يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
(64)
قولُهُ ـ تعالى ذِكْرُهُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} يُحَرِّض اللهُ تَعَالَى النَّبِيَّ ـ صلّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، وَالمُؤْمِنِينَ مَعَهُ عَلَى قِتَالِ المشركينَ وَمُنَاجَزَةِ الأَعْدَاءِ، وَيُخْبِرُهُمْ بِأَنَّهُ حَسْبُهُمْ وَكَافِيهِمْ وَمُؤَيِّدُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وأنَّهُ مَعَهم لذلك فهمُ المُنْتَصِرونَ، وَإِنْ قَلَّ عَدَدُهم وعُدَّتُهم، وكَثُرَتْ أَعْدَادُ أعدائهم وعُدَدُهُمْ، وَتَتَابَعَتْ إِمْدَادَاتُهُمْ. وبناءً عليه فالعزَّةُ لا تُلْتَمَس إلاَّ مِنَ اللهِ تعالى.
ويمكن أَنْ يَكونَ المَعنى: يَكْفيكَ اللهُ فيما لا تَسْتَطيعُ تحقيقَهُ باتخاذ الأسباب. ويَكفيكَ المؤمنونُ فيما يُتَّخَذُ مِنْ أَسْبابِ التي هي الإيمانُ والطاعةُ والاتِّباعُ، فلا بُدَّ عندها أَنْ يَكْفِيَهُمُ اللهُ ما أَهمَّهم مِنْ أُمورِ الدينِ والدُنْيا، وإنَّما تَتَخَلَّفُ الكِفايَةُ بِتَخَلُّفِ شَرْطِها.
وليسَ في الآيةُ تَكريرٌ لما جاء في الآيةِ السابقةِ لها، فإنَّه قالَ هناك: {وإِنْ يُريدوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فإنَّ حَسْبَكَ اللهُ} وهذِهِ كِفايَةُ خاصَّةٌ بالخِداعِ. أمَّا هنا: فقولُه: "يا أَيُّها النَبيُّ حَسْبُكَ اللهُ" أَرادَ التَعْميمَ، أَيْ: حَسْبُكَ اللهُ في كُلِّ حالٍ مِنْ أحوالِكَ، وكلِّ شأنٍ من شؤونك.
والنداءُ ب "يا أيها النبي" إنَّما يَأْتي في الأَحْداثِ حينَ يَكونُ الأَمْرُ مُتَعَلِّقاً بالأُسْوَةِ السُلوكيَّةِ؛ أَمَّا البَلاغُ حين يكونُ الأَمْرُ مُتَعَلِّقاً بِتَنْزيلِ تَشْريعٍ، فيَأتي النداءُ ب "الرسولِ" كما هو قولُهُ تعالى في سورةِ المائدة: {يا أيُّها الرسول بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} الآية: 67. ذلك لأنَّ الرسولَ جاء مُبَلِّغاً للمِنْهَجِ عَنِ اللهِ، وهو يَسيرُ وِفْقَ هذا المِنْهَجِ كَأُسْوَةٍ سُلُوكِيَّةٍ.
ومما جاء في سبب نزولِ هذه الآية المباركة ما أَخْرجَ البَزَّارُ عَنِ ابْنِ عبّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما قال: لمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ المُشركون: قَدِ انْتَصَفَ القومُ مِنَّا اليَوْمَ، وأَنْزَلَ اللهُ: "يا أيُّها النَبيُّ حَسْبُكَ اللهُ ومَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المؤمنين".
وأَخْرَجَ الطَبرانيُّ، وأَبو الشَيْخِ، وابْنُ مَرْدَويْهِ، عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ أيضاً قال: لمَّا أَسْلَمَ مَعَ النِبيِّ ـ صَلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، تَسْعَةٌ وثَلاثونُ رَجُلاً وامْرأَةٍ، ثمَّ إنَّ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَسْلَمَ، فصاروا أَربعين، فنَزَلَ: "يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين".
وأَخْرَجَ ابْنُ المُنذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وابْنُ مردويْه، عنْ سَعيدِ بْنِ جُبيرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه، قال: لمّا أَسْلَمَ مَعَ النَبيَ ـ صَلى الله عليه وسلَّم، ثلاثةٌ وثلاثونَ رَجُلاً وسِتُّ نِسْوَةٍ، ثمَّ أَسْلَمَ مَعَ النبيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسَلَّمَ، عُمَرُ نَزَلَتْ "يا أيها النبي حسبك الله . . ." الآية.
وأَخْرَجَ أَبو الشيخِ، عَنْ سَعيدِ بْنِ المُسَيِّبِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: لمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنْزَلَ اللهُ في إسْلامِهِ: "يا أيها النبي حسبك الله".
