[ltr][size=48]التوبة[/size][/ltr]
هي مَدَنيَّةٌ وعددُ آياتِها مِئةٌ وتِسْعٌ وعِشرونَ آيةً، أَوْ مِئةٌ وثَلاثونَ آيةً، كما هي عندَ بعضِهم.
وقد ذَكرَ العلماءُ أَسماء عديدةً لهذه السورة المباركة: فهي عندهم (براءةٌ) لأنَّ اللهَ أَعْلَنَ فيها براءتَهُ ورسولِهِ مِنَ المُنافقينَ. وهي (التوبةُ) لأنَّ فيها التوبةُ منه تعالى على المؤمنين. و (المُقَشْقِشَةُ) لأنَّها تُقَشْقِشُ مِنَ النِفاقِ، أَيْ تُبَرِئُ مِنْهُ. وهي (المُبعثِرةُ) لأنَّها تَبْحثُ عَنْ أَسرارِ المُنافقين وتبعثرُها. وهي (المُشَرِّدةُ) لأنَّها تُشَرِّدُهم. وهي (المُخزِيَةُ) لأنَّها تُخْزيهم، وهي (الفاضِحةُ) لأنَّها تَفضَحُهم. وهي (المُثيرةُ) لأنها تُثيرُ عَليهم. وهي (الحافِرةُ) لأنَّها تحفُرُ على أَسْرارهَِم وتَنْبشُ عنها. وهي (المُنَكِّلَةُ) لأنَّها تُنَكِّلُ بهم. وهي (المُدَمْدِمَةُ) لأنّها تُدَمْدِمُ عليهم، والدَمْدَمَةُ الكلامُ المُزْعِجُ الصادر عنْ غَضبٍ.
وقدْ كَانَتْ هَذِهِ السُورَةُ آخِرَ سُوَرِ القرآنِ الكريمِ نُزلاً على قلبِه الشريفِ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، لِما أَخْرَجَ البُخارِيُّ عَنْ أَبي إسْحاقَ قال: سَمِعْتُ البَراءَ بنَ عازبٍ بْنِ الحارثِ بْنِ عَدِيٍّ الأَنصاريَّ الحارثيَّ الأوْسيَّ، ـ رضي اللهُ عنه، يَقولُ: آخرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} سُورَةُ النِساءِ، الآيةِ: 176. وآخرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ (بَراءة). صحح البخاري برقم (4645). وَأَوَّلُ هَذِهِ السُورَةِ نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم، لمَّا رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَرْسَلَ ـ صلى الله عليه وسلَّم، أبَا بَكْرٍ أَمِيراً لِلحَجِّ، وَأتْبَعَهُ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِيَقْرأ عَلَى النَّاسِ سُورَةَ التوبة، وأَنْ يَطْلُبَ مِنَ المُشْرِكِينَ أَنْ لاَ يَحُجُّوا بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا.
وفي تَرْكِ التَسْمِيَةِ في ابْتِدائِها أَقوالٌ؛ فقد رُوِيَ عَنْ عَليٍّ وابْنِ عبّاسٍ ـ رَضْيَ اللهُ عنهم، أَنَّ بِسْمِ اللهِ براءةٌ وأَمَانٌ، وهذِهِ السُورَةُ نَزَلَتْ لِرَفْعِ الأَمانِ. وعن عثمانَ بنِ عفّانَ ـ رَضيَ اللهُ عَنْه، أنَّ رَسولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم، كان إذا نزلت عليه سورةٌ، أوْ آيةٌ قال: ((اجعلوها في الموضع الذي يُذكَرُ فيه كذا وكذا)) وقد تُوفيَ ولم يُبَيِّنْ لنا أَيْنَ نَضَعُها، وكانتْ قِصَّتُها تُشْبِهُ قِصَّةَ الأَنْفالِ لأنَّ فيها ذَِكْرُ العُهودِ وفي (بَراءةَ) نَبْذُ العُهودِ، فلِذلِكَ قَرَنْتُ بَيْنَهُما وكانتا تُدْعَيانِ القَرينَتَيْنِ، وتُعَدَّانِ السابعةَ مِنَ الطِوالِ وهِيَ سَبْعٌ. وقيل: اخْتَلَفَ أَصحابُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فقالَ بعضُهم: الأَنْفالُ وبَراءَةٌ سُورَةٌ واحدةٌ نَزَلَتْ في القِتالِ، وقال بعضُهم: هما سُورَتانِ. فَتُركَتْ بَيْنَهُما فُرْجَةٌ لِقَوْلِ مَنْ قالَ هما سورتان، وتُرِكَتْ البَسْمَلَةُ لِقوْلِ مَنْ قالَ هما سُورَةٌ واحدةٌ. وَلَمْ يَكْتُبِ الصَحَابَةُ البَسْمَلَةَ فِي أَوَّلِها، اقْتِدَاءً بِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، لأنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ إِنْ كَانَتْ تَابِعَةً لِسُورَةِ الأَنْفَالِ أَوْ أَنَّهَا سُورَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ.
