أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
(13)
قولُهُ ـ سبحانَه وتعالى: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} يَحُضُّ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَلَى قِتَالِ المُشْرِكِينَ، الذِينَ يَنْكُثُونَ عَهْدَهُمْ، فالاسْتِفهامُ هنا للإِنْكارِ، والاستفهامُ الإِنْكارِيُّ يحملُ مَعْنى النَفي، وقدْ دخلَ هنا على نَفْيٍ، ونَفْيُ النَفيِ إثباتٌ. وحيثُ كانَ التَرْكُ مُنْكَراً، أَفادَ بِطريقٍ بُرْهانيٍّ أَنَّ إيجادَهُ أَمْرٌ مَطْلوبٌ مَرْغوبٌ فيهِ، فيُفيدُ الحَثَّ والتَحْريضَ عَلَيْهم. بَأَقْوى الأَدِلَّةِ، وأَسمى الأَساليبَ. وفيه تحذيرٌ مِنَ التَواني والتراخي في قِتالِهم، ما عدا مَنْ اسْتُثْنِيَ مِنْهم بعدَ الأَمْرِ بِقَتْلِهم، وأَسْرِهم، وحِصارِهم، وسَدِّ مَسالِكِ النَجْدَةِ في وُجوهِهِم. وَقَدْ سَبَقَ لَهُمْ أَنْ هَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، مِنْ مَكَّةَ، فقدَ أَخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ وأَبو الشَيْخِ عَنْ مجاهِدٍ ـ رضيَ اللهُ عنه، في قولِهِ تعالى:{ألاَ تُقاتلون قوماً نَكَثوا أَيمانهم} قالَ: قِتالُ قريشٍ حلفاءَ النبيِّ ـ صلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وهمُّهم بإخراجِ الرَسُولِ، زَعَموا أَنَّ ذلك عامَ عُمْرَةِ النَبِيِّ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، في العامِ السابعِ للحُدَيْبِيَةِ، وجَعَلوا في أَنْفُسِهم إذا دَخَلوا مَكَّةَ أَنْ يُخْرِجوهُ مِنْها فَذلكَ همُّهم بإخْراجِهِ، فَلمْ تُتابِعُهم خُزاعَةُ على ذلك، فلمَّا خَرجَ النبيُّ ـ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، مِنْ مَكَّةَ قالتْ قُريْشٌ لخُزاعَةَ: عَمَيْتُمونا عَنْ إخراجه؟ فقاتَلوهم فقَتَلوا مِنْهم رَجالاً. وقالَ الحَسَنُ بْنُ أَبي الحَسَنِ: المُرادُ مِنَ المَدينةِ. ووقولُهُ هذا يَتَّسقُ مع ما حاولوه في يومَ الخندقِ وقبله يومَ أُحُدٍ وغيرهما. وقالَ السُدِّيُّ: المرادُ مِنْ مَكَّةَ فهذا على أَنْ يَكونَ المَعنى همّوا وفَعلوا، أَوْ على أَنْ يُقالَ همّوا بإخراجِهِ بِأَيْديهم، فلم يَصِلوا إلى ذلك، بلْ خَرَجَ بأمرِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، ذلك لأنَّ النَبيِّ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ، أنكَر على أَبي سُفيانَ بْنِ الحارِثِ قولَهُ:
ورَدَّني إلى اللهِ مَنْ .................................... طَرَدْتُه كُلَّ مَطْرَدِ
فقالَ لَهُ الرَسُولُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنت طرّدتني كلَّ مَطْرَدِ" إنكاراً عليْهِ. ولا يُنْسَبُ الإخراجُ إليهم إلاَّ إذا كان الكلامُ لتَجريمِهم وحميلهم الإثم لمعاداتهم لله ولرسوله ودينه، كما قالَ تعالى في سورةِ البقرة: {وإخراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ} الآية: 127. وقولُهُ في سورة محمد: {مِنْ قَرْيَتِكَ التي أَخْرَجَتْكَ} الآية: 13. والأوَّلُ هُوَ على أَنَّ ما فَعَلوا بِهِ مِنْ أَسْبابِ الإخْراجِ هُوَ الإخْراجُ، وقولُهُ: "أَوَّلَ مَرَّةٍ" قيلَ يُرادُ أَفْعالَهم بالنَبِيِّ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، وبالمؤمنين في مَكَّةَ، وقالَ مُجاهد: يُرادُ بِهِ ما بَدَأَتْ بِهِ قُريْشٌ مِنْ مَعونَةِ بَني بَكْرٍ حُلَفائِهم على خُزاعَةَ حُلَفاءِ رَسُولِ اللهِ ـ صلّى عليْهِ وسَلَّمَ، فكانَ هذا بَدْءَ النَقْضِ، وقالَ الطَبَرِيُّ: يَعْني فِعلَهم يَوْمَ بَدْرٍ.