وأَخْرَجَ أَبو محمَّدٍ اسْماعيلُ بْنُ عَلِيٍّ الحطبيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: أَسْلَمْتُ رابعَ أَرْبَعينَ، فَنَزَلَتْ: "يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين".
وقال بعضُ أَهْلَِ العِلْمِ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في الأَنْصارِ، فقد أَخْرَجَ ابْنُ إسْحَقَ، وابْنُ أبي حاتم، عَنِ الزُهْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في قولِه تعالى: "يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين" قال: فقال: نَزَلَتْ في الأَنْصارِ.
ومنهم منْ جعلها عامَّةً في كلِّ مَن آمنَ باللهِ تعالى مَعَ الرَسُولِ واتَّبع رِضوانَه، فقد أَخرَجَ البُخارِيُّ في تاريخِهِ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشيخِ عَنِ الإمامِ الشَعبيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في قولِهِ تعالى: "يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين" قال: حَسْبُكَ اللهُ، وحَسْبُكَ مَنِ اتَّبَعكَ.
قولُهُ تَعالى: {يا أيُّها النبيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعكَ مِنَ المؤْمِنينَ} صدَّرَ الجملةَ بحرفيْ نِداءٍ (يا و أيّها) للتَنْبيهِ على الاعْتِناءِ بمَضْمُونِها الآية. وذَكَرَهُ ـ صلى اللهُ عليه وسلّمَ، بِالنُبُوَّةِ إشعاراً بِعِلِّيَّةِ الحُكم. و "مَنِ" مرفوعُ المحلِّ عَطْفاً على الجلالَةِ، أي: يَكْفيكَ اللهُ والمؤمنون، وهو الظاهر، وبهذا فسَّر الحسَنُ البصريُّ ـ رضي اللهُ عنه، وجماعة من المفسرين، أو مجرورةُ المحلِّ عَطْفاً على الكافِ في "حَسْبُك" وبه فسَّرَ فَسَّرَ الشعبيُّ وابْنُ زَيْدٍ، قالا: معناه: وحَسْبُ مَنِ اتَّبَعَكَ. وهو رأيُ الكوفيين. أَوْ أنَّ محلَّهُ نَصْبٌ على المعيَّة، فالواوُ بمعنى مع، وما بعده منصوبٌ. تقول: حَسْبُك وزيداً درهمٌ، ولا تَجُرُّ؛ لأنَّ عطفَ الظاهرِ المجرورِ على المُكْنى ممتنعٌ. قال لبيد:
إذا كانتِ الهيجاءُ وانشَقَّتِ العَصا .... فَحَسْبُك والضحاكُ سيفٌ مُهَنَّدُ
والمعنى: كفاك وكفى تُبَّاعَك المؤمنين اللهُ ناصراً، قالَه الزمخشريُّ، وردَّه الشيخ أبو حيّان الأندلسيُّ فقال: وهذا مخالف كلامَ سيبويه فإنَّهُ قالَ: (حَسْبُك وزيداً درهمٌ) لَمَّا كان فيه معنى كفاك، وقَبُح أَنْ يَحْمِلوهُ على المُضْمَرِ نَوَوا الفِعَلَ كأنَّهُ قال: بحسبك ويُحْسِب أَخاك دِرْهَمٌ، ثمَّ قال: وفي ذلك الفِعْلِ المُضْمَرِ ضَميرٌ يَعودُ على الدِرْهَمِ، و النيةُ بالدِرْهَمِ التقديمُ، فيكون مِنْ عطفِ الجُمَلِ. ولا يجوزُ أنْ يَكونَ مِنْ بابِ الإِعْمالِ، لأنَّ طَلَبَ المُبْتَدَأِ للخَبرِ وعَمَلَه فيه ليس مِنْ قَبيلِ طَلَبِ الفِعْلِ أَوْ ما جَرى مَجْراهُ ولا عَمَلَهَ فلا يُتَوَّهم ذلك فيه. وقد سَبَقَ الزَمَخْشَرِيَّ إلى كونِهِ مَفعولاً مَعَهُ الزَجَّاجُ، إلاَّ أَنَّهُ جَعَل "حسب" اسْمَ فعلٍ فإنَّه قالَ: حَسْبُ: اسْمُ فِعْلٍ، والكافُ نَصْبٌ، والواوُ بمعنى "مع" وعلى هذا يَكونُ "اللهُ" فاعلاً، وعلى هذا التقديرِ يجوزُ في "مَنْ" أَنْ يَكونَ مَعْطوفاً على الكافِ؛ لأنَّها مَفعولٌ باسْمِ الفِعْلِ لا مجرورةٌ؛ لأنَّ اسْمَ الفِعْلِ لا يُضافُ. ثم قالَ الشيخ أبو حيّانَ: إلاّ أَنَّ مَذْهَبَ الزَجَّاجِ خَطأٌ لَدُخولِ العواملِ على "حَسْب" نحو: بحَسْبك درهَمٌ، وقالَ تَعالى: {فَإِنَّ حَسْبَكَ الله} سورةُ الأنفالِ، الآية: 62، ولم يَثْبُتْ في مَوْضِعٍ كونُه اسْمَ فِعلٍ فيُحْمل هذا عليِه. