحاكِمُ عَنْ ابْنِ سِيرينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه، قالَ: شَهِدَ أَبو أَيَّوبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بَدْراً، ثمَّ لمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ غَزْوَةٍ للمُسْلِمينَ إلاَّ عاماً واحداً، وكانَ يَقولُ: قالَ اللهُ تعالى: "انْفروا خِفافاً وثِقالاً" فلا أَجِدُني إلاَّ خَفيفاً أَوْ ثَقيلاً. وقد رَكِبَ مع الجيش الذي ذَهَبَ لِفَتْحِ القِسْطَنْطِينيَّةَ وهو شَيْخٌ كبيرٌ، حتى اسْتُشْهِدَ على أَسْوارِها ـ رضِيَ اللهُ عنه وأَرْضاهُ. وقد أَكْرَمَني اللهُ بِزيارَةِ قبرِهِ الطاهرِ هُناكَ والصلاةِ في مَسْجِدِهِ، وقد رَأَيْتُ العِرسانَ هُنَاكَ يَأْتُونَ لِزيارَتِهِ ـ رضي اللهُ عنه، وهم في لباسِ العُرْسِ قبلَ الزَواجِ تَبرُّكاً، ويوزِّعون الحلوى على الزُوَّارِ، وقدْ أَفاضَ عَلَيَّ مولايَ سبحانَهُ مِنْ فَيْضِ جُودِهِ وكَرَمِهِ فقُلْتُ هناك في حَضْرَتِهِ:
[size=37]سَيِّدَةُ الحَواضِرِ[/size]
[size=32]حملتُ جِراحَ قلبيَ والمَشَاعِرْ ....... إلى اصْطَنْبولَ سَيِّدَةِ الحَواضِرْ [/size]
[size=32]وسَيِّدَةِ المدائِنِ يَومَ تَزْهُو .............. المدائنُ بالغطاريف العباقِرْ[/size]
[size=32]وما قلَمِي بِمُتَّهَمٍ لَديْها ............... ولا قلبي، ولا حظِّي بعاثرْ[/size]
[size=32]سَلُوا الأيامَ كَمْ قُمْنا جميعاً .............. لرفعة مجدها نُعلي المنائرْ[/size][size=32]
[/size][size=32]سلوا التاريخ، إنا قد رّفعْنا ......... صروحَ المجد بالبيض البواترْ[/size][size=32]
[/size][size=32]سلوا التاريخ، إنّا قد صَدَعنا ............ بأمر الله من فوق المنابرْ[/size][size=32]
[/size][size=32]سلوا التاريخَ، كم ذا قد عَقَدْنا ..... لواء النصر للصِيد الكواسِرْ[/size][size=32]
[/size][size=32]سلوا فيينّا إذِ ارتعدتْ صُواها ...... على قرعِ السنابكِ والحَوَافرْ[/size][size=32]
[/size][size=32]لك اسطنبولُ في الدنيا دويٌّ ...... كقصفِ الرعدِ يُنْبِي بالمخاطِرْ[/size][size=32]
[/size][size=32]أبا أيوبَ طبتَ وطاب مثوى ......... السلاطين الميامين الأكابرْ[/size][size=32]
[/size][size=32]فكم أَدَّبتُمُ عِلْجاً عصيّاً ................ عَتيًّا من أَباطرَ أو أكاسرْ[/size][size=32]
[/size][size=32]و يا حِبَّ النبيِّ إليك أشكو ........... تفرُّقَنا، وتقْطيعَ الأَواصرْ[/size][size=32]
[/size][size=32]بنيتَ لنا وضيّعْنا وإنّا ................ لنرجو اللهَ تزكيةَ الضمائرْ[/size][size=32]
[/size][size=32]وسِيءَ الفاتحون فقد أضَعنا ........... مَفاتِحَهُمْ وضِقْنا بالشَعائرْ[/size]
[size=32]أبا أيوب هب لي منك سيفاً ...... فقد يزهو الحسامُ بكفِّ شاعرْ[/size]
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ الطبريُّ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، والطَبرانيُّ، والحاكمُ وصَحَّحَهُ، عَنْ أَبي راشِدٍ الحبرانيِّ قال: رَأَيْتُ المِقْدادَ بْنَ الأَسْوَدِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فارِسَ رَسولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، بِحِمْصَ يُريدُ الغَزْوَ، فقلْتُ: لَقَدْ أَعْذَرَ اللهُ تَعالى إلَيْكَ. فقالَ: أَبَتْ عَلَيْنا سُورَةُ البُعوثِ "انْفِروا خِفافاً وثِقالاً". يَعْني بذلك سُورَةَ التَوبَةِ.
وكذلك فَعَلَ سَعيدُ بْنُ المُسيَّبِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فيما روى الزُهري عنه، حينَ قالوا لَهُ: إنَّ اللهَ أَعْفاكَ مِنَ الخُروجِ إلى المَعْرَكَةِ بقولِهِ تَعالى في سُورَةِ الفَتْحِ: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المَريضِ حَرَجٌ} الآية: 17. وقد ذهبت إحدى عينيه ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه، فقالَ: واللهِ أُكَثِّرُ سَوادَ المُسْلِمينَ وَأَحْرُسُ مَتَاعَهم.
فلِما تقدَّمِ ولِما كان مِثْلَهُ ممَّا رُوِيَ عَنِ الصَحابَةِ والتابعين ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهم أَجمعينَ، فإنَّ ما رُوِيَ مِنْ نَسْخها غيرُ صحيحٍ، وَقيل: إنَّ هَذِهِ الآيَةُ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بعد ذلك: {لَّيْسَ عَلَى الضُعَفَاءِ وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للهِ وَرَسُولِهِ} سُورَةُ التَوبَةِ، الآية: 91. واللهُ أَعْلَمُ.
و "خِفَافًا" مِنَ الخِفَّةِ، وهيَ حالةٌ للجِسْمِ تَقْتَضي أنْ يَكونَ سَهْلَ التَنَقُّلِ سَهْلَ الحَمْلِ. و "ثِقالاً" ضِدُّ ذلك. والخِفافُ والثِقالُ هُنا مُستَعاران لما يُشابِهُهُما مِنْ أَحْوالِ الجيشِ وعلائقِهم، فالخِفَّّةُ تُستَعارُ للإسْراعِ إلى الحَرْبِ، لِدَلالَتِها على الشَجاعَةِ والنَجْدَةِ، قالَ قُرِيْطُ بْنُ أَنيفٍ العَنْبَرِيُّ:
قومٌ إذا الشَرُّ أَبْدى ناجذيْهِ لهم .......... طاروا إليْهِ زُرافاتٍ وَوِحْدانافالثِقْلُ الذي يُناسِبُ هذا هُوَ الثَباتُ في القِتالِ كما في قولِ أَبي الطَيِّبِ:
ثقالٍ إذا لاقَوْا خِفافٍ إذا دُعُوا ......... كثيرٍ إذا شَدُّوا قليلٍ إذا عُدُّواوهذا البيتُ من قصيدةٍ له في مَدْحِ عَليٍّ ابْنِ يَسار، ومنها:سَأَطْلُبُ حقِّي بالقَنَا ومَشايخٍ .......... كأنَّهم مِنْ طولِ ما أُلْثِمُوا مُرْدُثِقالٍ إذا لاقَوْا خِفافٍ إذا دُعُوا ......... كثيرٍ إذا شَدُّوا قليلٍ إذا عَدُّواوطَعْنٍ كَأَنَّ الطَّعنَ لا طَعْنَ عِنْدَهُ ...... وضَرْبٍ كأَنَّ النَّارَ مِنْ حَرِّهِ برْدُإذا شِئْتُ حَفَّتْ بي على كُلِّ سابِحٍ ... رِجالٌ كأَنَّ المَوْتَ في فَمِها شَهْدُومِنْ نَكَدِ الدُّنيا على الحُرِّ أَنْ يَرَى ......... عَدُوّاً لَهُ ما مِنْ صَدَاقَتِهِ بُدُّبِقَلبي وإنْ لم أُرْوَ مِنْها مَلالَةٌ ........ وبي عَنْ غَوانيها وإنْ وَصَلَتْ صَدُّوتُسْتَعارُ الخِفَّةُ لِقِلَّةِ العَدَدِ، والثِقَلُ لِكَثْرَةِ عَدَدِ الجَيْشِ، كما تَقَدَّمَ في قولِ قُرَيْطٍ: "زُرافاتٍ ووحْدانا". كما تُسْتَعارُ الخِفَّةُ لِلكَرِّ والهُجومِ على الأَعْداءِ، والثِقَلُ للثباتِ في القتالِ. وتُسْتَعارُ الخِفَّةُ كذلك لِقِلَّةِ الزادِ أَوِ السِلاحِ، والثِقلُ لِكثرتِهِ. وتُسْتَعارُ الخِفَّةُ أيْضاً لِقِلَّةِ العِيالِ، والثِقلُ لِضِدِّه. وتُسْتَعارُ الخِفَةُ للرُكوبِ لأنَّ الراكِبَ أَخَفُّ سَيراً، والثقلُ للمَشْيِ على الأَرْجُلِ، وذلِكَ في وَقْتِ القِتالِ. قالَ النابِغَةُ:
