وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ
(50)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} هذا خِطابٌ للنبيِّ ـ صَلى الله عليه وسَلَّمَ، ويَشمَلَ كُلَّ مَنْ هو أَهْلٌ للخِطابِ، والمعنى: لَوْ أنَّكَ عَايَنْتَ الكُفَّارَ حِينَ تَأْتِيهم المَلاَئِكَةُ لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، إِذاً لَرَأَيْتَ أَمْراً فظيعاً عَظِيماً، وعايَنْتَ مَنْظَراً مخيفاً مرعباً، وشاهدتَ ما تَقْشَعِرُّ الجلودُ مِنْ هَوْلِهِ. والمُرادُ بالذين كَفروا: كُلُّ كافِرٍ، وقيلَ المُرادُ هنا قَتْلى غَزْوَةِ بَدْرٍ مِنَ المُشْرِكينَ لأنَّ الآية وَرَدَتْ في سِياقِ الحديثِ عَنْ غزوةِ بدرٍ وأَحداثِها. لكنْ وإنْ كانَ سَبَبُ هذا السِياقِ غَزْوَةُ بَدْرٍ، فإنَّه من المعلوم أنَّ ذلك العذابَ هو في حَقِّ كُلِّ كافرٍ بآياتٍ وأَحاديثَ كَثيرةٍ. ولم يُخَصِّصْهُ اللهُ هنا لأَهْلِ بَدْرٍ حيثُ قالَ: "وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ..". فالآيةُ تشمَلُهم وغيرَهم من المشركين الذين يموتونَ على الشرك باللهِ تعالى.
قولُهُ: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} إِذْ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ إِذَا أَقْدَمُوا، وَيَضْرِبُونَ أَدْبَارَهُمْ إذا وَلَّوا، وذَكَرَ الوُجوهَ والأَدْبارَ للتَعميمِ، أيْ: يَضْرِبونَ جميعَ أَجْسادِهم. فالأَدْبارُ: جمعُ دُبُرٍ، وهو ما دَبُرَ مِنَ الإنْسانِ. كما أنَّ الوُجوهَ كِنايةٌ عَمَّا أَقْبَلَ مِنَه، وهو كما تقولُِ العَرَبُ: ضَرَبْتُهُ على الظَهْرِ والبَطْنِ، كِنايةً عَمَّا أَقْبَلَ وما أَدْبَرَ، أيْ ضَرَبْتُهُ في جميعِ جَسَدِهِ. ودُبُرُ كلِّ شيءٍ ودُبْرُهُ: آخرُهُ ونهايتُهُ. قال الكُميْتُ:
أَعهدَكَ من أولَى الشَّبيبَةِ تطْلُبُ ......... على دُبُرٍ هيهات شَأْوٌ مُغَرِّبُ
وقولُهُ تعالى في سورة ق: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْه وأَدْبارَ السُّجودِ} أي: أَواخِرَ الصّلواتِ. وإدبارُ النجوم غيابُها، قالَ في سُورةِ الطُورِ: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُوم} الآية: 49. أي: وقتَ غِيابها، وإدبارُ الليلِ ذَهابُهُ وتوليه وانقشاعُ ظُلمتِه. قال تعالى في سورة المدثّر: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَر} الآية: 33. وقالََ جمُهُورُ المُفَسِّرين: يُريدُ بقولِه: "أدبارهم" أَسْتاهَهَم، ولكنَّ اللهََ كَريمٌ فَكَنَّى عنها بالأدبارِ ولم يُصَرِّحْ. وقالَ ابْنُ عبَّاسٍ: أَرادَ ظُهورَهُم وما أَدْبَرَ مِنْهم، ومَعنى هذا أَنَّ المَلائكةَ كانتْ تَضْرِبُ وُجوهَهم في حالِ الإقْبالِ، وتَلْحَقُهم فَتَضْرِبُ أَدْبارَهُم في حالِ الإدْبارِ. وروَى الحَسَنُ أَنَّ رَجُلاً قالَ: يا رَسُولَ اللهِ رَأَيتُ في ظَهْرِ أَبي جَهْلٍ مِثْلَ الشِراكِ، فقالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهَِ وسلَّمَ: ((ذَلِكَ ضَرْبُ الملائكَةِ))، وقد عَبَّرَ بِجَميعِ الملائكَةِ ومَلَكُ الموتِ واحِدٌ، لأنَّ لِمَلَكِ الموتِ أَعْوانٌ مِنَ المَلائِكَةِ على ذَلكَ، فإنَّهم يَضْرِبونَ ما أَقْبَلَ مِنْ هؤلاءِ الكَفَرَةَ وما أَدْبَرَ، لإِعراضِهم عَنِ الحَقِّ، وإيثارِهِمْ الغيَّ على الرُشْدِ.
