كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
(7)
قولُه ـ تباركَ وتعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} يَدُلُّ عَلى أَنَّهم نَكَثوا وأَسَرّوا بِهِ، فأَظْهَرَ اللهُ لِنَبِيِّهِ ما أَسَرّوهُ بالبراءَةِ مِنْهُمْ، ونَبْذِ عَهْدِهم إليهم. وهُو تَكرارٌ لاسْتِبْعادِ ثباتِ المُشْرِكينَ على العَهْدِ، أَيْ: كَيْفَ يَكونُ لهمْ عَهْدٌ وحالُهم أَنَّهُمْ {إِنْ يُظْهَرواْ عَلَيْكُمْ} بعدَ ما سَبَقَ لهم مِنْ تَأْكيدِ الأَيمانِ والمَواثيقِ، وهو استفهامٌ إنْكارِيٌّ لا بِمعنى إنْكارِ الواقِعِ كما في قولِهِ تَعالى {كيفَ تَكْفُرونَ باللهِ وكُنْتُمْ أَمْواتاً فأَحْياكُمْ} سُورَةُ البَقْرَةُ، الآيةُ: 28. بَلْ بِمَعنى إنْكارِ الوُقوعِ، لاسْتِبْعادِ أَنْ يَكونَ للمُشْرِكينَ عَهْدٌ عِنْدَ رَسولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْه وسلَّمَ، وقد وغِرَتْ صُدورُهم، عليه وعلى دينِهِ وعلى مَنْ آمَنَ مَعَهُ، أَيْ: مُحالٌ أَنْ يَثْبُتَ لهؤلاءِ عَهْدٌ، فلا تَطْمَعوا في ذَلِكَ، ولا تُحَدِّثوا بِهِ نُفوسَكُمِ ولا تُفَكِّروا في قَتْلِهم أَيْضاً. وبَيَّنَ اللهُ تَعَالَى حِكْمَةَ التبَرُّءِ مِنَ المُشْرِكِينَ وَعُهُودِهِمْ، وَمِنْ نَظِرَتِهِمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَقالُ كَيْفَ يُؤْمَنُ لهَؤُلاَءِ المُشْرِكُونَ، وَيُتْرَكُونَ فِيمَا هُمْ فِيِهِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالكُفْرِ بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ، وَهُمْ إِذَا تَمَكَّنُوا مِنَ المُسْلِمِينَ، وَغَلَبُوا عَلَيْهِمْ، لاَ يَرْعَوْنَ فِيهِم قَرَابَةً وَلاَ عَهْداً؟.
والآيةُ اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ، نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: {بَرَاءةٌ مِنْ اللهِ وَرَسُولِهِ} الآية:1، مِنْ هَذِهِ السُورَةِ. ثمَّ عَنْ قَوْلِهِ: {أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} الآية: 3، وعَنْ قولِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية: 5، التي كانَتْ تَدَرُّجاً في إبْطالِ ما بَيْنَهم وبَينَ المُسْلِمينَ مِنْ عُهودٍ سابِقَةٍ. والمَقْصُودُ هِيَ قَبائلُ بَني بَكْرٍ، كانوا دَخَلوا وَقْتَ الحُدَيْبِيَةِ، في المُدَّةِ التي كانتْ بَينَ رَسُولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، وبينَ قُريشٍ، فلم يَكُنْ نَقْضٌ إلاَّ من قُرَيْشٍ وبَني الدَيْلِ مِنْ بَني بَكْرٍ، كما قالَ محمَّدٌ ابْنُ اسْحاقَ، فأُمِرَ المُسْلِمونَ بإتْمامِ العَهْدِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ نَقَضَ العهدَ منهم.
ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: أَنَّهم قُرَيْشٌ، ورُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ: أَنّهم خُزاعَةُ، وفي القولَينِ نَظَرٌ؛ لأنَّ قُريشاً وخُزاعَةَ كانوا أَسْلَموا في الفَتْحِ؛ أَيْ: قبلَ ذَلك بعامٍ تَقريباً، وقد سَبَقَ أَنْ بَيَّناهُ في تَفْسيرِ الآيَةِ السابِقَةِ. ورُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ قَتادَةَ. وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ عَنْ مُقاتِلٍ ـ رَضِيَ الله عنه، أنَّهُ قالَ: كانَ النبيُّ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، قدْ عاهدَهُ أُناسٌ مِنَ المُشركين، وعاهَدَ أَيْضاً أُناساً مِنْ بَني ضَمْرَةَ بْنِ بَكْرٍ وكِنانَةَ خاصَّةً، عاهدَهم عِنْدَ المَسْجِدِ الحرامِ، وجَعَلَ مُدَّتَهم أَرْبَعةَ أَشْهُرٍ، وهُمُ الذينَ ذَكَرَهم اللهُ بقولِهِ: "إلاَّ الذين عاهدْتم عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ، فما اسْتَقاموا لَكمْ فاسْتَقيموا لهمْ" يَقولُ تعالى: ما وَفوا لَكُم بالعَهْدِ الذي بينكم وبينهم فَوَفُّوا لهم به. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنِ السُدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في قَوْلِهِ: "إلاَّ الذين عاهَدْتمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ" قالَ: هُمْ بَنُو خُزَيْمَةَ، ابنِ فلانٍ.
قولُهُ: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} أَمَّا الذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ، فَمَا اسْتَمْسَكُوا بِالعَهْدِ، وَاسْتَقَامُوا عَلَيْهِ، فَتَمَسَّكُوا أَنْتُمْ بِهِ، وَأَوْفُوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ، لأنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ، الذِينَ يُحَافِظُونَ عَلَى عُهُودِهِمْ. أيْ فَتَرَبَّصوا أَمْرَهم فإنِ اسْتَقاموا على العَهْدِ فاسْتَقيموا على الوَفاءِ وهوَ كَقولِهِ {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ} غيرَ أَنَّهُ مُطْلَقٌ وهذا مُقَيَّدٌ.
قولُهُ: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} أَيْ: إنَّ الاستقامةَ لهم مِنَ التَقْوى، وإلاَّ لمْ تَكُنْ هناكَ مُناسَبَةٌ للإخْبارِ بِأَنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقينَ عَقِبَ الأَمْرِ بالاستقامَةِ لهم إذا ما استقاموا، هُمْ، على ما قَطَعوا على أَنْفُسِهم مِنْ عُهودٍ، وهذا مِنَ الإيجازِ. ومِنْ ثَمَّ فإنَّ في الاسْتِقامَةِ لهم حِفْظاً للعَهْدِ الذي هُو مِنْ قَبيلِ اليَمينِ.
والاسْتِقامَةُ: عَدَمُ الاعْوِجاجِ، والسينُ والتاءُ للمُبالَغَةِ مِثلُ اسْتَجابَ واسْتَحَبَّ، وإذا قامَ الشيءُ انْطَلَقَتْ قامَتُهُ ولمْ يَكُنْ فيهِ اعْوِجاجٌ، وهي هُنا مُسْتَعارَةٌ لِحُسْنِ المُعامَلَةِ.
