يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
(23)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْر عَلَى الإِيمَانِ} هذا استئنافٌ ابْتِدائيٌّ لافْتِتاحِ غَرَضٍ آخَرَ وهُوَ تَقْريعُ المَنافِقينَ ومَنْ يُواليهم، ونهيٌ عَنْ مُوالاةِ الكافرين مهما كانت درجة قرابتهم وهذا الأمْرُ بالنهي يعُمُّ كلَّ فَرْدٍ مِن المُخاطَبين عن موالاةِ أيٍّ مِنَ المُشْرِكينَ لا عن موالاة طائفةٍ منهم، وهو مِنْ مُقابَلَةِ الجَمْعِ بالجَمْعِ المُوجبِ لانْقِسامِ الأفرادِ إلى الأفرادِ كما هو في قولِهِ عَزَّ وجَلَّ في سورة المائدة: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} الآية: 72. فإنَّه مَفْهومٌ مِنَ النَظْمِ دَلالةً لا عبارةً. ولذلك فقد افْتَتَحَ الخطابَ بقولِه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" إشْعاراً بِأَنَّ ما سَيُلْقى إلَيْهِم مِنَ وَصايا هوَ مِنْ مُقْتَضياتِ الإيمانِ وشِعارِهِ. وذلك بَعْدَ أَنْ أَعْلَنَ اللهُ تَعَالَى بَرَاءَتَهُ، وَبَرَاءَةَ رَسُولِهِ مِنَ المُشْرِكِينَ، وَآذَنهم بِنَبْذِ عُهُودِهِمْ، بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ تَعَالَى أنَّهُمْ لاَ عُهُودَ لَهُمْ، لأنهم لم يَرْعَوْها، عَزَّ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ المُسْلِمِينَ، وَتَبَرَّمَ مِنْهُ ضُعَفَاءُ الإِيمَانِ، وَكَانَ مَوْضِعَ الضَعْفِ نُصْرَةُ القَرَابَةِ وَالعَصَبِيّةِ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: إنَّ فَضْلَ الإِيمَانِ وَالهِجْرَةِ وَالجِهَادِ لاَ يَتَحَقَّقُ، وَلاَ يَكْتَمِلُ إلاَّ بِتَرْكِ وَلاَيَةِ الكَافِرِينَ، وَإِيثَارِ حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، عَلَى حُبِّ الوَلَدِ وَالوَالِدِ وَالأخِ وَالعَشِيرَةِ، فَنَهَى اللهُ المُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالاَةِ الذِينَ يَخْتَارُونَ الكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ. فدَلَّ ذلك على أَنَّ حُكْمَ اللهِ تَعالى يَغْلِبُ حُكْمَ القُرْبِ والنَسَبِ.
قولُهُ: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} تَوَعَّدَ مَنْ يَتَولاَّهُمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِالعِقَابِ الشَّدِيدِ، فِي هذِهِ الآيَةِ، وَفِي آيَاتٍ أُخْرَى، توَعَدَّ مَنْ يَتَولَّى الكُفَّارَ، وَلُوْ كَانُوا آباَءً أَوْ إِخْوَاناً، بالعذابِ المُهينِ وعدَّهم مِنَ الظَّالِمِينَ، وَكَثِيراً مَا عَبَّرَ اللهُ تَعَالَى عَنِ الكُفْرِ بِالظُلْمِ وَمَاثَلَ بَيْنَهُمَا. ودلَّ هذا على أَنَّ تَوَلي الكافِرِ تَعْظيمٌ، فلِذلكَ أَطْلَقَ تَعالى فيمَن يَفْعَلُ ذَلكَ أَنَّهُ ظالمٌ. وجاءَ في الكشَّافِ للزمخشريِّ عَنِ النبيِّ الكريم ـ عليْه أَفْضلُ الصلاةِ مِنَ اللهِ وأَكْمَلُ التَسْليمِ: ((لا يَطْعَمُ أَحدُكُم طَعْمَ الإيمانِ حتى يُحِبَّ في اللهِ أَبْعَدَ الناسِ مِنْهُ ويُبْغِضَ في اللهَ أَقْرَبَ الناسِ إليْهِ)). ورواهُ أَبو يَعْلى المَوْصِلِيُّ في مُسْنَدِهِ عن مُعاذِ بْنِ أَنَسٍ الجُهني مرفوعاً. وروى الإمامُ الطَبراني في مُعْجَمِهِ عن عمرو بْنِ الحَمِقِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ سِمِعَ رَسُولَ اللهَِ ـ صلّى اللهُ عليه وسلّم، يقول: ((لا يَجِدُ العبدُ صَريحَ الإيمان حتى يحِبَّ في اللهِ ويُبْغِضَ في اللهِ)). وأَخْرجَ أَيضاً أَنسٍ الجُهني عَنِ النَبيِّ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ((أَفْضَلُ الإيمانِ أَنْ تحِبَّ للهِ وتُبْغِضَ للهِ)). وروى البيهَقيُّ عن أَبي أُمامَةَ، عَنِ النبيِّ ـ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم: ((مَنْ أَحَبَّ للهِ وأَبْغَضَ للهِ، وأَعْطى للهِ ومَنَعَ للهِ فقدِ اسْتَكْمَلَ الإيمانَ)). وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ـ رضي اللهُ عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم: ((ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بهن حلاوَةَ الإيمانِ))، وذكرَ منها: ((أَنْ تُحِبَّ المرءَ لا تُحِبُّهُ إلاَّ للهِ)) رواهُ الشيخان، البُخاري ومُسلم. والأحاديثُ الواردةُ في هذا كثيرة.
