وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ
(30)
قولُه ـ تَعالى شأنُه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ} قالَ هذا القولَ فُرْقةٌ مِنَ اليَهودِ فَأُلْصِقَ بهِمْ جميعاً لأَنَّ سُكُوتَ الباقين عَلَيْهِ، وعَدَمَ تَغْييرِهِ يُلْزِمُهمُ المُوافَقَةَ عَلَيْهِ والرِضا بِهِ. وقد خَرَجَ هَذا اللفْظُ على العُمومِ ومعناهُ الخُصوصُ، لأنَّهُ لَيْسَ كُلُّ اليَهودِ قالوا ذَلِكَ، وهذا مِثْلُ قولِهِ تَعالى في سورة آلِ عُمرانَ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ الناسَ قدْ جَمَعُوا لَكُمْ فاخْشَوْهم} الآية: 173. ولم يَقُلْهُ الناسُ كُلُّهم، بَلْ قالَهُ للنَبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، بعضٌ مِنْهم فلَزِمَ الجَماعَةَ شَناعَةُ ما قالوهُ، لأَجْلِ نَباهَةِ القائلِ فِيهِم، وعَدَمِ إِنْكارِهم عَلَيْهِ، وأَقوالُ النُبهاءِ أَبَداً مَشهورةٌ في النَّاسِ يُحْتَجُّ بها، مِنْ ذلكَ قولُكَ: عَبَّرَتِ الدَّوْلَةُ الفُلانيَّةُ عَنْ مَوْقِفِها مِنَ القَضِيَّةِ الفُلانِيَّةِ بِأَنْ قالَتْ كَذا وكَذا، وإنَّما الذي قالَهُ هُوَ رَئيسُها، أَوْ وَزيرُ خارجيَّتِها، أَوْ ناطقٌ باسْمِ حُكومَتِها. فَمِنْ هَهُنا صَحَّ أَنْ تَقولَ الجماعةُ قولَ نَبيهِها. واللهُ أَعْلَمُ.
و "عُزيرٌ": اسْمُ حَبْرٍ كَبيرٍ مِنْ أَحبارِ اليَهودِ الذينَ كانوا في الأَسْرِ البابِلِيِّ، وهو منْ أصلٍ عَرَبيٍّ مُشْتَقٌّ مِنَ العَزْرِ، وهوَ المَنعُ والنَصْرُ والتَأْييدُ، قالَ تعالى في سورة الفتح: {وتُعَزِّروهُ وتُوَقَِّروهُ} الآية: 9. أيْ: تَنْصُروهُ مَعَ التَعْظيمِ والتَفْخيمِ، وهو في العِبرانِيَّةِ (عِزْرا) بِكَسْرِ العَينِ المُهْمَلَةِ، بْنُ (سَرايا) مِنْ سِبْط اللاّويّين، وقدْ ذُكِر اسمُه في الآيةِ بِصِيغَةِ التَصْغيرِ، فيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لمَّا عَرَّبَه العرب اليهودُ في يَسْرِبَ، عُرِّبَ بِصِيغَةٍ تُشْبِهُ صِيغَةَ التَصْغيرِ، ويُحْتَمَلُ أَنَّ تَصْغيرَ اسمِهِ جَرى على لِسانِ يَهودِ المَدينَةِ تحْبيباً فيه، ويجوزُ صرفَ حتى لوْ كان أعْجَمِيّاً لأنَّه على ثلاثةِ أَحْرُفٍ في الأَصْلِ ثمَّ زِيدَتْ عليه ياءُ التَصْغيرِ.