قولُهُ تَعالى: {كَيْفَ يَكُونُ} كيفَ: خبرٌ ل "يكون" تقدَّم عليه للاستفهام. وحُذِفَ الفِعْلُ لِكَوْنِهِ مَعْلوماً كما قالَ الشاعرُ الجاهليُّ كَعْبُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُقْبةَ الغَنَوِيّ يرثي أَخاهُ:
وَخَبَّرْتُمَانِي أَنَّمَا الْمَوْتُ بِالْقُرَى ........... فَكَيْف وَهَاتَا هَضْبَة وَقَليبُ
يُريدُ أنْ يقول: فكيف مات. والبيتُ مِنْ قَصيدَةٍ له ومنها:
تَقولُ سُلَيْمىَ ما لجِسْمِكَ شاحِباً ......... كَأَنَّكَ يَحْمِيك الطَّعامَ طَبِيبُ
فقلتُ ولَمْ أَعْيَ الجَوابَ لِقَوْلِها ...... وللدَّهْرِ في صُمٍّ الصِّلابِ نَصِيبُ
تَتابُعُ أَحْداثٍ تَخَرَّ مْن إخْوَتِي ........ وَشَيَّبْنَ رَأْسِي، والخُطُوبُ تُشِيبُ
أَتَى دُونَ حُلُوِ العَيْشِ حتّى أَمَرَّهُ .......... نُكُوبٌ على آثارهِنَّ نُكُوبُ
لَعَمْرِي لَئِنْ كانتْ أَصابَتْ مُصِيبَةٌ ....... أخِي، والمَنايا للرِّجالِ شَعُوبُ
لَقدْ عَجَمَتْ مِنِّي الحَوادِثُ ماجِداً .... عَرُوفاً لِصَرْفِ الدَّهْرِ حينَ يَنُوبُ
فتىً لا يُبالِي أنْ يكُونَ بِجِسْمهِ ........ إذا نالَ خَلاَّتِ الرِّجالِ شُحُوبُ
غَنِينا بخَيْر حِقْبَةً ثم جَلَّحَتْ ............... عَلَيْنا التي كُلَّ الأَنامِ تُصِيبُ
فَلوْ كان حَيٌّ يُفْتَدَى لفَدَيْتُهُ ........... بِما لَمْ تكُنْ عنه النُّفُوسُ تَطِيبُ
فإنْ تَكُن الأَيامُ أَحْسَنَّ مَرَّةً ............... إليَّ، فَقدْ عادَتْ لهُنَّ ذُنُوبُ
فخبرُ "يكونُ" إمَّا "كيف"، واسمُها "عهدٌ"، والخبرُ هنا واجبُ التقديمِ لاشْتِمالِهِ على ما لَهُ صَدْرُ الكلام وهو الاستفهامُ، كما تقدّم.
و "للمشركين" على هذا متعلِّقٌ: إمَّا ب "يكون" عند مَنْ يُجيز في "كان" أنْ تَعملَ في الظَرْفِ وشِبْهِهِ، وإمَّا بمحذوفٍ لأنها صِفةٌ ل "عهد" في الأصلِ، فلمّا قُدِّمَتْ نُصِبَتْ حالاً، و "عند" يجوزُ أَنْ تَكونَ مُتَعَلِّقةً ب "يَكونُ" أوْ بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل "عَهْد" أوْ مُتَعَلِّقةً بِنَفْسِ "عهد" لأنَّه مصدرٌ. وإمَّ أَنْ يَكونَ الخَبرُ "للمُشركين" و "عند" على هذا فيها الأَوْجُهُ المُتَقَدَّمَةُ. ونزيد وجهاً رابعاً وهو أنَّهُ يجوزُ أنْ يكونَ ظَرْفاً للاسْتِقْرارِ الذي تَعَلَّقَ بِهِ "للمشركين". وإمّا أََنْ يَكونَ الخبرُ "عند الله" و "للمشركين" على هذا: إمَّا تَبْيينٌ، وإمَّا مُتَعلقٌ ب "يكون" عندَ مَنْ يجيزُ ذلك كما تَقَدَّمَ، وإمَّا حال مِنْ "عهدٌ"، وإمَّا متعلقٌ بالاستقرارِ الذي تعلَّق به الخبر. ولا يبالى بتقديم معمولِ الخبرِ على الاسم لكونِهِ حرفَ جر. و "كيف" على هذين الوجهين الأخيرين مُشْبِهةٌ بالظرف أو بالحالِ كما تقدَّم تحقيقُه في قولِهِ تعالى في سورةِ البقرة: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ}، الآية: 28.
