قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
(24)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ}، الخِطابُ في هذه الآيةِ الكريمةِ مِنَ اللهِ تَعالى للنَبِيِّهِ ورسولِه محمَّدٍ ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، يأَمُرُهُ فيه، بِتَوَعُّدِ مَنْ آثَرَ حُبَّ القَرَابَةِ وَالعَشِيرَةِ وَالأَهْلِ وَالتِّجَارَةِ وَالأَمْوَالِ وَالمَسَاكِنِ، أَوْ أَيَّ شَيْءٍ مِنْ مَتَاعِ الحياةِ الدُنيا وعلائقِها فقدّمَ حبَّها عَلَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالهجرةِ والجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وإنَّما يُتَرْجَمُ حُبُّهُ تعالى، بالطاعَةِ له سبحانَهُ، في كلِّ ما بِهِ أَمَرَ وعَنْهِ نهى، لا سِيَّما الهِجْرَة والجهاد، فقدْ يمنَعُ التعلُّق بهذه الأُمُورِ الدُنْيَويَّةِ مِنْهُما، فكِلاهُما يَتَطَلَّبُ التَضْحِيَةَ بهذِهِ الأَشْياءِ والتَخلُّصَ مِنْ عَلائقِها، وهذِهِ هي مُنَاسَبَةُ ذِكْرِها هُنا، واللهُ أعلمُ.
والعَشِيرَةُ مِنَ العَشْرةِ، وهوَ العَدَدُ الكامِلُ. وقيلَ هِيَ الأَهْلُ الأَْدْنَوْنَ الأقربون للرجُلِ بالغاً ما بَلَغَ عَدَدُهم، سَواءً أَكانُوا عَشَرَةً أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أكثرَ. وقيلَ: هُمْ أَهْلُ الرَجُلِ الذينَ يُكاثِرُ الناسَ بِهِمْ ويفاخرُ. وإليهم يستندُ في المُلمّاتِ وعليهم يَعْتَمِدُ، وقيلَ: هيَ الجماعةُ المجتَمِعةُ بِنَسَبٍ أَوْ عَقْدٍ أَوْ وِدادٍ.
قولُهُ: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} التربُّصُ الانتظارُ والترقُّبُ، وهنا المنتظَرُ هو أمرُ اللهِ، فمن المحتمَلِ أن يكونَ أمراً بعذابٍ في الدنيا أو في الآخرة، أو فيهما معاً، وذلك عِقاباً على تقديم الدنيا وزينتها وعلائقَها وحبَّها على حبِّ الله ورسولِهِ. فقد يكون العذابُ نازلاً من السماءِ أو نابعاً من الأرضِ، كالصاعقةِ والريح والطوفان والغرقِ وغيرِ ذلِكَ. وقد يكونُ هزيمةً وخزيٍاً على يَدِ عبادِ اللهِ بتسليطٍ منه سبحانه وتأييد.
قولُهُ: {وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} وَعيدٌ شديدٌ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لا يَهْدِي الفَاسِقِينَ الخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِهِ سَوَاءَ السَّبِيلِ. إلى ما فيه نصرُهم وعزّتهم وصلاحُ أمرهم في الدنيا والآخرة. والفْظُ عامٌّ هنا يُرادُ بِهِ الخُصوصُ فيمَنْ يُوافي عَلى فِسْقِهِ، أَوْ هو عُمومٌ مُطْلَقٌ على أَنَّهُ لا هِدايةَ مِنْ حيثُ الفِسْق.
قولُهُ تَعالى: {إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ .. أَحَبَّ} آباؤكمْ: اسْمُ كانَ، و "أحبَّ" خبرُها فهو مَنْصوبٌ. وكان الحَجَّاجُ ابْنُ يُوسُفَ يَقْرؤها بالرَّفْعِ، فلَحَّنَهُ يحيى بْنُ يَعْمُرَ لمُخالَفَتِهِ القُرَّاءً النَّقَلَةً فَنَفاهُ. والرفعُ جائزٌ في العَرَبِيَّةِ، وذلك بأنْ يُضْمَرَ في "كان" اسمٌ، هُوَ ضميرُ الشَأْنِ، ويُرْفَعَ ما بَعدَها على المُبْتَدَأِ والخَبَرِ، فتكونُ الجملةُ خَبَراً عن "كان".
ومِنْ ذلكَ قولُ العُجَيرِ السَّلوليِّ:
إذا مِتُّ كان الناسُ صِنْفانِ ..... شامتٌ وآخرُ مُثْنٍ بالذي كنتُ أَصْنَعُ
وقد جاءَ بِهِ هنا على لُغةِ بني الحَرْثِ ومَنْ وافَقَهم.
قرأ الجمهور: {عشيرتكم} بالإِفْرادِ، وقرَأَ أَبو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ: "عشيراتكم" جمعَ السّالِمِ. ووَجْهُ الجَمْعِ، أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ المُخاطَبينَ عَشيرَةً فَحَسُنَ الجَمْعُ. وهذه القراءةُ حُجَّةٌ على الأَخْفَشِ الذي زَعَمَ أَنَّ "عشيرة" لَيْس لها جمعٌ سالمٌ، إنَّما تُجْمع تَكْسيراً على عَشَائرَ. وهي قراءةُ أَبي عبدِ الرَحمنِ السُلَمِيِّ، وأَبي رَجاءٍ. وقرَأَ الحَسَنُ "عشائركم" فقيل: وهي أَكْثَرُ مِنْ عَشيراتِكم.