وكانَ العُزَيْرُ حافظاً للتَوراةِ. وقدْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِ مَلِكُ الفُرْسَ (كُورش) حِينَ قَضى على دَوْلَةِ (حمو رابي) البابِلِيَّةِ، فَأَطْلَقَهُ مِنَ الأَسْرِ، وأَطْلَقَ مَعَهُ بَني إسْرائيلَ الذين كانَ (حمورابي) أَسَرَهم بَعْدَ أَنْ قَوَّضَ مَمْلَكَتَهم، فرَجَعوا إلى أُورْشَليمَ وأعادوا بِناءَ هَيْكَلِهم فيها، وذلك سَنَةَ: 451 قبْلَ ميلادِ السَيِّدِ المَسيحِ ـ عليهِ السَّلامُ، فكانَ عِزْرا كبيرَ أَحْبارَ اليَهودِ الذين رَجَعوا بِقَومِهم إلى أُورْشَليمَ، وجَدَّدوا بناءَ الهيكَلِ، وأَعادَ شَريعَةَ التَوراةِ مِنْ حِفْظِهِ، فكانَ اليَهودُ يُعظِّمونَه إلى حَدِّ أَنِ ادَّعى عامَّتُهم أَنَّه ابْنُ اللهِ، غُلُوَّاً مِنْهُمْ في تعظيمِه وتقديسِهِ. وكانَ اللهُ قَدْ رَفَعَ التوراةَ عنِ اليَهودِ ومَحاها مِنْ قلوبِهم، لمّا قَتَلوا أَنْبياءَهم مِنْ بَعْدِ مُوسى ـ عليه وعليهمُ السلامُ، فخَرَجَ عُزَيْرٌ يَسِيحُ في الأرضِ، فأَتاهُ جبريلُ فقالَ: أينَ تَذْهَبُ؟ قالَ: أَطْلُبُ العِلْمَ، فعَلَّمَهُ التوراةَ كلَّها فرَجَعَ عُزَيْرُ بالتَوراةِ إلى بَني إسْرائيلَ فَعَلَّمَهم. وقيلَ: بَلْ حَفَّظَها اللهُ عُزيراً كرامَةً لَهُ مِنْهُ سبحانَه، فقالَ لِبَني إسرائيلَ: إنَّ اللهَ قَدْ حَفَّظَني التوراةَ، فَجَعَلوا يَدْرُسونَها مِنْ عِنْدِهِ. وكانتْ التَوراةُ قد دَفَنَها عُلَماؤهم حين أَصابَهم مِنَ الفِتنِ والبلاءِ والمرضِ ما أَصابهم، وقَتَلَ بُخْتَنَصَّرُ الكثيرَ منهم. ثمَّ إنّهم أَخْرَجوها فإذا هي كما كان عُزيرُ يُدَرِّسُها فضَلُّوا عِنْدَ ذلك وقالوا: إنَّ هذا لم يَتَهَيَّأْ لِعُزيرٍ إلاَّ وهُوَ ابْنُ اللهِ.
أخرج ابنُ أبي حاتمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قولَه في تفسير قولِهِ تعالى: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ"، قال: (وَإِنَّمَا قَالُوا هُوَ ابْنُ اللهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ عُزَيْرًا كَانَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَكَانَتِ التَّوْرَاةُ عِنْدَهُمْ فَعَمِلُوا بِهَا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ، يَعْمَلُوا ثُمَّ أَضَاعُوهَا, وَعَمِلُوا بِغَيْرِ الْحَقِّ وَكَانَ التَّابُوتُ فِيهِمْ فَلَمَّا رَأَى اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، أَنَّهُمْ قَدْ أَضَاعُوا التَّوْرَاةَ وَعَمِلُوا بِالأَهْوَاءِ رَفَعَ اللهُ عَنْهُمُ التَّابُوتَ وَأَنْسَاهُمُ التَّوْرَاةَ وَنَسَخَهَا مِنْ صُدُورِهِمْ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ مَرَضًا فَاسْتَطْلَقَتْ بُطُونَهُمْ مِنْهُ حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ يَمْشِي كَبِدُهُ حَتَّى نَسُوا التَّوْرَاةَ وَنُسِخَتْ مِنْ صُدُورِهِمْ وَفِيهِمْ عُزَيْرُ، فَمَكَثُوا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَمْكُثُوا بَعْدَ مَا نُسِخَتِ التَّوْرَاةُ مِنْ صُدُورِهِمْ، وَكَانَ عُزَيْرُ مِنْ عُلَمَائِهِمْ فَدَعَا عُزَيْرُ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ، وَابْتَهَلَ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِ الَّذِي نُسِخَ مِنْ صَدْرِهِ فَبَيْنَمَا هُوَ يُصَلِّي مُبْتُهِلاً إِلَى اللهِ نَزَلَ عَلَيْهِ نُورٌ مِنَ اللهِ، فَدَخَلَ جَوْفَهُ فَعَادَ إِلَيْهِ الَّذِي كَانَ ذَهَبَ مِنْ جَوْفِهِ مِنَ التَّوْرَاةِ، فَأَذَّنَ فِي قَوْمِهِ، فَقَالَ: يَا قَوْمُ، قَدْ آتَانِي اللهُ التَّوْرَاةَ وَرَدَّهَا إِلَيَّ، فَعَلَّقَ بِعِلْمِهِمْ فَمَكَثُوا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَمْكُثُوا وَهُوَ يُعَلِّمُهُمْ، ثُمَّ إِنَّ التَّابُوتَ نَزَلَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَبَعْدَ ذَهَابَهِ مِنْهُمْ فَلَمَّا رَأَوا التَّابُوتَ عَرَضُوا مَا كَانَ فِيهِ عَلَى الَّذِي كَانَ عُزَيْرُ يُعَلِّمُهُمْ فَوَجَدُوهُ مِثْلُهُ، فَقَالُوا: وَاللهِ مَا أُوتِي عُزَيْرٌ هَذَا إِلاَّ لأَنَّهُ ابْنُ اللهِ".
وأخرجَ أيضاً عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ" إِنَّمَا قَالَتْ ذَلِكَ لأَنَّهُمْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِمُ الْعَمَالِقَةُ، فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا التَّوْرَاةَ وَهَرَبَ عُلَمَاؤُهُمُ الَّذِينَ بَقُوا فَدَفَنُوا كُتُبَ التَّوْرَاةِ فِي الْجِبَالِ وَكَانَ عُزَيْرٌ يَتَعَبَّدُ فِي رُؤُوسِ الْجِبَالِ، لا يَنْزِلُ إِلا فِي يَوْمِ عِيدٍ فَجَعَلَ الْغُلامُ يَبْكِي، وَيَقُولُ: رَبِّ تَرَكْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِغَيْرِ عَالِمٍ فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِيهِمْ حَتَّى سَقَطَ أَشْغَارُ عَيْنَيْهِ فَنَزَلَ مَرَّةً إِلَى الْعِيدِ، فَلَمَّا رَجَعَ إِذَا هُوَ بِامْرَأَةٍ قَدْ مَثَلَتْ لَهُ عِنْدَ قَبْرٍ مِنْ تِلْكِ الْقُبُورِ تَبْكِي، وَتَقُولُ: يَا مُطْعِمَاهُ يَا كَاسِيَاهُ، فَقَالَ لَها: وَيْحَكَ مَنْ كَانَ يُطْعِمُكِ أَوْ يَكْسُوكِ أَوْ يُسْقِيكِ أَوْ يَنْفَعُكِ قَبْلَ هَذَا الرَّجُلِ ؟ قَالَتِ: اللهُ، قَالَ: فَإِنَّ اللهَ حَيُّ لَمْ يَمُتْ، قَالَتْ: يَا عُزَيْرُ فَمَنْ كَانَ يُعَلِّمُ الْعُلَمَاءَ قَبْلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: اللهُ، قَالَتْ: فَلَمْ تَبْكِ عَلَيْهِمْ؟ فَلَمَّا عَرَفَ أَنَّهُ قَدْ خَصَمَ وَلَّى مُدْبِرًا فَدَعَتْهُ، فَقَالَتْ: يَا عُزَيْرُ، إِذَا أَصْبَحْتَ غَدًا فَأْتِ نَهَرَ كَذَا وَكَذَا، فَاغْتَسَلْ فِيهِ، ثُمَّ اخْرُجْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ، فَإِنَّهُ يَأْتِيكَ شَيْخٌ فَمَا أَعْطَاكَ فَخُذْهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ انْطَلَقَ عُزَيْرٌ إِلَيَّ ذَلِكَ النَّهَرِ وَاغْتَسَلَ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَأَتَاهُ شَيْخٌ، فَقَالَ: افْتَحْ فَمَكَ فَفَتَحَ فَمَهُ فَأَلْقَى فِيهِ شَيْئًا كَهَيْئَةِ الْجَمْرَةِ الْعَظِيمَةِ مُجْتَمِعٌ كَهَيْئَةِ الْقَوَارِيرِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَرَجَعَ عُزَيْرٌ وَهُوَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالتَّوْرَاةَ، فَقَالَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِالتَّوْرَاةِ، فَقَالُوا: مَا كُنْتَ كَذَّابًا فَعَمَدَ فَرُبِطَ عَلَى كُلِّ أُصْبُعٍ لَهُ قَلَمَا، ثُمَّ كَتَبَ بِأَصَابِعِهِ كُلِّهَا فَكَتَبَ التَّوْرَاةَ فَلَمَّا رَجَعَ الْعُلَمَاءُ أُخْبِرُوا بِشَأْنِ عُزَيْرٍ، وَاسْتَخْرَجَ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءُ كُتُبَهُمُ الَّتِي كَانُوا رَفَعُوهَا مِنَ التَّوْرَاةِ فِي الْجِبَالِ، وَكَانَتْ فِي خَوَابٍ مَدْفُونَةٍ فَعَرَضُوهَا بِتَوْرَاةَ عُزَيْرٍ فَوَجَدُوهَا، مِثْلَهَا فَقَالُوا: مَا أَعْطَاكَ اللهُ إِلاَّ وَأَنْتَ ابْنُهُ".
قولُهُ: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ} وكذلك فَقَدِ ادَّعَتِ النَّصَارَى أَنَّ المَسِيحَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، هُوَ ابْنُ اللهِ، وهُوَ ظاهِرُ قَوْلِهم، وإنَّما أَرادوا بُنُوَّةَ النَسْلِ، كما تَقَدَّمَ مِنْ قوْلِ العَرَبِ في المَلائكَةِ الكرامِ ـ عليهِمُ السَّلامُ، وهذا أَشْنَعُ الكُفْرِ. فقد أَطْبَقَتِ النَّصارَى عَلى أَنَّ المَسيحَ إلَهٌ وإنَّهُ ابْنُ إِلهٍ. ويُقالُ إنَّ بَعْضَهم يَعْتَقِدُها بُنُوَّةَ حُنُوٍّ ورَحمةٍ وعنايَةٍ وتَرْبِيَةٍ ورُبُوبيَّةٍ، ولَطَالمَا رَكَّزْتُ في لِقاءاتٍ كَثيرةٍ، ومناسباتٍ عديدةٍ جمَعَتْني بِأُدباءَ ومُثَقَّفينَ نَصارَى على هذا الجانِبِ، فما سمعتُ منهم إنكاراً لَهُ، لأنَّهُ الأكثرَ معقوليَّةً.
أَخرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ مولى ابنِ عباسٍ ـ رضيَ اللهُ عنهُما، أنَّه قَالَ: "قَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ، وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، وَقَالَ الصَّابِئُونَ: نَحْنُ نَعْبُدَ الْمَلائِكَةَ مِنْ دُونِ اللهِ، وَقَالَتِ الْمَجُوسُ: نَحْنُ نَعْبُدُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مِنْ دُونَ اللهِ، وَقَالَ أَهْلُ الأَوْثَانِ: نَحْنُ نَعْبُدُ الأَوْثَانَ مِنْ دُونِ اللهِ. فَأَوْحَى اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، إِلَى نَبِيِّهِ الكريم ـ عليه أفضلُ الصلاةِ وأكملُ التسليم،: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لم يلدْ ولم يولدُ ولم يكنُ لَّهُ كفواً أَحَدٌ}. وذلك لِيُكَذِّبَ قَوْلَهُمْ، وليَدْحَضَ دَعْواهم.