قولُهُ: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} وَيَقُولُونَ لَهُمْ "ذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ"، و"الذوق" مُسْتَعْمَلٌ هنا في مُطْلَقِ الإحساسِ، وإضافةُ العَذابِ إلى الحريقِ: مِنْ إضافَةِ الجِنْسِ إلى نَوْعِهِ، لِبيانِ النَوْعِ، أَيْ: عَذاباً هُوَ الحريقُ، فهِيَ إِضافةٌ بَيانِيَةٌ. والمُرادُ بالحَريقِ جَهَنَّمُ، فَلَعَلَّ اللهَ عَجَّلَ بأَرْواحِ هَؤلاءِ المُشْرِكينَ إلى النارِ قَبْلَ يَوْمِ الحِسابِ. وذلك العذابُ هُوَ بِسَبَبِ كُفْرِهمْ وَسُوءِ أَعْمَالِهمْ. وقيلَ كانوا يَقولون للكُفَّارِ حينئذٍ هذا اللفظَ فحَذَفَ يَقولونَ اخْتِصاراً. وقيلَ معناهُ: وحالهم يومَ القيامَةِ أَنْ يُقالَ لهم هذا. وَتَشْمَلُ هذِهِ العُقوبَةُ جميعَ الكافرينَ أَيْضاً، حَالَ مُوَافَاةِ المَلاَئِكَةِ لهم وَهُمْ عَلَى فِرَاشِ المَوْتِ لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، وَنُفُوسُهُمْ تَرْفُضُ الخُرُوجَ، لِما تَعْلَمُهُ مِمَّا ارْتَكَبَتْهُ مِنْ شُرورٍ وَآثِام فِي الدُّنْيا، ولِما تَعْلَمُهُ مِمَّا يَنْتَظِرُهَا مِنْ عَذَابِ اللهِ الشَّدِيدِ فِي الآخِرَةِ، كَمَا جَاءَ فِي سورة الأَنْعامِ: {وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون فِي غَمَرَاتِ الموت والملائكة باسطوا أَيْدِيهِمْ، أَخْرِجوا أَنْفُسَكُمُ} الآية: 93.
قولُهُ تَعالى: {ولو ترى} المُضارِعُ هُنا بمعنى الماضي لأنَّ "لَوْ" الامتناعية تَرُدُّ المُضارِعَ ماضِياً، كما أَنَّ إِنْ تَرُدُّ الماضيَ مُضارِعاً، أَيْ: ولو رَأَيْتَ "إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكةُ" .. الخ لرَأَيْتَ أَمْراً فَظيعاً، ولا بُدَّ مِنْ حملِ مَعنى المُضِيِّ هُنا عَلى الفَرَضِ والتَقْديرِ، ولَيْسَ المعنى على حقيقةِ المُضِيِّ، و "إذ" ظَرْفُ ل "ترى" والمَفعولُ محذوفٌ، أَيْ: ولَوْ تَرَى الكَفَرَةَ، أَوْ حالَهُمْ حِينَئِذٍ، و "الملائكة" فاعلُ "يتوفى"، والموصولُ "الذين" مفعولُهُ. وقد قُدِّمَ المَفعولُ للاهْتِمامِ بِهِ، ولمْ يُؤَنَّثِ الفِعْلُ لأَنَّ الفاعلَ غَيرُ حَقيقيِّ التَأْنيثِ، وقد حَسَّنَ ذَلِكَ الفَصْلُ بَيْنَهُما.
قوله: {وَذُوقُواْ} مَنْصوبٌ بإضْمارِ قَوْلِ الملائكةِ، أَيْ: يَضْرِبونَهم ويَقولونَ لهم: "ذوقوا". وقيلَ: الواوُ في "يَضْربون" للمؤمنين، أَيْ: يَضْربونَهُم حَالَ القتالِ، وحالَ تَوَفَّى أَرواحَِهُمُ المَلائكةُ. وجملة "يضربون" حالٌ مِنَ "الملائكة"، وجوابُ الشَرْطِ محذوفٌ تقديرُهُ: "لرأيت أمرًا عظيمًا".
وجملة: "وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ" مَعطوفَةٌ على جملةِ: "يَضْرِبُونَ" بِتَقْديرِ القَوْلِ، فهي في محلِّ نصبٍ بالقولِ، لأنَّ هذِهِ الجُمْلَةَ لا مَوْقِعَ لها مَعَ التي قَبْلَها، إلاَّ أَنْ تَكونَ مِنْ قولِ الملائكَةِ، أَيْ: ويَقولونَ: "ذوقوا عذابَ الحريق".
قَرأَ الجمهورُ {يَتَوفّى} بياءِ الغَيْبَةِ، والأظهرُ فيه أنها لموافَقةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الفاعلَ هو "الملائكة" وإنما ذُكِّر للفصْلِ؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ. أو أنَّ الفاعلَ ضَميرُ اللهِ تَعالى لِتَقَدُّم ذِكْرِه، و "الملائكةُ" مُبْتَدَأٌ وجملة "يَضْربون" خَبرُهُ. وهذِه الجملةِ حينئذٍ إمّا أَنَّها حالٌ مِنَ المَفعولِ. أو هي استئنافيَّةٌ جواباً لسؤالٍ مُقَدَّرٍ، وعلى هذا فيُوقَفُ على "الذين كفروا" بخلافِ الوَجهينِ قَبْلَهُ. وضَعَّفَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَجْهَ الحالِ بِعَدَمِ الواوِ، ولَيْسَ بِضَعيفٍ لِكَثْرَةِ مَجيءِ الجُمْلَةِ الحاليَّةِ مُشْتَمِلَةً على ضَميرِ ذي الحالِ خاليةً مِنْ واوٍ نَظْماً ونَثْراً. وعلى كونِ "الملائكة" فاعلاً يَكونُ "يَضْربون" جملةً حاليَّةً سَواءً قُرِئَ بالتَأْنيثِ أَمْ بالتَذكيرِ. وجَوابُ "لو" محذوفٌ للدَلالةِ عَلَيْه، أَيْ: لَرَأَيْتَ أَمْراً عَظيماً، وقد تقدَّم. وقَرَأَ ابْنُ عامرٍ والأَعرَجُ "تتوفَّى" بتاءِ التأنيثِ في "تَتوفَّى" لِتأْنيثِ الجماعةِ.