فقد أخرجَ أبو عيسى التِرْمِذِيُّ وحسَّنَهُ عنِ ابنِ عبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عنهما، قالَ: قُلْتُ لِعُثْمانَ بْنَ عَفَّانٍ: ما حمَلَكم أَنْ عَمَدْتمْ إلى الأَنْفالِ، وهيَ مِنَ المثاني، وإلى بَراءَةَ وهي من المِئينَ، فقَرَنْتُمْ بَيْنَهُما، ولم تَكْتُبوا بَيْنَهُما سَطْرَ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ووَضَعْتُموها في السَّبْعِ الطُّوَّلِ، ما حمَلَكم على ذلك؟ فقالَ عُثمانٌ: كانَ رسولُ اللهِ ـ صَلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ ممّا يَأْتي عليْهِ الزمانُ وهو يُنْزَّلُ عليْهِ السُوَرُ ذواتِ العَدَدِ، فكانَ إذا نَزَلَ عليْهِ الشَيْءُ دَعا بعضَ مَنْ كانَ يَكْتُبُ، فيَقولُ: ضَعُوا هذِهِ الآياتِ في السُورَةِ التي يُذْكر فيها كذا وكذا، فإذا نَزَلَتْ عليه الآيةُ فيَقولُ: ضعوا هذه في السورةِ التي يُذْكَرُ فيها كذا وكذا، وكانَتِ الأنفالُ مِنْ أَوَّلِ ما نَزَلَ بالمدينةِ، وكانتْ بَراءَةٌ مِنْ آخِرِ القُرآنِ، وكانتْ قِصَّتُها شَبيهَةً بِقِصَّتِها وحَسِبْتُ أَنها مِنْها، وقُبِضَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّم، ولم يُبَينْ لَنا أَنَّها مِنْها، فَمِنْ أَجْلِ ذلكَ قَرَنْتُ بَيْنَهُما، ولم أَكْتُبْ بَيْنَهُما سَطْرَ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فَوَضَعْتُها في السَبْعِ الطُوَّلِ. سنن الترمذي برقم (3086). وكذا رَواهُ أَحمدُ، وأَبو داودَ، والنَسائيُّ، وابْنُ حبَّانَ في صَحيحِهِ، والحاكِمُ في مُسْتَدْرَكِهِ، مِنْ طُرُقٍ أُخَرٍ، عَنْ عَوْفٍ الأَعرابي، به وقالَ الحاكِمُ: صَحيحُ الإسْنادِ ولم يُخَرِّجاهُ.
وقيلَ كانَ مِنْ شَأْنِ العَرَبِ في زَمانِها في الجاهِلِيَّةِ إذا كانَ بَيْنَهم وبينَ قَوْمٍ عَهْدٌ، فإذا أَرادوا نَقْضَهُ كَتَبوا إلَيْهم كِتاباً ولم يَكْتُبُوا فيهِ بَسْمَلَةً. فلَمّا نَزَلَتْ سُورَةُ بَراءَةٍ بِنَقْضِ العَهْدِ الذي كانَ بَيْنَ النَبيِّ ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، والمُشْرِكينَ، بَعَثَ بها النَبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلِيَ بْنَ أَبي طالِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَرَأَها عَلَيْهم في المَوْسِمِ، ولم يُبَسْمِلْ في ذَلِكَ عَلى ما جَرَتْ بِهِ عادتُهم في نَقْضِ العَهْدِ مِنْ تَرْكِ البَسْمَلَةِ.
