إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وَإِذَا لَمْ تَنْفِرُوا مَعَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ تَخْرُجُوا مَعَهُ إِلَى الجِهَادِ فَإِنَّ اللهَ سَيُعَذِّبُكُمْ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا، بِزَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْكُمْ وبالإهْلاكِ بأَمْرٍ فَظيعٍ، كَقَحْطٍ وظُهورِ عَدُوٍّ، وغير ذلك من المهلكات، وَفِي الآخِرَةِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ. أَخْرَجَ أَبو داودَ، وابْنُ المُنْذِرِ، وأَبو الشَيْخِ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، وابْنُ مَردويْهِ، والبَيْهَقِيُّ، في سُنُنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما، في قولِهِ تعالى: "إلاَّ تَنْفُروا يُعَذِّبْكم عذاباً أَليماً: قال: إنَّ رَسولَ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، اسْتَنْفَرَ حَيّاً مِنْ أَحْياءِ العَرَبِ فتَثاقَلوا عَنْهُ، فأَنْزَلَ اللهُ هذِه الآيةَ فَأَمْسَكَ عَنْهُمُ المَطَرُ فكانَ ذَلِكَ عَذابَهم. و "أليماً" مَعْناهُ مُؤْلماً، ومِنْهُ قَوْلُ غَيلانَ بْنِ عُقْبَةَ:
ويَرْفَعُ مِنْ صُدورِ شمردلاتٍ ................ يَصكُّ وُجوهَها وَهْجٌ أَليمُ
أي: مؤلم. وقولُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ الزبيدي ـ رضي اللهُ عنه:
وخيلٍ قد دَلَفتُ لها بِخَيْلٍ ................... تحية بَيْنِهم ضَرْبٌ وَجيعُ
أي: مُوجِعٌ. وكذلك قولُهُ:
أَمِنْ رَيْحانَةَ الداعي السَميعُ ................. يُؤَرِّقُني وأَصحابي هُجوعُ
فقولُهُ الداعي السَميعِ يَعني الداعي المُسْمِعِ. والبيتانِ مِنْ قَصيدَةٍ لَهُ قالها حين أَغارَ الصمّةُ بْنُ بَكْرٍ الجُشَمِيُّ في خَيْلٍ مِنْ قَيْسٍ على بَني زبيدٍ رَهْطِ عَمْرٍو فَسَبى الصِمَّةُ بْنُ بَكْرٍ رَيحانَةَ أُخْتَ عَمْرو، ولم يَسْتَطِعْ عَمْرٌو افْتَكاكَها مِنْهُ فَرَغِبَ مِنَ الصِمَّةِ أَنْ يَرُدَّها إليْهِ فأبى، وذَهَبَ بها وهيَ تُنادي يا عمْرُو يا عَمْرُو، فقالَ عَمْرٌو هاتِهِ الأَبياتَ ومنها:
سَباها الصِمَّةُ الجُشَمِيُّ غَصْباً ................ كأَنَّ بياضَ غُرَّتِها صَديعُ
وحالتْ دونَها فُرْسانُ قَيْسٍ ........... تَكَشَّفُ عَنْ سَواعِدِها الدُروعُ
وقدْ أغدُو يُدافعُني سَبُوحٌ ..................... شَديدٌ أسرُهُ نَقَمٌ سريعُ
وخيلٍ قد دَلَفتُ لها بِخَيْلٍ ................... تحية بَيْنِهم ضَرْبٌ وَجيعُ
وأَسْنادُ الأَسِنَّةِ نحوَ نحرِي ..................... وهزُّ المَشرَفيَّةِ والوقُوعُ
فإنْ تَنُبِ النوائبُ آلَ عُصْمٍ ............... ترَى حكَماتِهِمْ فيهَا رُقُوعُ
إذا لم تَسْتَطِعْ شَيْئاً فَدَعْهُ ...................... وجاوِزْهُ إلى ما تَسْتَطِيعُ
وصِلْهُ بالزِماعِ فكُلُّ أمرٍ ................ سَمَا لَكَ أو سُموْتَ لهُ وَلُوعُ
وكِلْهُ للزَمانِ فَكُلُّ خَطْبٍ .............. سَما لَكَ أَوْ سَمَوْتَ لَهُ وَلُوعُ
ثمَّ تَزَوَّجَها الصِمَّةُ فأَوْلَدَها دُرَيْداً وعَبْدَ اللهِ وَقَيْساً وخالداً وعَبْدَ يَغوث.
