كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ
(52)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} متابعةٌ للخطابِ السابِقِ، فهَؤُلاَءِ المُشْرِكُونَ، إِنَّمَا يَفْعَلُونَ مَا فَعَلَهُ قَبْلَهُمْ قَوْمُ فِرْعَوْنَ، فالدَأْبُ العادةُ المُسْتَمِرَّةُ، ومِنْهُ قولُ الشاعر خِراشِ ْبنِ زُهيرٍ العامرِيِّ:
وما زال ذاك الدأب حتى تخاذلت ...... هوازن وارفضت سليم وعامر
ومنه كذلك قولُ امرئ القيس:
كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلَها ............. وجارَتِها أُمِّ الرَّبابِ بِمَأْسَلِ
وهو مأخوذٌ مِنْ دَأَبَ عَلى العَمَلِ إذا لَزِمَهُ، ومِنْهُ قولُهُ ـ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، لِصاحِبِ الجَمَلِ الذي هَشَّ إليْهِ وأَقْبَلَ نَحْوَهُ وقدْ ذَلَّ ودَمَعَتْ عَيْناهُ: ((إنَّهُ شَكا إليّ أنَّكَ تُجيعُهُ وتُدْئِبُه)). أَخْرَجَ هذا الحديثَ الإمامُ أَحمد في مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللهِِ بْنِ جَعْفَر ـ رضي اللهُ عنهم جميعاً، ونَصُّ الحديث: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَاتَ يَوْمٍ خَلْفَهُ فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لا أُخْبِرُ بِهِ أَحَدًا أَبَدًا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَحَبُّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ فِي حَاجَتِهِ هَدَفٌ أَوْ حَائِشُ نَخْلٍ، فَدَخَلَ يَوْمًا حَائِطًا مِنْ حِيطَانِ الأَنْصَارِ، فَإِذَا جَمَلٌ قَدْ أَتَاهُ فَجَرْجَرَ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، قَالَ بَهْزٌ وَعَفَّانُ فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ فَمَسَحَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَرَاتَهُ وَذِفْرَاهُ، فَسَكَنَ. فَقَالَ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ: ((مَنْ صَاحِبُ الْجَمَلِ؟)) فَجَاءَ فَتًى مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ: هُوَ لِي يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: ((أَمَا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَهَا اللهُ، إِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُه)). مُسْنَدُ الصَحابة في الكُتُبِ التِسْعَةِ: (47/324). قالَ شُعيبُ الأرنؤوط: هو صحيحٌ على شرطِ مسلم. والمُرادُ من قولِه: "كَدَأْبِ آلِ فرعونَ" أَيْ: كَشَأْنِ آلِ فِرْعَونَ الذي استمروا عليه، ممَّا فَعَلُوا وفُعِلَ بهم مِنْ أَخْذٍ. فهُمْ المشهورون بِقَباحَةِ الأَعْمالِ وفَظاعَةِ العَذابِ والنَكالِ. وعن جابرِ بْنِ زيدٍ، وعامرٍ الشَعْبيِّ، ومجاهد، وعطاء ـ رضي اللهُ عنهم جميعاً: أَنَّ مَعنى "كدأبِ آل فرعون": كَسَنَنِ آلِ فِرْعَوْن.
قولُهُ: {كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ} تفسير لدأبهم والمعنى، أنَّهم استمروا بالكفر والعصيان، واستمرَّ عليهم العذاب والهوان، وسنَفْعَلُ بِهِؤلاءِ مَا كَانَ مِنْ دَأْبِنَا وَعَادَتِنَا أَنْ نَفْعَلَهُ بِأَمْثَالِهِمْ مِنَ المُكَذِّبِينَ الذِينَ سَبَقُوهُمْ، كقوم فرعون وغيرهم من الأمم الكافرة، فَقَدْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ.
قولُهُ: {إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وَاللهُ قويٌّ لا حدودَ لقوَّتِ، قادرٌ على ما يشاءُ فإذا كُفِرَ بِهِ بعد إرسالِهِ الرُسُلَ يبيّنونَ للخلقِ ويدلونهم ويرشدونهم إلى الطريق القويم، فإنَّه يعاقبُ المصرَّ على كفره ومعصيته بأشَدِّ العِقَابِ وهو القويُّ على ذلك والقادرُ عليه.
قوله تعالى: {كدأب} خبرٌ عَنْ مُضْمَرٍ، أَيْ: دَأْبُ هؤلاءِ مِثْلُ دَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ، وهو عَمَلُهُم وطَريقَتُهم، التي دَأَبوا فيها، أَي: داموا عليها.
قولُهُ: {كفروا بآيات اللهِ} جملةٌ تَفْسيريَّةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ، أَوْ هِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافاً نَحْويّاً أوْ بَيانِيّاً، أَوْ هِيَ في مَحَلٍّ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ.
قولُهُ: {فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ} الفاءُ لِبيانِ كَوْنِ الدَأْبِ مِنْ لَوَازِمِ جِناياتِهم وتَبِعاتِها المُتَفَرِّعَةِ عَلَيْها. وهذِهِ الجملةُ هِيَ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ "كَفَروا بآياتِ اللهِ".
قولُهُ: {إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} جملةٌ اعْتِراضِيَّةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمونِ ما قَبْلَها مِنَ الأَخْذِ.