وقالَ مالكٌ فيما رُوِيَ عنه: إنَّهُ لمّا سَقَطَ أَوَّلُها سَقَطَ بِسْمِ اللهِ الرَحمنِ الرَحيمِ مَعَهُ. ورُوي ذلك عَنِ ابْنِ عَجْلانَ، أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سُورَةَ (براءة) كانَتْ تَعْدِلُ البَقَرَةَ أَوْ قُرْبَها فذَهَبَ مِنْها، فَلِذلكَ لمْ يُكْتَبْ بَيْنَهُما {بسم الله الرحمن الرحيم}. وقالَ سعيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: (كانَتْ مِثْلَ سُورَةِ البَقَرَةِ). ومثلُ هذا يحتاجُ إلى نقلٍ صحيحٍ.
وقال عَبْدُ اللهِ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَأَلْتُ عَلِيّ بْنَ أَبي طالبٍ لِمَ لَمْ يُكْتَبْ في (بَراءَة) {بسم الله الرحمن الرحيم؟} قال: لأنَّ {بِسْمِ اللهِ الرَحمنِ الرحيم} أَمَانٌ، وبَراءَةٌ نَزَلَتْ بالسَيْفِ لَيْسَ فيها أَمانٌ. ورُويَ مَعْناهُ عَنِ المُبَرِّدِ، قالَ: ولذلك لم يُجْمَعْ بينَهُما فإنَّ {بِسْمِ اللهِ الرَحمنِ الرَحيمِ} رحمةٌ، و (بَراءةٌ) نَزَلَتْ سَخْطَةً. ومِثلُه رويَ عنْ سُفيانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، قال: إنَّما لم تُكْتَبْ في صَدْرِ هَذْهِ السُورَةِ {بسمِ اللهِ الرحمنِ الرَحيم} لأنَّ التَسْمِيَةَ رَحمةٌ، والرَحمةُ أَمانٌ، وهذِهِ السُورَةُ نَزَلتْ في المُنافِقينَ، وبالسيفِ، ولا أَمانَ للمُنافِقينَ. والصحيحُ أَنَّ التَسْمِيَةَ لم تُكْتَبْ لأَنِّ جِبريلَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ ما نَزَلَ بِها في هذِهِ السُورَةِ قالَهُ القُشَيْرِيُّ. وفي قولِ عُثمانَ أَميرِ المُؤمنينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، الذي تقدَّم، من أنَّ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، قُبِضَ ولم يُبَيِّنْ لَنا أَنها مِنْها، دَليلٌ على أَنَّ السُوَرَ كُلَّها انْتَظَمَتْ بِقَوْلِهِ وتَبْيِينِهِ، وأَنَّ بَراءَةَ وَحْدَها ضُمَّتْ إلى الأنْفالِ مِنْ غَيرِ عهدٍ مِنَ النبيِّ ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، لِما عاجَلَهُ مِنَ الحِمامِ قَبْلَ تَبْيِينِهِ ذَلِكَ. وكانَتا تُدْعَيانِ (القَرينَتَيْنِ) فَوَجَبَ أَنْ تُجْمَعا وتُضَمَّ إحْداهما إلى الأُخْرى للوَصْفِ الذي لَزِمَهُما مِنَ الاقْتِرانِ في حياةِ رَسُولِ اللهِ ـ صلّى اللهُ عليه وسَلَّمَ.
وهذا دليل على أنَّ القِياسَ أَصْلٌ في الدينِ لأنَّ أميرَ المؤمنينَ عُثمانَ، وأَعيانَ الصَحابَةِ ـ رضي اللهُ عنهم، لَجَؤوا إلى قياسِ الشَبَهِ عِنْدَ عَدَمِ وجودِ النَصِّ، ورَأَوْا أَنَّ قِصَّةَ (براءة) شبيهةٌ بِقِصَّةِ (الأنفال) فألْحَقوها بها. فإذا كان القياسُ في تَأْليفِ القُرآنِ فَما ظَنُّكَ بِسائِرِ الأَحْكامِ؟.