ولم يذكروا هنا وجهاً رابعاً، وكان يَنْبَغي أَنْ يَكونَ هُوَ الأَظْهَرَ، وهُوَ أَنَّ "يَكونَ" فعلٌ تامٌّ بمعنى: كَيْفَ يُوجَدُ عَهْدٌ للمُشركين عِنْدَ الله؟ والاسْتِفهامُ هُنا بمعنى النَفْيِ، ولذلك وقعَ بعدَهُ الاستثناءُ بِ "إلاَّ"، ومِنْ مجيئه بمعنى النفيَ أَيْضاً قولُ جريرٍ:
فهذي سيوفٌ يا صُدَيُّ بْنَ مالكٍ ... كثيرٌ ولكن كيفَ بالسيفِ ضاربُ
قولُهُ: {إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ} هو اسْتِثْناءٌ إمّا مُنْقَطِعٌ، أيْ: لكن الذين عاهدتم فإنَّ حُكْمَهم كيت وكيت. أو هو استثناءٌ مُتصلٌ وفيه حينئذٍ احتمالان، أحدُهما: أَنَّهُ مَنصوبٌ على أَصْلِ الاسْتِثْناءِ مِنَ المُشركين. وثانيهُما: أَنَّهُ مجرورٌ على البَدَلِ منهم، لأنَّ معنى الاستفهامِ المتقدِّمِ نَفْيٌ، أَيْ: ليسَ يَكونُ للمُشْرِكين عهدٌ إلاَّ للذين لم ينكُثوا. أو هو مرفوعٌ بالابتِداءِ على الانقطاعِ، والجملةُ مِنْ قولِهِ: "فما استقاموا" خبرُه.
قولُه: {فَمَا} يجوز في "ما" أن تكونَ مصدريةً ظرفيةً، وهي في محلِّ نصبٍ على ذلك، أي: فاستقيموا لهم مدةَ استقامتِهم لكم. ويجوزُ أَنْ تكونَ شَرْطِيَّةً، وحينئذٍ فهي إمّا في محلِّ نصبٍ على الظرف الزماني، والتقديرُ: أَيَّ زمانٍ استقاموا لَكم فاسْتَقيموا لهم. ونظَّره أبو البقاء بقولِه تعالى: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا} سورة فاطر، الآية: 2. وإما هي في محلِّ رفعٍ بالابْتِداءِ، وفي الخبرِ الأَقوالُ المشهورةُ، و "فاستقيموا": جوابُ الشَرْطِ. ويحتاجُ إلى حذفِ عائدٍ، أيْ: أَيُّ زمانٍ استقاموا لكم فيهِ، فاستقيموا لهم.
وقد جوَّز الشيخُ جمال الدين ابنُ مالكٍ في "ما" المصدريّة الزَمانيَّة أَنْ تَكونَ شَرْطِيَّةً جازِمَةً، وأَنْشَدَ على ذلك لِعَبْدِ اللهِ ابْنِ الزبيرِ رَضِيَ اللهُ عَنهُما:
فما تَحْيَ لا نسْأَمْ حياةً وإن تَمُتْ ... فلا خيرَ في الدنيا ولا العيشِ أجمعا
ولا دليلَ فيهِ لأنَّ الظاهرَ الشَرْطيَّةُ مِن غيرِ تأويلٍ بمَصْدَرِيَّةٍ وزَمانٍ، قال أبو البقاء: ولا يجوز أن تكونَ نافيةً لفساد المعنى، إذ يصير المعنى: استقيموا لهم لأنهم لم يَسْتقيموا لكم.
وقولُهُ: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} جملةٌ تَعْليليَّةٌ للأمْرِ بالاسْتِقامَةِ. وجاءتْ "إِنَّ" في أَوَّلِها، للاهتمامِ وللإيذانِ بالتَعْليلِ لأنَّها تُقومُ مَقامَ الفاءِ.