قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ} أنْفِقوا: صِيغَتُه صِيغَةُ الأَمْرِ والمُرادُ البَيانُ عَنِ التَمَكُّنِ مِنَ الطاعةِ والمعْصِيَةِ كقولِهِ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ ومَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ، ومثلُهُ أيضاً قولُه بعد ذلك: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} سورةُ التوبة، الآية: 54. وقيلَ معناهُ الخَبرُ الذي يَدْخُلُ فيه "إنْ" الجزاءِ، والمعنى: قُلْ لِهَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ الذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَسْتُرُوا نِفَاقَهُمْ بِإِنْفَاقِ المَالِ فِي الجِهَادِ وَغَيْرِهِ: مَهْمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَة طَائِعِينَ أَوْ مُكْرَهِينَ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَنْ يَتَقَبَّلَ مِنْكُمْ ذَلِكَ. فإنَّ هذا الأمرَ معناهُ الشَرْطُ والجزاءُ لأنَّ اللهَ سبحانَه لا يَأْمُرُهم بما لا يَتَقَبَّلُهُ منهم.
قولُهُ: {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ مُتَشَكِّكِينَ خَارِجِينَ عَنِ الإِيمَانِ، وَاللهُ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الأَعْمَالَ مِنَ المُؤْمِنِينَ المُخْلِصِينَ. ومثلُه قولُه بعد ذلك: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} سورةُ التوبة، الآية: 80. وإنَّما اخْتِيرَ وَصْفُ الفاسقينَ دُونَ الكافِرينَ لأنَّهم يُظْهِرونَ الإسْلامَ ويُبْطِنونَ الكُفْرَ، فكانوا كالمائلينَ عَنِ الإسْلامِ إلى الكُفْرِ. والمقصودُ مِنْ هذا تيئيسُهم مِنَ الانْتِفاعِ بما بَذَلوهُ مِْن أَمْوالهم، فلَعَلَّهم كانوا يَحْسَبونَ أَنَّ الإنْفاقَ في الغَزْوِ يَنْفَعُهم، وهذا مِنْ شَكِّهم في أَمْرِ الدينِ أساساً، فتَوَهموا أنهم يَعْمَلون أَعْمالاً قد يجدونها في الحَشْرِ على فَرَضِ ظُهورِ صِدْقِ الرَسُولِ. ويَبْقونَ على دِينِهم فلا يَتَعَرَّضونَ للمَهالِكِ في الغَزْوِ ولا للمَشاقِّ. إذ ورد أنهم قالوا للرسولِ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، نحنُ نَعينُكم على الغَزْوِ بمالِنا، لكنَّهم اعْتَذَروا عَنِ مُشارَكَةِ المسلمين في الجهادِ بِأَنْفُسِهم، وقدَّموا لذلك الأعذارَ الكاذبة. فقد أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ الطبريُّ عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قال: قالَ الجَدُّ بْنُ قَيْسٍ: إني إذا رَأَيْتُ النِساءَ لمْ أَصْبرْ حتى أُفْتَتَنَ، ولكنْ أُعينُكَ بمالي. قال: ففيهِ نَزَلَتْ: "قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم" قال: لِقَوْلِهِ أُعِينُكَ بمالي.
قولُه تَعالى: {أَنفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكم} أَنفِقُوا: للتَسْوِيَةِ أَيْ: أَنْفِقُوا أَوْ لا تُنْفِقوا، كما دَلَّتْ عَلَيْهِ "أَوْ" وهو في مَعنى الخَبَرِ الشَرْطِيِّ لأنَّهُ في قوَّةِ أَنْ يُقالَ: لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكم إنْ أَنْفَقْتُم طَوْعاً أَوْ أَنْفَقْتُم كَرْها، و "طَوْعاً أَوْ كَرْهاً" مَصْدَرانِ في مَوْضِعِ الحالِ من الضمير في "أَنفِقُوا"، أيْ: طائعين أَوْ كارهين. وجملة: "لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكم" جملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ في حَيِّزِ القَوْلِ.
وقوله: {إِنَّكُمْ} وما بعدَهُ جارٍ مَجْرى التَعْليلِ. لِنَفْيِ التَقَبُّلِ، ولِذلكَ وَقَعَتْ فيها "إنَّ" المُفيدةُ لمعنى فاءِ التَعليل.
قرأَ الجمهورُ: {كَرْهاً} بفتح الكافِ. وقرأَ الأَخَوانِ (حمزةُ والكسائيُّ) "كُرْهاً" بضمِّها وقد تَقَدَّمَ تَحقيقُ ذلك في سورةِ النساء.
وقال الشيخ أبو حيَّانَ الأندلُسيُّ هُنا: قرأَ الأعمشُ وابْنُ وَثَّابٍ: "كُرْهاً" بِضَمِّ الكافِ. وهذا يُوهِمُ أَنَّها لم تُقْرَأْ في السَبْعَةِ.
وقالَ الزَمخشريُّ: هُوْ أَمرٌ في معنى الخبرِ كَقولِهِ تعالى في سورة مريم: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً} الآية: 75. ومعناه: لن يُتَقبَّلَ مِنْكم أبداً: أَنْفَقْتُم طَوْعاً أَوْ كَرْهاً، ونحوُ ذلك قولُه تعالى: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} التوبة: 80. ومنه قولُ كثيِّرِ عَزَّةٍ:
أَسِيْئي بِنا أَوْ أَحْسِني لا مَلُومَةٌ ............... لدينا ولا مَقْلِيَّةٌ إنْ تَقَلَّتِ
أَيْ: لا نَلومُكِ أَحْسَنْتِ إِلَيْنا أَوْ أَسَأْتِ. وفي معناه قولُ جَعْفَرَ بْنِ محمَّدٍ الصادِقُ ـ رُضْوانُ اللهِ عَلَيْهِ:
أخوك الذي إنْ قُمْتَ بالسيفِ عامداً ..... لتضربَهُ لم يَسْتَغِشَّك في الودِّ
وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هذا أَمْرٌ في ضِمْنِهِ جَزاءٌ، وهذا مُسْتَمِرٌّ في كُلِّ أَمْرٍ مَعَهُ جَزاءٌ، والتَقْديرُ: إنْ تُنْفِقوا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكم، وأَمَّا إذا عَرِّيَ الأَمْرُ مِنَ الجَوابِ فليسَ يَصْحَبُهُ تَضَمُّنُ الشَرْطِ.
قالَ الشيخُ أبو حيّان: ويَقْدَحُ في هذا التَخْريجِ أَنَّ الأَمْرَ إذا كانَ فيهِ معنى الشَرْطِ كانَ الجَوابُ لَجَوابِ الشَرْطِ، فعَلى هذا يَقْتَضي أَنْ يَكونَ التَرْكيبُ: "لَنْ يُتَقَبَّلَ" بالفاءِ لأنَّ "لن" لا تَقَعُ جَواباً للشَرْطِ إلاَّ بالفاءِ فَكَذلِكَ ما ضُمِّنَ مَعناهُ، أَلا تَرى جَزْمَهُ الجَوابَ في نحوِ قولك: اقْصُدْ زَيْداً يُحْسِنْ إليكَ. وإنَّما أراد القاضي أَبو محمَّدٍ ابْنُ عطيَّةَ تَفسيرَ المَعنى، وإلاَّ فلا يَجْهَلُ مِثلَ هَذِهِ الواضِحاتِ. وأَيْضاً فلا يَلْزَمُ لأنْ يُعْطى الأَمرُ التَقْديريُّ حُكْمَ الشَيْءِ الظاهِرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.