قولُهُ: {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} فهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ بِأَفْوَاهِهِمْ، وَلاَ سَنَدَ لَهُمْ فِيمَا ادَّعُوهُ سِوَى افْتِرَائِهِمْ وَاخْتِلاَقِهِمْ على مَوْلاهُم ـ جَلَّ وعَلا، وَهُمْ يُشَابِهُونَ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا قَبْلَهُمْ مِنَ الأُمَمِ التِي ضَلَّتْ كَمَا ضَلَّ هَؤُلاَءِ. أَيْ: أَنَّ ذَلِكَ الذي قالوهُ في شَأْنِ العُزَيْرِ والمَسيحِ، إنَّما لاكتْهُ أَلْسِنَتُهم في أَفْواهِهِم دونَ تفكُّرٍ ولا تَعَقُّلٍ، فإنَّه لا سنَدَ لهم ولا مستندَ لديهم فيما زَعَموهُ، وما هُوَ إلاَّ افتِراءٌ وافتِئاتٌ واخْتِلاقٌ، وهوَ مِنَ الأَلْفاظِ التافهةِ التي لا وَزْنَ لها ولا قِيمة، وإنَّ الأَدلَّةُ العِلْمِيَّةَ السَمْعِيَّةُ منها والعَقْليَّة نَصَّتْ على اسْتِحالَةِ أَنْ يَكونَ للهِ وَلَدٌ أَوْ والِدٌ أَوْ صاحِبَةٌ أَوْ شَريكٌ. وقدْ حاجَّهُمُ اللهُ سُبْحانَهُ، في سُورَةِ آلِ عُمْرانَ بِأَنَّه قَدْ خلقَ آدَمَ مِنْ غَيرِ أَبٍ أَوْ أُمٍّ، فقالَ: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الحَقُّ مِنْ رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين} الآيتان: 59 و60. فكان أَوْلى بِنِسْبَةِ البُنُوَّةِ إليه، وبِحَسَبِ مِقياسِهم فإنَّ اللهَ سبحانَه، هو أَبٌ له وأُمٌّ في آنٍ إذاً! تعالى اللهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوّاً كَبيراً.
وفي قولِهِ: "ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ" ذمٌّ لهم على ما نَطَقوا بِهِ، لأنَّ العقلَ السَليمَ يَمُجُّهُ، والفُكرَ القويمَ لا يُسيغُه. قالَ تَعالى في سورةِ مريم: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} الآيات: 92 ـ 95. وأَنْذَرَ الذين نَسَبُوا إلَيْهِ الوَلَدَ بالعِقابِ الشَديدِ فقال في سورةِ الكَهْفِ: {وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً * مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} الآيتان: 4 و 5.
وقد أَسْنَدَ القولَ إلى الأَفواهِ مَعَ أَنَّهُ لا يَكونُ إلاَّ بها، زِيادَةً في تَأْكيدِ نِسْبَةِ هذا القولِ إليهم، أَيْ: أنَّه قولٌ صادرٌ مِنْهم ولَيْسَ مَحْكِيّاً عَنْهم. ولاسْتِحْضارِ الصُورَةِ الحِسِّيَّةِ الواقِعِيَّةِ، حَتّى لَكَأَنَّها مَسْموعَةٌ مَرْئيَّةٌ، ولِبيانِ أَنَّ هذا القولَ لا وُجُودَ لَهُ في عالَمِ الحَقيقةِ والواقِعِ، وإنَّما هُوَ لَغْوٌ ساقِطٌ وَليدُ الخَيالاتِ والأَوْهامِ.
ويُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ المُرادُ بالقولِ المذهَبَ، كما تقولُ هذا قولُ أَبِي حَنيفَةَ، وهذا قولُ الأَشاعِرَةِ ... إلخ. وتَعْني المَذْهَبَ، فقَدْ عُلِمَ أَنَّ قُدَماءَ الوَثنيين في الشَرَقِ والغَرْبِ كانوا يحملون عَقيدةَ الابنِ للهِ والتَثليثِ والحلولِ، وكانَتْ هذهِ العقيدةُ مَعروفةً عند البراهِمَةِ في الهِنْدِ والصِينِ واليابان، وعِنْدَ قُدَماءِ الفرسِ والمصريين. فيكونُ ذكرُ هذه الحَقيقةِ التاريخيَّةِ التي بَيّنَها القُرآنُ مِنْ مُعْجِزاتِهِ لأنَّهُ ما مِنْ أَحَدٍ مِنَ العَرَبِ، ولا ممّنْ حَوْلَهم يعرفها، بَلْ لمْ تُعرفْ إلاَّ بعد مئاتِ السنين مِنَ المُكتشفاتِ الأَثَرِيَّةِ، فإنَّ هؤلاءِ الضّالّينَ قد شابهوا بما ادَّعوهُ قولَ الذين كَفَروا مِنَ الأَمَمِ قَبْلَهم.
وقولُهُ: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ} ذَمٌّ لهم وتَعجيبٌ مِنْ شَناعَةِ قولِهم، ودُعاءٌ عَليْهِم بالهَلاكِ، فإنَّ مَنْ قاتَلَهُ اللهُ لا بُدَّ هالكٌ، ومَنْ غالَبَهُ لا بُدَّ مغلوبٌ. وعنِ ابْنِ عبّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهُما، أَنَّ معنى "قَاتَلَهُمُ الله" لَعَنَهمْ، وكُلُّ شيْءٍ في القُرآنِ "قَتْلٌ" فَهُوَ "لَعْنٌ". ومِنْهُ قولُ أَبَان بْنِ تَغْلِبٍ:
قاتَلَها اللهُ تَلْحاني وَقَدْ عَلِمَتْ .......... أَني لِنَفْسيَ إِفْسادي وإصْلاحي
وأَصْلُها دُعاءٌ، ثمَّ كَثُرَ في اسْتِعمالِهم حَتى قالوهُ عَلى التَعَجُّبِ في الخيرِ والشَرِّ كذلك، وهم لا يُريدون به الدُعاءَ. وأَنْشدَ الأَصمَعيُّ لابْنِ الدُمَيْنَةِ:
يا قاتَلَ اللهُ سَلمى كَيفَ تُعْجِبُني ........... وأُخْبِرُ الناسَ أَنّي لا أُبالِيها
وقوله: {أنى يُؤْفَكُونَ} تَعْجيبٌ آخَرُ مِنِ انْصِرافِهِمُ الشَديدِ عَنِ الحَقِّ الواضِحِ إلى الباطِلِ المُظْلِمِ. فكَيْفَ يَضِلُّونَ عَنِ الحَقِّ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَكَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنْهُ إِلَى البَاطِلِ وهو فاضحٌ، فإنَّ "أَنَّى" هي بمعنى كيف. و "يُؤْفَكُونَ" مِنَ الإِفْكِ بمَعنى الانْصِرافِ عَنِ الشَيءِ، قال تعالى في سورة الذاريات: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} الآيتان: 8 ـ 9. أَيْ: يُصْرَفُ عَنْهُ مَنْ صُرِفَ. يُقالُ، أَفَكَهُ عَنِ الشَيءِ يَأْفِكُهُ أَفْكاً، أي: صَرَفَهُ عَنْهُ وقَلَبَهُ. ويُقالُ: أَفَكَتِ الأَرْضُ أَفْكاً، أيْ: صُرِفَ، عَنْها المَطَرُ.
وجاء في سَبَبِ نُزول هذه الآيةِ المباركة ما أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبي حاتمٍ، وابْنُ إسْحقَ، وابْنُ جَريرٍ الطبريُّ، وابْنُ مردويْهِ، وأبو الشيخ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أنّه قَالَ: (أَتَى رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَلامُ بْنُ مِشْكَمٍ، وَنُعْمَانُ بْنُ أَوْفَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ دِحْيَةَ، وَشَاسُ بْنُ قَيْسٍ، وَمَالِكُ بْنُ ضَيْفٍ، فَقَالُوا: كَيْفَ نَتَّبِعُكَ وَقَدْ تَرَكْتَ قِبْلَتَنَا وَأَنْتَ لا تَزْعُمُ أَنَّ عُزَيْرًا ابْنُ اللهِ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ ... ".