وقد نَزَلَ أَوَّلُ هَذْهِ السُورةِ الكريمةِ على رَسولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، لمّا رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكٍ وهُمْ بالحَجِّ، ثمَ ذُكر أَنَّ المُشْرِكينَ يَحْضُرونَ عامَهم هَذا المَوْسِمَ، وأَنَّهم يَطوفونَ بالبَيْتِ عُراةً على عادَتهم في ذلك، فكَرِهَ مُخالَطَتَهم، فبَعَثَ أَبا بَكْرٍ الصِدِّيقَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَميرًا على الحَجِّ هذِهِ السَنَةَ، لِيُقيمَ للناسِ مَناسِكَهم، ويُعْلِمَ المُشْرِكينَ أَلاَّ يَحُجّوا بَعْدَ عامِهِم هذا، وأَنْ يُناديَ في النّاسِ (بِبَراءَةِ)، فلمَّا قَفَلَ أَتْبَعَهُ بِعَلِيٍّ بْنِ أَبي طالِبٍ لِيَكونَ مُبَلِّغًا عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، لِكَوْنِهِ عَصَبَةً لَهُ. فقرأَها عَلِيٌّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في يومِ النَحْرِ على جَمْرَةِ العَقَبَةِ. فقد أَخْرَجَ عَبْدُ اللهِ ابْنُ أَحمَدِ بْنِ حَنْبَلٍ في زَوائِدِ المُسْنَدِ، وأَبو الشَيْخِ، وابْنُ مَردوَيْهِ، عَنْ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: (لمَّا نَزَلَتْ عَشْرُ آياتٍ مِنْ (بَراءَة) عَلى النَبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، دَعا أَبا بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، لِيَقْرَأَها على أَهْلِ مَكَّةَ، ثمَّ دَعاني فقال لي: أَدْرِكْ أَبَا بَكْرٍ فحَيْثُما لَقِيتَهُ فَخُذِ الكِتابَ مِنْهُ، ورَجَعَ أَبو بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فقالَ: يا رَسُولَ اللهِ نَزَلَ فيَّ شَيْءٌ؟ قال: لا، ولكنَّ جبريلَ جاءَني فَقالَ: لَنْ يُؤَدِّيَ عَنْكَ إلاَّ أَنْتَ أَوْ رَجُلٌ مِنْكَ). وأَخرجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وأَحمدُ، والتِرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ، وأَبو الشَيْخِ، وابْنُ مردويْهِ، عَنْ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مثلَ ذلك. وأَخْرَجَ أيضاً ابْنُ مردويْهِ مثلَهُ عَنْ سعدِ ابْنِ أَبي وَقَّاصٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وأخرجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ بِهَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ عَلِيًّا فَبَيْنَا أَبُو بَكْرٍ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ إِذْ سَمِعَ رُغَاءَ نَاقَةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْقَصْوَى، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ فَزِعًا ظَنَّ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا عَلِيُّ فَدَفَعَ إِلَيْهِ كِتَابَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّرَهُ عَلَى الْمَوْسِمِ وَأَمَّرَ عَلِيًّا يُنَادِي بِهَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ فَانْطَلَقَا فَحَجَّا فَقَامَ عَلِيٌّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ فَنَادَى: ذِمَّةُ اللهِ وَرَسُولِهِ بَرِيئَةٌ مِنْ كُلِّ مُشْرِكٍ، فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَلا يَحُجَّنَّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَلا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ مُؤْمِنٌ، فَكَانَ عَلِيٌّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يُنَادِي بِهَا فَإِذَا بُحَّ قَامَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَنَادَى بِهَا.
جاءَ في الناسِخُ والمَنْسوخِ لابْنِ حزمٍ: (1/40) أَنَّ في هَذِهِ السُورَةِ سَبْعُ آياتٍ مَنْسوخاتٍ أُولاهُنَّ: قولُه تَعالى: {بَراءَةٌ مِنَ اللهِ ورَسُولِهِ...} إلى قَوْلِهِ: {فَسيحُوا في الأَرْضِ أَرْبعةَ أَشْهُرٍ...} وقِيلَ نُسَخَت بِقَولِهِ تعالى: {فاقْتُلوا المُشْرِكين حيثُ وَجَدْتُموهُم} وقيلَ نُسِخَ أَوَّلُها بآخِرِها، وهي قولُه تعالى: {فإنْ تابوا...}.