قولُهُ: {وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ} وَهُمُ الذِينَ بَدَؤُوكُمْ بِالقِتَالِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، إِذْ خَرَجُوا إلَى بَدْرٍ لِنُصْرَةِ عِيرِهِمْ وَإِنْقَاذِهَا، وهم الذين كانوا بادئين بالعدوانِ عليكم في كلِّ قتالٍ بعدَ ذلك، في غزوةِ أُحُدٍ، وفي غزوةِ الخندقِ، وكما حَدَثَ مِنْهم مَعَ حُلَفائكم مِنْ بَني خُزاعَةَ، حيثُ ساعدوا عليهم حلفاءهم من بني بكرٍ. ثُمَّ يَطْلُبُ اللهُ تَعَالَى إِلَى المُؤْمِنِينَ أَنْ لاَ يَخْشَوا الكُفْرَ وَأَهْلَهُ فيقولُ: "أَتخشونهم" وهو اسْتِفْهامٌ فيه معنى التقريرِ والتوبيخِ، لمن خشيَ قتال المشركين.
قولُهُ: {فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إِنَّ الذِي يَسْتَحِقُّ الخَشْيَةَ وَالخَوْفَ مِنْهُ هُوَ اللهُ ذُو السَطْوَةِ وَالعُقُوبَةِ الشَّدِيدَةِ. فَالمُؤْمِنُونَ لاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً غَيْرَ اللهِ، وَلاَ يَخَافُونَ سِوَاهُ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي إِيمَانِهِمْ، لأَنَّ إيمانَهم كان قد استقرَّ، والمعنى إنْ كنتم مُؤمنينَ كامِلِي الإيمانِ، فهوَ كَقَوْلِكَ: افْعَلْ كذا إنْ كُنْتَ رَجُلاً، أيْ رَجُلاً كاملَ الرجولة.
قولُهُ تعالى: {أَلاَ تقاتلون} ألا: يُحتَمَلُ فيه أَنْ يَكونَ مجموعَ حَرْفين: هما همزةُ الاسْتِفْهام، و (لا) النافية، وعليه فيجوزُ أُنْ يَكونَ الاستفهامُ إنْكاريّاً، على انْتِفاءِ مُقاتَلَةِ المُشْرِكين، فيكونُ دفعاً لأنْ يَتَوَهَّمَ المُسْلِمونَ حُرْمةً لِتِلْكَ العُهودِ، ويجوزُ أَنْ يَكونَ الاسْتِفهامُ تَقريريّاً. ويُحتَمَلُ أَنْ يَكونَ "ألا" حَرْفاً واحِداً للتَحْضيضِ، كما هو قولُهُ تَعالى في سورة النورِ: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ} الآية: 22. فهو تحضيضٌ على القِتالِ. وجَعَلَ في "مُغني اللبيب" هذه الآيةَ مثالاً لهذا الاسْتِعمالِ على طريقةِ المُبالَغَةِ في التَحْذيرِ.
قولُهُ: {أَوَّلَ مَرَّةٍ} نصبٌ على ظرفِ الزمان، وأَصلُها المصدر مِنْ مَرَّ يَمُرُّ. وقد تقدَّم تحقيقُه. وهذه الجملة: "وهُم بدءوكم" معطوفةٌ على جملة "هَمُّوا".
قوله: {فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} لفظُ الجلالةُ مبتدأ، والخبر "أحقُّ" و "أن تَخْشَوه" على هذا بَدَلٌ مِنَ الجَلالَةِ بَدَلُ اشْتِمالٍ، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ؛ فخشيةُ اللهِ أَحَقُّ مِنْ خَشْيَتِهم. ويجوزُ أن يكونَ "أحقُّ" خَبرٌ مُقَدّمٌ و "أَنْ تَخْشَوْهُ" مُبْتَدأٌ مُؤَخَّرٌ، والجملةُ خَبرُ اسمِ الجلالة. ويجوز أنْ يكونَ "أحقُّ" مبتدأً و "أنْ تَخْشَوه" خبرُه، والجملةُ أَيْضاً خَبَرُ اسمِ الجَلالة. وحَسُنَ الابتداءُ بالنَكِرَةِ لأنَّها على صيغة التفضيل "أَفْعَلُ". وقد أَجازَ سِيبَوَيْهِ أَنْ تَكونَ المعرفةُ خبراً للنَكِرَةِ في نحو: اقصدْ رجلاً خيرٌ منه أَبوه. ويجوز أَنْ يكون "أنْ تَخْشَوه" في محلِّ نصبٍ، أَوْ جَرٍّ بَعْدَ إِسقاطِ حرفِ الخَفْضِ، إذِ التَقديرُ: أَحقُّ بِأَنْ تَخْشَوْهُ. وجملة "فالله أحقُّ" جواب شرط مقدر أي: إنْ خشيتم أحداً فالله أحقُّ.
وقوله: {إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ} شَرْطٌ حُذِفَ جَوابُهُ، أَوْ قُدِّمَ، على حسبِ الخَلافِ. وجملة "إن كنتم مؤمنين" مستأنفة، وجواب الشرط محذوف دَلَّ عليه ما قبله.