على عارِفاتٍ للطِعانِ عَوابِسٍ .............. بهنَّ كُلومٌ بَينَ دَامٍ وجالِبِإذا استُنْزِلوا عَنْهُنّ للطَعْنِ أَرْقَلوا .... إلى المَوْتِ إرْقالَ الجِمالِ المَصاعِبِ
والإرقالُ نوعٌ مِنْ سَيْرِ الناقةِ سَريعٌ، والبَيْتَانِ مِنْ قَصيدتِهِ المَشْهورَةِ في مَدْحِ عَمْرٍو بْنِ الحارِثِ الغَسَّانيِّ، ومِنْها:
كِلِينِي لِهَمِّ يا أُمَيْمَةَ ناصِب ............. ولَيْلٍ أُقاسِيهِ بَطِيءِ الكَواكِبِ
تَقاعَسَ، حتَّى قلتُ: لَيْس بمُنْقَض .. ى ولَيْس الذي يَرْعَى النُّجومَ بآيبِ
وصَدْرٍ أَرَاحَ الليلُ عازِبَ هَمِّهِ ..... تَضاعَفَ فيه الحُزْنُ مِنْ كُلِّ جانِبِ
عَلَيَّ لعَمْرٍو نِعْمَةٌ بَعْدَ نِعْمَةٍ .............. لِوالِدِهِ لَيْسَتْ بِذاتِ عَقاربِ
حَبَوْتُ بها غَسّان إذ كنتُ لاحقاً ...... بِقومي وإذْ أَعْيَتْ عليَّ مَذَاهِبي
لهم شِيمةُُ لم يُعْطِها اللهُ غيرَهم ........ من النَّاسِ والأحلامُ غيرُ عَوَازبِ
ولا عيبَ فيهم غير أنّ سيوفهم .......... بهن فلولٌ من قِراع الكتائبِ
إِذا ما غَزْوا بالجَيْشِ حَلَّقَ فَوْقَهُمْ ....... عَصائِبُ طَيْرٍ تَهْتَدِي بعَصائِبِ
ولا يَحْسِبُونَ الخَيْرَ لا شَرَّ بَعْدَهُ ...... ولا يَحْسِبُونَ الشَّرَّ ضَرْبَةَ لازبِ
وأَخيراً فإنَّ الخِفَّةَ تُسْتَعارُ لِقِلَّةِ الذُنوبِ ومن ذلك قولُهُ ـ صلى اللهُ عليه وسلّم: ((فازَ المُخِفُّونَ)). أَخْرَجَهُ الحاكِمُ في الأَهْوالِ مِنْ مُسْتَدْرَكِهِ، عَنْ أَبي الدَرْداءِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. المَقاصِدُ الحَسَنَةُ للسَخاوي: (1/ 478). وكلُّ هذِهِ المعاني صالحةٌ، والمقْصودُ الأَمْرُ بالنَفيرِ في جميعِ الأحوال. فقال بَعضُهم هذا أَمْرٌ عامٌّ لجميعِ المؤمنين تَعَيَّنَ بِهِ الفَرْضُ على الأَعْيانِ في تِلْكَ المُدَّةِ، ثمَّ نَسَخَهُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، بقولِهِ: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} سورة التوبة، الآية: 122، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الحَسَنِ وعِكْرِمَةَ، وقالَ أكثرُ أهلِ العلم: بلْ هذا حَضٌّ والأَمْرُ في نَفْسِهِ مَوْقوفٌ على فَرْضِ الكِفايَةِ ولم يُقْصَدْ بالآيَةِ فَرْضُهُ على الأَعيانِ.