وقدْ جاء في سببِ نُزولِ هذِه الآيةِ الكريمة أنَّه لمَّا أُمِروا بالهِجْرَةِ قال بعضٌ منهم: إنْ هاجرْنا قَطَعْنا آباءَنا وأَبْناءَنا وعَشيرَتَنا، وذَهَبَتْ تِجارتُنا، وهَلَكتْ أَمْوالُنا، وخَرِبَتْ ديارُنا، وبَقِينا ضائعين. فنَزَلَتْ فهاجَرُوا فجَعَلَ الرَجُلُ يَأْتيهِ ابْنُهُ، أَوْ أَبوهُ، أوْ أَخوهُ، أَوْ بَعْضُ أَقارِبِهِ، فلا يَلْتَفِتْ إلَيْهِ ولا يُنْزِلُهُ ولا يُنْفِقْ عليه، ثمَّ رُخِّصَ لهم في ذلك. وقيلَ: نَزَلَتْ في التِسْعَةِ الذين ارْتَدُّوا ولحِقُوا بِمَكَّةَ نهْياً عَنْ مُوالاتِهِم. وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ عَنْ مجاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: أُمِروا بالهِجْرَةِ فقالَ العباسُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ: أَنَا أَسْقي الحاجَّ. وقالَ طَلحَةُ أَخو بَني عَبدِ الدارِ، أَنَا أَحْجُبُ الكَعْبَةَ فلا نُهاجِرُ، فأُنْزِلَتْ: "لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإِيمان". ومعنى اسْتَحَبًّوا الكُفْرَ على الإيمانِ، أيْ: اخْتاروهُ عليهِ.
قولُه تعالى: {لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ} أولياء: مَفْعولٌ ثانٍ مَنْصوبٌ بِ "تتَّخِذوا"، والمفعولُ الأَوَّلُ: "آباءَكم" و "إخوانَكم" عطفٌ عليه. وجملة "إن استحبوا" مُسْتَأْنَفَةٌ، وجَوابُ الشَرْطِ محذوفٌ دَلَّ عليه ما قبلَهُ. و "اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ} أيْ: أحبُّوهُ حُبّاً مُتَمَكِّناً. فالسينُ والتاءُ للتَأْكيدِ، مِثلُ ما في اسْتَقامَ واسْتَبْشَرَ.
قولُهُ: {وَمَنْ يَتَوَلَّهم مِنْكم} هذا الجارُّ والمجرورُ "منكم" متعلِّقٌ بمحذوفِ حالٍ مِنْ فاعِلِ "يتولهَّم"، وجملة "ومن يتولهم" معطوفة على جوابِ النداءِ لا محَلَّ لها.
وقوله: {فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} أُتِيَ باسْمِ الإشارَةِ "أولئك" لزيادة تمييزِهم، و "هم الظالمون" هذِهِ الصِيغَةُ تُفيد الحَصْرَ للمُبالَغَةِ، بمعنى أَنَّ ظُلْمَ غيرِهم بجانب ظلمهم لا شيءَ لِعَظَمَةِ ظُلْمِهم. ويجوزُ أنَ يَكونَ "هُمُ الظَّالِمُونَ" عائداً إلى ما عاد إليهِ ضميرُ النَصْبِ في قولِهِ: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ} أَيْ إلى الآباءِ والإخْوانِ الذين اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ على الإيمان.