قولُهُ تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرُ ابْنُ اللهِ} عُزيْرُ: مُبْتَدأٌ، و "ابْنُ" خبرُه، والجُمْلَةُ في محَلِّ نَصْبٍ بالقولِ، ومِثْلُها جَمْلةُ: "المسيح ابْنُ الله".
ويجوزُ أَنْ يكونَ: "عُزَيْرُ" مَرْفوعاً بالابْتِداءِ، وأنْ يكونَ "ابْنُ" صِفَةً لهُ، والخَبرُ محذوفٌ، والتقديرُ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ نَبِيُّنا، أَوْ إِمامُنا أَوْ رَسُولُنا، لأَنَّهُ مَتى وَقَعَ الابْنُ صِفَةً بَينَ عَلَمينِ غَيرَ مَفْصُولٍ بَيْنَهُ وبَينَ مَوصُوفِهِ، حُذِفَتْ أَلِفُهُ خَطّاً وتَنْوينُهُ لَفْظاً، ولا تَثْبُتُ إلاَّ ضَرورَةً، وقد تقدَّم.
ويجوزُ أَنْ يَكونَ "عزيرُ" خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ، أَيْ: نَبيُّنا عُزَيْرٌ و "ابْنُ" صِفَةٌ لَهُ أَوْ بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيانٍ.
قولُه: {بِأَفْواهِهِم} جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِحالٍ مِنْ "قولهم"، وجملة: "يضاهئون" حالٌ مِنْ الضَميرِ في "قولهم".
قولُه: {قاتلهم الله أنّى يؤفكون} أَنَّى: اسْمُ اسْتِفْهامٍ حالٌ، وجملةٌ: "قاتلهم" مُسْتَأْنَفَةٌ، وجملة: "يؤفكون" حالٌ مِنْ هاءِ "قاتلهم".
قرَأَ العامَّةُ: {عُزيْرُ} مِنْ غَيرِ تَنْوينٍ، إمَّا أَنَّه حُذِفَ لالْتِقاءِ الساكِنَينِ كما هيَ قِراءةُ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدُ اللهُ الصَمَدُ}. وإمّا أَنَّ تَنْوينَهُ حُذِفَ لِوُقوعِ الابْنِ صِفَةً لَهُ، أوْ أَنَّهُ إنَّما حُذِفَ لِكَوْنِهِ ممنوعاً مِنَ الصَرْفِ للتَعريفِ والعُجْمَةِ، ولم يُرْسَمْ في المُصْحَفِ إلاَّ ثابتَ الأَلِفِ، وهذا يؤيِّدُ مَنْ جَعَلَهُ خَبراً.
وقرأ عاصِم والكِسائيُّ: "عُزَيْرٌ" منوَّناً، فيُحتَمَلُ أَنْ يَكونَ أَعْجَمِيّاً، ولكنَّهُ خَفيفُ اللَّفظِ كَنُوحٍ ولُوطٍ، فصُرِفَ لخِفَّةِ لَفْظِهِ، فإنَّ هذا الاسمَ ونحوَهُ يَنْصَرِفُ عَجَمِيّاً كان أَوْ عَرَبِيّاً وهو قولُ أَبي عُبَيْدٍ، يَعني أَنَّه تَصغيرُ "عَزَرَ" فحُكْمُهُ حُكْمُ مُكَبَّرِهِ. وقدْ رُدَّ هذا القولُ عَلى أَبي عُبَيْدٍ بأنَّه ليسَ بِتَصْغيرٍ، إنَّما هُو أَعْجَمِيٌّ جاءَ على هَيْئَةِ التَصْغيرِ في لِسانِ العَربِ، فهو كَسُلَيْمان جاءَ على مِثالِ عُثَيْمان وعُبَيْدان.