قولُه: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ} الجهادُ مُشْتَقٌّ مِنَ الجُهْدِ. و "بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ" أَوْجَبَ الجهادَ بهِما إنْ أَمْكَنَ، وبِأَحَدِهِما عِنْدَ إمكانِه وإعوازِ الآخَرِ، فمَنْ ساعدَهُ النَفْسُ والمالُ جاهَدَ بهما، ومَنْ ساعدَهُ المالُ دونَ النَفْسِ يَغْزو مَكانَه مَنْ حالُه على عَكْسِ حالِه. وإلى هذا ذَهَبَ كَثيرٌ مِنَ العُلماءِ، وقيلَ: هُو إيجابٌ للقِسْمِ الأَوَّلِ فَقَط، وفيه قولان:
القول الأوَّلُ: أَنَّ هذا يَدُلُّ على أَنَّ الجِهادَ إنَّما يَجِبُ على مَنْ لَهُ المالُ والنَفْسُ، فَدَلَّ عَلى أَنَّ مَنْ لمْ يَكُنْ لَهُ نَفْسٌ سَليمَةٌ صالحةٌ للجِهادِ، وليس له مالٌ يَحوزُ بِهِ عدَّةَ الجِهادِ فلا يَجِبُ عَلَيْهِ الجهادُ.
والقول الثاني: أَنَّ الجهادَ يجِبُ بالنَفْسِ إذا انْفَرَدَ وقَوِيَ عَليْه،
وبالمالِ إذا ضَعُفَ عَنِ الجِهادِ بِنَفْسِهِ. وقدْ ذَهَبَ إلى هذا القَوْلِ كَثيرٌ مِنَ العُلَماءِ.
ورَوَى أَبو داوودَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، قال: "جاهِدوا المُشْرِكينَ بِأَمْوالِكم وأَنْفُسِكُم وأَلْسِنَتِكُم". وَهَذا وَصْفٌ لأَكْمَلِ ما يَكونُ مِنَ الجِهادِ وأَنْفَعِهِ عِنْدَ اللهِ تَعالى.
وقد فصَّلَ العُلَماءُ في الجهادِ فَقالوا: قد تَكونُ حالةٌ يَجِبُ فيها نَفيرُ الكُلِّ، وذلك إذا تَعَينَ الجِهادُ بِغَلَبَةِ العَدُوِّ على قُطْرٍ مِنَ الأقطار، أَوْ بِحُلولِهِ بعُقْرِ الدارِ، وجَبَ على جميعِ أَهْلِ تِلكَ الدارِ أَنْ يَنْفُروا ويَخْرُجوا إِلَيْهِ خِفافاً وثقالاً، شَباباً وشُيوخاً، كُلٌّ عَلى قَدْرِ طاقَتِهِ، مَنْ كانَ لَهُ أَبٌ بِغَيرِ إِذْنِهِ، ومَنْ لا أَبَ لَهُ، ولا يَتَخَلَّفُ أَحَدٌ يَقْدِرُ عَلى الخُروجِ، مِنْ مُقاتِلٍ أَوْ مُكَثِّرٍ. فإنْ عَجَزَ أَهْلُ تِلْكَ البَلْدَةِ عَنِ القِيامِ بِعَدُوِّهم كانَ على مَنْ قارَبهم وجاوَرَهم أَنْ يَخْرُجوا على حَسَبِ ما لَزِمَ أَهْلَ تِلْكَ البَلْدَةِ، حتى يَعْلَموا أَنَّ فيهم طاقةٌ على القيامِ بهم ومُدافَعَتِهم.