قولُهُ: {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} وَلاَ يَصْعُبُ عَلَى اللهِ أَنٍ يَسْتَبْدِلَ قَوْماً غَيْرَكُمْ بِكُمْ، يَخِفُّونَ لِنُصْرَةِ نَبِيِّهِ، وَيُجَاهِدُونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، إذْ لا يَقْدَحُ تَثاقُلُكم في نَصْرِ دِينِه شيئاً. وهو كقولَهِ تعالى في سورة محمد: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} الآية: 38. وقد وصفَهم بالمُغايَرَةِ لهم لِتَأْكيدِ الوَعيدِ والتَشْديدِ في التَهْديدِ بالدَلالَةِ على المُغايَرَةِ الوَصْفِيَّةِ والذاتِيَّةِ المُسْتَلْزِمَةِ لاسْتِئْصالهم. فقيلَ المُرادُ بهؤلاءِ القومِ: أَهْلُ اليَمَنِ، وقيلَ غيرُ ذلك، وليس في محلِّهِ، فإنَّ الكلامَ للتَهديدِ، واللهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لا يَقَعُ الشرطُ ولا جَزاؤُهُ. وإنَّما المُرادُ أنْ اللهَ سبحانه، قدْ وَعَدَ رسولَه بالنَصْرِ؛ وإظهارِ دينِهِ، وَلَن يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ، فإنْ لم يَكُنْ هَذا الإِظهارُ بِأَيديكم. فلا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكونَ بأَيْدي غيرِكم.
قولُهُ: {وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَضُرُّ اللهَ، لأَنَّهُ الغَنِيُّ عَنِ العِبَادِ، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ. وقيل: الضَميرُ للرَسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّم؛ فإنَّ الله وعده بالعصمةِ والنُصْرَةِ، ووَعْدُهُ الحقُّ.
قولُهُ: {وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فَهُوَ القَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ، ولا يُعجزِهُ شيءٌ، وإذا ما أرادَ شيئاً إنما يقولُ له كُنْ فيكون. فيَقْدِرُ على التَبْديلِ وتَغْييرِ الأسٍبابِ والنُصْرِةِ بِلا مَدَدٍ، كَما فَعَلَ مَعَهُ في الغارِ والهِجْرةِ، على ما يَأتي.
قالَ ابنُ عباس والحَسَنُ وعِكْرِمَةُ وزيد بنُ أسلم ـ رضي اللهُ عنهم جميعاً: هذِهْ الآيَةُ مَنْسوخَةٌ بِقَوْلِهِ بعد ذلك في الآية: 122. من هذه السورة: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً}, قالَ المحقِّقون: إنَّ هذِهْ الآيَةَ خطابٌ لِمَنْ اسْتَنْفَرَهم رَسُولُ اللهِ ـ صلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَلَمْ يَنْفُروا، وعلى هَذا التَقْديرِ فلا نَسْخَ.
قولُهُ تعالى: {إلاَّ تَنْفُروا يُعَذِّبْكم عذاباً شديداً} إلاَّ تنفروا: شَرْطٌ وجوابُه: " يُعَذِّبْكم". و "عذاباً": نائبُ مفعولٍ مُطْلَقٍ؛ لأنَّهُ اسْمُ مَصْدَرٍ، والمصدرُ "تَعذيب"، و "شديداً" نعتُهُ. وكُتِبَ في المَصاحِفِ "إِلاَّ" مِنْ قولِهِ: "إِلاَّ تَنفِرُوا" بهمزةٍ بعدَها لام أَلِف للدلالة على كيفيَّةِ النُطْقِ بها مُدْغَمَةً، والقياسُ أنْ يُكْتَبَ (إنْ لا) بِنُونٍ بَعْدَ الهَمْزَةِ ثمَّ لام ألف.
قولُه: {ويستبدلْ قوماً غيرَكم} يَسْتَبْدِلْ: معطوفٌ على "يُعَذِبْ" و "قوماً" مفعولٌ به، و "غيرَكم": نَعْتٌ ل "قوماً"، و "غير" نَكِرَةٌ ولو أُضِيفَ؛ لأنَّهُ مُوغِلٌ في الإبهامِ،
قولُه: {ولا تضرّوه شيئاً} والواو للحال: أَيْ يُعذِّبْكم ويَسْتَبْدِلْ قوماً غيرَكم في حالِ أَنْ لا تَضُروا اللهَ شيئاً بِقعودِكم، و "شيئاً": نائبُ مفعولٍ مُطْلَقٍ، أَيْ: ولا تضرُّوه ضَرَراً قليلاً أوْ كثيراً.