وقرَأَ العامَّةُ: {يُضَاهُونَ} بِضَمِّ الهاءِ بَعْدَها واوٌ، وقرأ عاصم "يُضاهئون" بهاءٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَها همزةٌ مَضْمومَةٌ، بعدَها واوٌ. فقيل: هما بمَعنىً واحدٍ وهُوَ المَشابَهَةُ، وفيه لُغَتان: ضاهَأْتُ وضاهَيْتُ، بالهَمزَةِ والياءِ، والهَمْزُ لُغَةُ ثَقيف. وقيلَ: الياءُ فَرْعٌ عَنِ الهَمْزِ كما قالوا: قَرَأْتُ وقَرَيْت، وتَوَضَّأْتُ وتَوَضَّيْتُ، وأَخْطَأْتُ وأَخْطَيْتُ. وقيل: بَلْ يُضاهِئُونَ بالهَمْزِ مَأْخُوذٌ مِنْ يُضاهِيُوْن، فلمَّا ضُمَّتِ الهاءُ قُلِبَتْ همزةً. وهذا خَطَأٌ لأنَّ مثلَ هذِهِ الياءِ لا تَثْبُتُ في هذا الموضعِ حَتّى تُقْلَبَ همزةً، بَلْ يُؤدِّي تَصْريفُهُ إلى حَذْفِ الياءِ نحوَ "يُرامُون" مِنَ الرَمْيِ، و "يُماشُونَ" مِنَ المَشْيِ. وزَعَمَ بعضُهم أَنَّه مَأْخوذٌ مِنْ قولهم: امْرَأَةٌ ضَهْيَا بالقَصْرِ، وهيَ التي لا ثَدْيَ لها، والتي لا تَحيضُ، سُمِّيتْ بِذلِكَ لمُشابهتِها الرجالَ. فيقالُ: امْرَأَةٌ ضَهْيَا بالقَصْرِ وضَهْيَاء، بالمَدِّ كحَمْراءَ، وضَهْياءَةٌ بالمدِّ وتاءِ التأْنيثِ ثلاثُ لُغاتٍ، وشَذَّ الجَمْعُ بَينَ عَلامَتَيْ تَأْنيثٍ في هذِهِ اللفظةِ.
حكى اللغةَ الثالثةَ الجرمي عن أبي عمرو الشيباني. قيل: وقولُ مَنْ زعم أنَّ المضاهأةِ بالهمز مأخوذةٌ مِنْ امرأة ضَهْياء في لغاتِها الثلاث خطأٌ لاختلاف المادتين، فإن الهمزةَ في امرأة ضَهْياء زائدة في اللغاتِ الثلاث وهي في المضاهأة أصلية.
فإن قيل: لِمَ لم يُدَّعَ أَنَّ همزةَ ضهياء أَصْلِيَّةٌ وياؤها زائدة؟، فالجوابُ أَنَّ فَعْيَلاً بفتح الياءِ لم يَثْبتْ. فإنْ قيلَ: فلِمَ لم يُدَّعَ أَنَّ وَزْنَها فَعْلَلَ كَجَعْفَرَ؟، فالجوابُ أَنَّهُ قدْ ثَبَتَتْ زِيادَةُ الهمزةِ في ضَهْياء، بالمَدِّ فَلْتَثْبُتْ في اللُّغةِ الأُخْرى، وهذِهِ قاعدةٌ تَصْريفِيَّةٌ.
والكلامُ على حَذْف مضاف تقديره: يُضاهي قولُهم قول الذين، فَحُذِف المضاف، وأُقيم المضافُ إليه مُقامه، فانقلب ضميرَ رفع بعد أن كان ضميرَ جَرٍّ.
والجمهور على الوقف على "أفواههم" ويَبْتدئون ب "يُضاهئون" وقيلَ: الباءُ تتعلَّقُ بالفعلِ بعدَها. وعلى هذا فلا يُحتاج إلى حَذْفِ هذا المضافِ.