وكذلك كُلُّ مَنْ عَلِمَ بِضَعْفِ أهل ديارِ المسلمين المعتَدى عليها عَنْ عَدوِّهم، وعَلِمَ أَنَّه يُدْرِكُهم ويُمْكِنُهُ غِياثُهم، لَزِمَهُ أَيْضاً الخُروجُ إليْهم، فالمُسْلِمونَ كُلُّهم يَدٌ عَلى مَنْ سِواهُمْ، حتى إذا قامَ بِدَفْعِ العَدُوِّ أَهْلُ الناحيةِ التي نَزَلَ العَدُوُّ عَلَيْها واحْتَلَّ بها، سَقَطَ الفَرْضُ عَنِ الآخَرين. ولو قارَبَ العدوُّ دارَ الإسلامِ ولمْ يَدْخُلوها لَزِمَهم أَيْضاً الخُروجُ إلَيْهِ، حتى يَظْهَرَ دينُ اللهِ وتُحْمى البَيْضَةُ وتُحْفَظَ الحَوْزَةُ ويَخْزى العدوُّ، وهذا مما لا خِلافَ فيه.
ويجِبُ على الإمامِ توجيهُ طائفةٍ إلى العَدُوِّ كلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، يَخْرُجُ معهم بِنَفْسِهِ، أو مَنْ يَثِقُ بِهِ لِيْدُعوهُم إلى الإسْلامِ ويُرَغِّبَهم به، ويَكفَّ أَذاهُم ويُظْهِرِ دِينَ اللهِ عَلَيْهم حتى يَدْخُلوا في الإسْلامِ أَوْ يُعْطُوا الجِزْيَةَ.
ومِنَ الجِهادِ ما هُو نافِلَةٌ، وهوَ إخْراجُ الإمامِ طائفةً بعدَ طائفةٍ وبَعْثُ السَرايا في أَوْقاتِ الغُرَّةِ وعِنْدَ إمْكانِ الفُرصَةِ، والارْصادُ لهم بالرِباطِ في مَوْضِعِ الخَوْفِ وإظْهارِ القُوَّةِ.
قولُه: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} لأَنَّ فِي ذَلِكَ خَيْرُ المُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، لأَنَّهُ لاَ عِزَّ لِلأُمَمِ، وَلاَ سِيَادَةَ إِلاَّ بِالْقُوَّةِ الحَرْبِيَّةِ، وَفِيهِ أَيْضاً خَيْرُهُمْ فِي الدِّينِ لأَنَّهُ لاَ سَعَادَةَ لِمَنْ لَمْ يَنْصُرِ الحَقَّ، وَيُقِمِ العَدْلَ بِاتِّبَاعِ الْهُدَى وَالعَمَلِ بِشَرْعِ اللهِ. و "ذلكم" أيْ ما ذُكِرَ مِنَ النَفيرِ والجهادِ، وما في اسْمِ الإشارةِ مِنْ مَعنى البُعْدِ للإيذانِ بِبُعْدِ مَنْزِلَتِهِ في الشَرَفِ و "خَيْرٌ لَّكُمْ" أَيْ خَيرٌ عَظيمٌ في نَفْسِهِ أَوْ خيرٌ مما يَبْتَغى بِتَرْكِهِ مِنْ الراحَةِ والدَعَةِ وسَعةِ العيشِ والتَمَتُّعِ بالأَمْوالِ والأَوْلادِ، وإبهامُ "خَيْرٌ" لِقَصْدِ تَوَقُّعِ خَيرِ الدُنْيا والآخِرَةِ مِنْ شُعَبٍ كَثيرةٍ أَهمُّها الاطْمئنانُ مِنْ أَنْ يَغْزوهم العدوُّ ولذلكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: "إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ" فيه تَنْبيهٌ للنُفوسِ وهَزٌّ لها، أَيْ: إنْ كُنْتُمْ تَعلمونَ ذَلكَ الخَيرَ وشُعَبَهُ. لعَلِمْتمْ أَنَّهُ خَيرٌ، إذْ لا احْتِمالَ لِغيرِ الصِدْقِ في إخْبارِ اللهِ تَعالى فبادِرُوا إِلَيْهِ. وفي اخْتِيارِ فِعْلِ العِلْمِ دُونَ غيرِهِ مِنَ الأَفْعالِ، كالإيمانِ مَثَلاً، إشارةٌ إلى أَنَّ مِنْ هذا الخَيرِ ما يَخْفى فيَحْتَاجُ مُتَطَلِّبُ تَعيينِ شُعَبِهِ إلى إعمالِ النَظَرِ والعلم. وقدْ صَحَّ أَنْ يُقالَ: الجِهادُ خَيرٌ مِنَ القُعودِ عَنْهُ، ولا خَيرَ أَبَداً في القُعودِ عَنِ الجِهادِ، لأَنَّ لَفْظَ "خَيْر" يُسْتَعْمَلُ في مَعْنَيَين: أَحَدُهما: بمعنى هذا خَيرٌ مِنْ ذَاكَ. وثانيهما: بمعنى أَنَّه في نَفسِهِ خيرٌ كقَوْلِهِ تعالى في سورة القصص: {ربِّ إِنّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} الآية: 24. وكقولِهِ في سورةِ العاديات: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخيرِ لَشَدِيدٌ} الآية: 8. وكما يُقالُ: الصَحَّةُ خيرٌ مِنَ اللهِ، أي: هي في نَفْسِها خيرٌ، وقدْ حَصَلَ هذا الخيرُ مِنَ اللهِ تَعالى.
وقد جاءَ في سَبَبِ نُزولِ هَذِهِ الآيَةِ ما أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ عَنِ السُدّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه، قالَ: جاءَ رَجُلٌ زَعَموا أَنَّهُ المِقْدادُ، وكانَ عَظيماً سميناً، فَشَكا إليْهِ وسَأَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فأبى، فَنَزَلَتْ يَومَئِذٍ فيه: "انْفِروا خَفافاً وثِقالاً" فلمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ اشْتَدَّ على الناسِ شَأْنُها، فَنَسَخَها اللهُ تعالى فقال: {لَيْسَ عَلى الضُعَفاءِ ولا عَلى المَرْضَى} الآية. وقد كانت هذه الآية الكريمةُ أَوَّلَ ما أَنْزَلَ اللهُ تَعالى مِنْ هَذِهِ السُورَةِ الكَريمَةِ، جاءَ ذلك فيما أَخْرَجَ الفِريابيُّ، وأَبو الشَيْخِ، عَنْ أَبي الضُحى ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: أَوَّلُ ما نَزَلَ مِنْ (بَراءة): "انفروا خفافاً وثقالاً" ثمَّ نَزَلَ أَوَّلُها وآخِرُها. وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وابْنُ المُنذِرِ، عَنْ أَبي مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مثلَهُ.
قولُهُ تعالى: {خِفَافاً وَثِقَالاً} نَصْبٌ على الحال مِنْ فاعلِ "انفروا". و "خِفَافًا" جمعُ خفيفٍ وهُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنَ الخِفَّةِ، و "ثقالاً" مثلُهُ.
قولُه: {إن كنتم تعلمون} جوابُ "إنْ" الشرطيَّةِ مُقَدَّرٌ دلَّ عليه ما قبله. و "تَعْلَمون" فعلُ العِلمِ هُنا إمَّا متَعَدٍ لِواحِدٍ فَيَكونُ بمعنى "عَرَفَ" تَقليلاً للتَقديرِ، أَوْ مُتَعَدٍّ لاثْنَينِ على بابِه. وجملة "إنْ كُنتم" مُسْتَأْنَفَةٌ.