وجاءَ في الناسِخِ والمَنْسوخِ لابْنِ سَلامةَ: (1/16) أَنَّ هذِهِ السُورَةَ تَحْتَوي على إحْدى عَشْرَةَ آيةً مَنْسوخَةً:
الآية الأولى: قولُهُ تَعالى: {بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسولِهِ} إلى قولِهِ تعالى: {فَسيحوا في الأَرْضِ أَربَعَةَ أَشهُرٍ} الآية، والتي قَبْلَها. نَزَلَتْ هذه الآيةُ فيمنْ كانَ بَيْنَهُ وبَيْنَهم مُوادَعَةٌ، جَعَلَ مُدَّتَهم أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، مِنْ يَوْمِ النَحْرِ إلى عَشْرٍ مِنْ شَهْرِ رَبيعٍ الآخَرِ، وجَعَلَ مُوادَّةَ مَنْ لمْ يَكُنْ بَيْنَهم وبَيْنَهُ عَهْدٌ خمسينَ يَوماً، وهو مِنْ يَوْمِ النَحْرِ إلى آخِرِ المُحَرَّمِ. وهُوَ تَفْسيرُ قولِهِ: {فَإِذا اِنسَلَخَ الأَشهُرُ الحُرُمُْ} يَعني المُحَرَّمَ وحْدَهُ. ثمَّ صارَ مَنْسوخاً بِقَوْلِهِ: (فَاِقتُلوا المُشرِكينَ حِيثُ وَجَدتُّموهُم).
الآيةُ الثانيةُ والثالثةُ: هِيَ الآيَةُ الناسِخَةُ، ولكنْ نَسَخَتْ مِنَ القُرآنِ مِئةُ آيَةٍ وأَرْبَعاً وعَشرونَ آيَةٍ. ثمَّ صارَ آخرُها ناسِخاً لأَوَّلِها، وهي قولُهُ تَعالى: {فَإِن تابوا وَأَقاموا الصَلاةَ وَآتوا الزَكاةَ فَخَلّوا سَبيلَهُم}.
الآية الرابعة: قولُهُ تَعالى: {إِلاَّ الَّذينَ عاهَدتُم عِندَ المَسْجِدِ الحَرامِ فَما اِسْتَقاموا لَكُم فَاِسْتَقيموا لَهُم}. نُسِخَتْ بِقولِهِ: {اِقتُلوا المُشرِكينَ حَيثُ وَجَدتُّموهُم}.
الآيةُ الخامسةُ: قولُهُ تَعالى: {وَالَّذينَ يَكنِزونَ الَذَهَبَ وَالفِضَّةَ وَلا يُنفِقونَها في سَبيلِ اللهِ فَبَشِّرهُم بِعذابٍ أَليم}.
والآيةُ السادِسَةُ: التي تَلِيها. نُسِخَتْ بالزَكاةِ المَفْروضَةِ، فَبَيَّنَتْ السُنَّةُ أَعْيانَها.
الآيةُ السابِعَةُ و الآية الثامِنَةُ: قولُهُ تَعالى: {إِلاَّ تَنْفِروا يُعَذِّبْكُم عَذاباً أَليماً}. وقوله تعالى: {اِنْفِروا خِفافاً وَثِقالاً}. نُسِخَتْ جميعُها بِقَوْلِهِ: {وَما كانَ المُؤمِنونَ لِيَنفِروا كافَّةً فَلَولا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طائِفَةً} الآية.
الآيةُ التاسِعَةُ: قولُهُ تَعالى: {لا يَستَأذِنوكَ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِر}. نَسَخَتْ قولَهُ تَعالى: {فَإِذا اِستَأذَنوكَ لِبَعضِ شَأنِهِم فَأذَن لِمَن شِئتَ مِنهُم وَاِستَغفِر لَهُم اللهَ إِنَّ اللهَ غَفورٌ رَحيم}.
الآيةُ العاشِرَةُ: قولُهُ تَعالى: {اِستَغفِر لَهُم أَو لا تَستَغفِر لَهُم إِن تَستَغفِر لَهُم سَبعينَ مَرَّةً فَلَن يَغفِر اللهَ لَهُم}. فقالَ النَبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: {لأَزيدنَّ على السَبْعين}. فَنَسَخَها اللهُ تَعالى بِقولِهِ: {سَواءٌ عَلَيهِم أَستَغفَرتَ لَهُم أَم لَم تَستَغفِر لَهُم}.
الآية الحاديةَ عَشْرَةَ: قولُهِ تَعالى: {وَمِنَ الأَعرابِ مَن يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً}. وقد قيلَ: {الأََعرابُ أَشَدُّ كَفراً وَنِفاقاً) نَسَخَها اللهُ تعالى بِقولِهِ: {وَمِنَ الأَعرابِ مَن يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِر}.