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ بعدما حكى عَنِ الشَعْبيِّ وابْنِ زَيْدٍ ما تقَدَّمَ عَنْهُما مِنَ المعنى: فَ "مَنْ" في هذا التأويلِ في محلِّ نَصْبٍ عَطْفاً على مَوْضِعِ الكافِ؛ وهو قولُ الفراءِ أيضاً، لأنَّ موضِعَها نَصْبٌ على المعنى بِ "يَكْفيكَ" الذي سَدَّتْ "حَسْبُكَ" مَسَدَّهُ. وقال الشيخ: هذا ليس بجيِّدٍ؛ لأنَّ "حَسْبك" ليس ممَّا تَكونُ الكافُ فيه في مَوْضِعِ نَصْبٍ بَلْ هذِهِ إضافةٌ صحيحةٌ ليست مِنْ نَصْب، و "حسبك" مُبتدأٌ مُضافٌ إلى الضَميرِ، وليس مَصْدَراً ولا اسْمَ فاعلٍ، إلاَّ إنْ قيلَ إنَّه عَطْفٌ على التَوَهُّمِ، كأنَّهُ تَوَهَّم أَنَّهُ قيلَ: يَكفيكَ اللهُ أَوْ كفاكَ اللهُ، لكنَّ العطفَ على التوهُّم لا يَنْقاسُ، والذي يَنْبَغي أَنْ يُحمَلَ عليه كلامُ الشَعْبِيِّ وابْنِ زَيْدٍ أَنْ تَكونَ "مَنْ" مجرورةً ب "حَسْب" محذوفةً لدلالةِ "حَسْبك" عليها كقولِ أبي دُؤادٍ الإياديِّ:
أكلَّ امرئ تحسبين أمرأً ........................ ونارٍ توقَّدُ بالليل ناراً
أيْ: وكلَّ نارٍ، فلا يكونُ من العطف على الضمير المجرور. قال ابن عطية: وهذا الوجهُ مِنْ حَذْفِ المضاف مكروهٌ، بابُه ضرورةُ الشعر. قال الشيخ: وليس بمكروهٍ ولا ضرورة، بل أجازه سيبويه وخَرَّج عليه البيتَ وغيرَه من الكلام، وقولُه: بل إضافةٌ صحيحة ليست من نصب فيه نظرٌ لأنَّ النَحْوِيّين على أنَّ إضافةَ "حسب" وأخواتِها إضافةٌ غيرُ محضة، وعَلَّلوا ذلك بأنَّها في قوةِ اسمِ فاعلٍ ناصبٍ لمفعولٍ به، فإن "حَسْبك" بمعنى كافيك وغيرك بمعنى مُغايرك، وقيد الأوابد بمعنى مقيِّدها قالوا: ويدلُّ على ذلك أنها تُوصَفُ بها النَكِراتُ فقال: مررت برجلٍ حَسْبِك من رجلٍ. وجَوَّز أبو البقاء فيه الرفعَ من ثلاثة أوجه أحدها: أنه نسقٌ على الجلالةِ كما تقدَّم، إلا أنه قال: فيكون خبراً آخر كقولِك: القائمان زيد وعمرو، ولم يُثَنِّ "حَسْبك" لأنه مصدرٌ. وقال قوم: هذا ضعيفٌ؛ لأن الواوَ للجمع ولا يَحْسُن ههنا، كما لا يَحْسُن في قولهم: ما شاء الله وشئت. و "ثم" هنا أولى، قلت: يعني أنه من طريق الأدب لا يؤتى بالواو التي تقتضي الجمع، بل تأتي ب "ثم" التي تقتضي التراخي، والحديثُ دالٌّ على ذلك. الثاني: أن يكونَ خبرَ مبتدأ محذوف تقديرُه: وحسب مَنْ اتبعك. والثالث: هو مبتدأ والخبر محذوف تقديره: ومَن اتبعك كذلك أي: حسبهم الله.
قولُهُ: {مِنَ المؤمنين} جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بحالٍ مِنَ الكافِ في "اتبعك". ويُحْتَمَلُ أنْ تكون "مِنَ" بيانيَّةً وأَنْ تكون للتبعيضِ، وذلك للاختلافِ في المُرادِ بالاسْمِ المَوصولِ.
قرأ عامَّةُ القرّاءْ: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ} وقرأَ الشَعْبيُّ: "ومَنْ أَتْبَعَك" بِزِنَةِ أَكْرَمَكَ" وسُكونِ نون "مِنْ".